الأحلام الموءودة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2003

الأحلام الموءودة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2003 

الأحلام الموءودة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2003


دفعتني للكتابة إليك رسالة يوم الخلاص التي يشكو فيها صاحبها من زوجته الجافة التي لم يشعر معها بالسعادة يوما ولا يربطه بها إلا حبه لأطفاله وخوفه من بعض الشيكات التي تحملها ضده‏,‏ وعزمه على الزواج من أخرى ذات يوم يسميه بيوم الخلاص‏,‏ وأنا طبيب في الأربعينات من العمر وقد أعطاني الله من فضله سماحة في الخلق ولينا في الطبع وفتح لي أبواب رزقه وحب الناس والحمد لله‏,‏ وقد نشأت في أسرة متدينة فقيرة تفتح أبوابها لكل من تعرفه بالرغم من فقرها الشديد‏,‏ حيث كان منزلنا يمتلئ دائما بالضيوف الذين يستعذبون الجلوس مع أبي‏,‏ وكنت ابنا مطيعا متفوقا ودائما من الأوائل ومحل افتخار أبي أمام أصدقائه‏,‏ وكانت مشكلتي الأساسية في هذا الوقت هي عدم قدرة أبي على توفير نفقات الحياة الأساسية لنا ومنها نفقات دراستي بالثانوي والجامعة‏,‏ فعملت خلال دراستي لأوفر مصاريف الكتب واشتري ملابس لائقة اذهب بها إلى الجامعة‏,‏ وفي خضم هذا الكفاح كانت لي أوقاتي القصيرة التي أحلم فيها بأن تنجلي هذه الظروف ذات يوم وتنتهي المعاناة مع انتهاء دراستي وعملي كطبيب‏,‏ وكان هذا الأمل هو ما يعينني على أن أتحمل هذه الظروف القاسية التي لم يكن لي يد فيها‏,‏ لكنه كثيرا ما كان ينتابني الإحساس بأنني مقهور بين ساعات عمل طويلة وساعات مذاكرة طويلة‏,‏ وفي هذه الأثناء تعرفت على زميلة لي‏,‏ ظروفها مقاربة من ظروفي ووجد كل منا في الآخر ملاذا له أو ربما بصيص أمل وسط هذه الحياة المظلمة‏,‏ وكانت علاقتنا علاقة محترمة فتعاهدنا على الزواج بعد التخرج وعلى أن نعمل ونغير ظروفنا إلى الأفضل بإذن الله لكننا بعد أن تخرجنا اكتشفنا أن أحلامنا مستحيلة التحقيق لأننا لا نملك شيئا سوى المرتب‏,‏ ووراء كل منا أسرة هو الأمل الوحيد لها‏,‏ وهكذا دفنت أملي لتحقيق أمل أسرتي وكذلك فعلت زميلتي واتفقنا على أن نظل أصدقاء‏,‏ وتزوجت هي من أول شخص مناسب وباركت زواجها‏,‏ وبداخلي بركان لا يقدر على الانفجار‏,‏ ولازمني إحساس القهر مرة ثانية ودفنت أحزاني بداخلي وانغمست في عملي‏,‏ وتحسنت أحوالي المالية بعض الشيء فاقترحت على أمي الزواج واختار لي أهلي فتاة من أسرة طيبة حاصلة على شهادة متوسطة ووافقت على اختيار أسرتي‏,‏ حيث لم يكن هناك سبب للرفض‏.

 

وتمت خطبتي لهذه الفتاة ورأيتها خلال الخطبة مرات قليلة وكانت لا تتحدث كثيرا‏,‏ وكنت أحيانا استعيد صورة فتاتي الجميلة التي تجيد الكلام فأتذكر أنها قد أصبحت زوجة وأما‏,‏ ولا يجوز لي أن أفكر فيها‏.‏ وتزوجت من اختارها لي أهلي وبداخلي نفس الإحساس بالقهر من أنني لم أختر شريكة حياتي بنفسي‏,‏ وأقبلت على الحياة مع زوجتي لكن كان هناك شئ بيننا دائما‏,‏ فهي تذكرني على الدوام بأنها ابنة عائلة كبيرة‏,‏ وحتى دون أن تذكرني بذلك كنت اشعر بأنها تتميز علي بهذه الميزة التي لا يد لي فيها‏,‏ وبالرغم من أنها كانت أقل في الجمال والثقافة واللباقة وكل شئ من فتاتي السابقة الفقيرة‏,‏ ومضت الأيام والسنون انقطع خلالها أهلي عن زيارتي لأنها تتعالى عليهم‏,‏ ولا ترحب بوجودهم ولم أفكر في الانفصال عنها لأني كنت قد رزقت بأطفال ولم يكن أمامي إلا الصبر على هذا البلاء‏,‏ واستبدلت بحب فتاتي الأولى حب أبنائي وصاروا كل شئ في حياتي‏,‏ وتوالت الأيام وازدادت الهوة بيني وبين زوجتي فحياتها محدودة بتحضير الطعام وأعمال المنزل ولا تعرف عن الزواج وعن حق الزوج أكثر من ذلك‏,‏ وزاد داخلي الإحساس بالقهر وعدم الرغبة في الحياة معها فأصبحت اقضي معظم وقتي في عملي وأنتهز الفرص لكي أزور أهلي وأصل رحمهم‏.‏

وفي ذروة هذا القهر شاءت الأقدار أن التقي بطبيبة صغيرة مطلقة‏,‏ شعرت بارتياح تجاهها خاصة وأن لها نفس شخصية زميلتي القديمة وأنني قد وجدت فيها كل ما تفتقر إليه زوجتي من حب الناس والألفة بهم والصدق في القول والرقة في الطبع‏,‏ ووجدتني انجذب إليها واشتعل في داخلي أمل كذلك الذي كنت أشعر به خلال دراستي بالجامعة.



ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏

لو تأملت قصتك مع الحياة بعين محايدة‏..‏ وبعيدا عن ميل الإنسان الغريزي للرثاء لنفسه ولوم الظروف المحيطة به واتهامها بحرمانه من السعادة المرجوة‏,‏ لعرفت أنك قد أضعت الحب الحقيقي من بين يديك بعد التخرج والعمل لسبب أساسي هو أنك قد سارعت بالاستسلام لظروفك الاجتماعية والعائلية‏ بلا مقاومة‏,‏ وكذلك فعلت زميلتك‏,‏ مما يعني أن مشكلتكما الحقيقية لم تكن في ظروفكما الاجتماعية غير المواتية‏..‏ وإنما كانت أساسا في الانهزامية وخور الإرادة وضعف الهمة عن الكفاح والدفاع عن الحب والاستمساك به والصبر على الظروف إلى أن تتغير للأفضل‏..‏ والحب الحقيقي أثمن من أن يضحي به طرفاه أو يتنازلا عنه بمثل هذه السهولة‏..‏ كما أن ظروف كل منكما لم تكن مستعصية على الكفاح لتغييرها إلى الأفضل بشئ من الصبر ومغالبة الأوضاع‏,‏ بدليل أنك قد أصبحت خلال بضع سنوات أخرى قادرا على الزواج دون أن تتقاعس عن أداء واجبