القنبلة الرهيبة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995
كل خروج على
مألوف الحياة وما تراضى عليه البشر من أعراف وتقاليد ونظم اجتماعية مستقرة، هو في
النهاية مغامرة محفوفة بالمخاطر، ولابد أن تكون تبعاتها ثقيلة على من يقدم عليها !.
عبد الوهاب
مطاوع
هذه هي المرة
الأولى التي أكتب فيها إلى بريد الجمعة، وما كنت أظن أنه ستواتیني الشجاعة ذات يوم
لأن أكتب إليه .. وقد دفعني إلى ذلك ما قرأته في رسالة العمر الضائع للأم التي
تشكو من ابنها الذي أصر على أن يقيم حفل زفافه وهي مازالت في مرحلة النقاهة إثر
إجراء جراحة خطيرة لها.
فأنا أم
جامعية لثلاث بنات رائعات علما وخلقا وجمالا، وزوجة لرجل ناجح متدين، ونحن من
عائلة محترمة، بمعنى أن كل أفرادها متعلمون ونعيش في مستوى فوق المتوسط من الناحية
المادية، وقد تقدم لإحدى بناتی شاب ممتاز في كل شيء، إلا أن أسرته تقل عن أسرتنا في المستوى المادي
والاجتماعي.
ولأنني أم
لبنات فإني لم أتوقف أمام ذلك كثيرا، وأتممنا الخطبة، ثم عقدنا القران على أن يتم
الزفاف بعد عام آخر.
ومضت الأمور
على نحو جميل، وأهل العريس في منتهى الأدب معنا، بل والخجل أيضا من الفارق
الاجتماعي والاقتصادي بين أسرتينا، حتى أننا كنا نجتهد أنا وبناتي وزوجي لإزالة حرجهم
وارتباكهم حين ندعوهم للعشاء أو الغداء.
ثم حدث فجأة
ما قلب حیاتی رأسا على عقب، فلقد ألقت علي ابنتي قنبلة رهيبة حين اعترفت لي بأنها
قد أخطأت مع خطيبها وفقدت عذريتها، ولا تدري ماذا تفعل، وتستنجد بي لكي أتصرف،
ومهما كتبت لك عن حالتي حين عرفت ذلك فلن تستطيع تخيلها .. فقد أصبحت فجأة
كالمجنونة، وتزاحمت الأفكار السوداء على رأسي فحرمتني من النوم نهائيا.
صحيح أنني
تأكدت من أنها ليست حاملا.. لكن ماذا لو أنه مات الآن فجأة والجميع يعرفون أنها لم
تزف إليه بعد؟ وماذا لو تركها معلقة لا هي زوجة ولا هي مطلقة ؟ وماذا ... وماذا
... أسئلة وخواطر مزعجة حتى أصبح كل أملي في الحياة هو أن تزف إلى زوجها وتقضي في
بيته ولو ليلة واحدة ، وبعدها فليفعل الله بها ما يشاء.
وصارحت أباها
بما حدث ففزع فزعا شديدا، لكنه حاول تهدئتی قدر استطاعته، واقترح علي أن يتم الزفاف بعد عودة والد العريس
من البلد الذي يعمل به بعد شهرين، لكني فقدت صوابي .. شهران؟ ومن يضمن لي ألا يموت
العريس خلال هذه الفترة ونتعرض للقيل والقال عند زواجها من آخر؟!
وانتقل الرعب
من قلبي إلى قلب ابنتي، فتغير حالها من الفتاة التي كانت معتزة بنفسها وكثيرا ما
كانت تتدلل على خطيبها وتصر على رأيها حتى يوافقها عليه فتشعر بأهميتها لديه
وأنوثتها معه ، تغيرت هذه الفتاة تماما فأصبحت نظراتها لخطيبها ذليلة وتحاول
استرضاءه بشتى الوسائل، بل لقد أصبحت عبدة له، خوفا من أن يتركها أو يتخلى عنها.
وصارحت أنا
خطيبها بما علمت وهاجمته بعنف، وتحملني هو بصبر، وأمرته بقسوة بأن يكون الزفاف بعد
عشرة أيام لا غير ، وانفجرت فيه حين حاول إقناعي بالانتظار شهرين حتى عودة أبيه ،
فانطلقت ابنتي فجأة في بكاء هستيري وتوسلت إليه في ذل كاد يقتلني أن يستجيب
لرغبتي، ولولا حبه العظيم لها ما تحملني ولا تحملها، وفي النهاية لم يجد أمامه سوى
الموافقة مع حيرته الشديدة ، إذ كيف سيواجه أهله وكيف سيبرر لهم إتمام الزفاف بعد
10 أيام وقبل عودة أبيه، خاصة أنه قد تعهد لنا بكلمة شرف أن يكتم سره وسر ابنتي عن
أهله وتركته غارقا في مشكلته
وانشغلت بالإعداد للزفاف المتعجل .
وواجه خطيب
ابنتي ثورة أمه وإخوته العارمة، وانهال عليه اللوم والتقريع: كيف لا تنتظر أباك؟
.. ما هو وجه العجلة في إتمام الزفاف؟ كيف تتزوج بغير أبيك، إلخ.. وكان موقفه
أمامهم صعبا للغاية، وراح يتعلل بشتى الحجج المرفوضة من جانبهم، وأخيرا تم الزفاف
في الموعد الذي حددته، وبالغنا في مظاهر الفرح وإظهار فرحتنا به كأن على رأسنا
بطحة نتحسسها، وابنتي تجلس في الكوشة كالطير المذبوح کسيرة القلب، خجلانة مني ومن
أبيها، وابتسامتها حزينة كأنما انطفأت شموع الفرحة في قلبها وهي ترى النفور
والاستياء في وجوه أهل زوجها، وترى الفرحة العصبية المتشنجة من جانبنا.. وأخيرا
انتهت أصعب ليلة في عمري كله، وانتقلت ابنتي إلى بيت زوجها، فإذا بأهله الذين
كانوا يفركون أيديهم خجلا إذا تحدثوا معنا يتجرأون علينا ويتهموننا باختطاف ابنهم،
وبأننا ما صدقنا وجدناه كعريس حتى انقضضنا عليه ... إلخ، ونغصوا على ابنتي حياتها،
ولم يزرها منهم أحد للتهنئة بعد الزفاف، واضطر هو لأن يصطحبها إليهم مرات ومرات
محاولا استرضاء أمه وإخوته، وفي كل مرة تسمع ابنتي من حماتها ما لا يخطر لها على
بال .
ولأن ابنتي تشعر بالذنب عما فعلت لأنها سلمته نفسها قبل الزفاف، كما أن زوجها قد واجه ثورة أهله وتزوجها حسب إرادتنا؛ فإنني لم أستطع أن أدافع عن ابنتي بكلمة واحدة، وتكررت معاناة ابنتي مع أهل زوجها وكلمات حماتها القارصة حتى أصابتها حالة اكتئاب أثرت على علاقتها الخاصة بزوجها، ولولا صبره وحبه لها لضاعت ابنتي. ثم مع الوقت وإحساسه بذبول زوجته فقد منعها من زيارة أهله .. وقلت زياراته هو لهم تدريجيا بعد أن شعر باليأس من الصفح عنه.. وللآن یا سیدی - وبعد مضي عدة شهور - فإن أمه وأباه لم يصفحا عنه، ولم يبح هو لهما أو لأحد بالسبب الذي اضطره لإتمام الزفاف على هذا النحو.
والآن بدأت ابنتي تستعيد ثقتها بنفسها بعد مجهود مضن مني و من أبيها ومن زوجها الذي لن أنسى له (معروفه) معنا ما حييت، وأصبح الآن أغلى من أبنائي لموقفه الرجولي منا وحفاظه على سرنا وكرامتنا.
ولكاتبة هذه
الرسالة أقول:
كل خروج على
مألوف الحياة وما تراضي عليه البشر من أعراف وتقاليد ونظم اجتماعية مستقرة، هو في
النهاية مغامرة محفوفة بالمخاطر، ولابد أن تكون تبعاتها ثقيلة على من يقدم عليها .
والكارثة هي أننا حين نهم بالوقوع في هذه المخاطر فإننا ننسى في لحظة العمی
والجنون كل ما سوف نواجهه بعد قليل من أهوال وردود أفعال رافضة وساخطة، ولا
تتملكنا في تلك اللحظة سوى الرغبة في الانسياق وراء أهوائنا دون تقدير للعواقب، ثم
لا نلبث أن نفيق من سکرتنا ونتعجب من أمرنا ونتساءل نادمين : ماذا فعلنا بأنفسنا وبأعزائنا
وقد كان في مقدورنا أن نجنبهم ونتجنب معهم كل ذلك لو كنا فقط قد تحلينا بضبط النفس
وقدرنا لأقدامنا قبل الخطر موضعها.
ومهما حاولنا
أن نبرر لأنفسنا ما فعلنا أو نلتمس لها العذر فيه، فإننا لا نستطيع أن ننفي عنها
تهمة الأنانية والذاتية والانشغال بأنفسنا ورغباتنا وحدنا في تلك المخاطرة، دون
تقدير لما سوف يترتب عليها من عناء للأهل والأعزاء، لهذا فإن الإنسان مطالب بأن
يحاول دائما تحقيق المعادلة الضرورية بين حقوق الآخرين عليه وواجباته تجاههم،
وأولها ألا يضعهم بأفعاله موضع الحرج الاجتماعي والعائلي، ناهيك عما سوف ندفعه نحن
من ثمن غال من أعصابنا ودمنا، ومن رفض الآخرين لنا وإنكارهم علينا ما فعلنا.
إن رسالتك
مفيدة وهامة يا سيدتي، ولقد آثرت نشرها كاملة لكي يستفيد بتجربتك وتجربة ابنتك
فيها من قد تراودهم أنفسهم للإقدام على مخاطرة الخروج على المألوف .. لعلهم يلمسون
في صدقك في تصوير أحاسيسك حين علمت بالقنبلة والتغيرات التي طرأت على شخصية ابنتك
قبيل الزفاف وبعده ما هو أبلغ من عشرات من النصائح والعظات التي تحض على عدم
الخروج على ضوابط الحياة أو قوانينها. وهذا أمر عادل وضروري، فنحن في الحقيقة لا
نعيش وحدنا في صحراء قاحلة نستطيع أن نفعل فيها ما نشاء حين نشاء، وإنما نعيش وسط
بشر لابد أن نرعى حقوقهم كما يرعون هم حقوقنا ولابد أن نلتزم معهم بكل ما يجنبهم
الحرج والعناء.
والمفارقة
التي لا أريد أن تفوتني الإشارة إليها هو أن ما فعلته ابنتك مع خطيبها المعقود
قرانها عليه لا يدخل في النهاية في دائرة الحرام، لكنه رغم ذلك يدخل في دائرة
الخطأ الكبير، لأنه خروج على الأعراف المستقرة وعلى ضوابط الحياة وحقوق الأهل
والمجتمع، ولهذا كان فزعك واضطرابك، وكان انكسار ابنتك، وكان الموقف العصيب الذي
واجهه زوج ابنتك في النهاية مع أهله ومازال يواجهه وينعكس على زوجته حتى الآن،
فلعل الجميع يتسامحون فيما لم يعد يغير منه شيء حجب الرضا ولا صكوك الحرمان، ولعل
كل فتاة تعي مناشدتك الحكيمة لها وتعمل بها.. وشكرا لك.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1995
شارك في
إعداد النص / محمد عايدين
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر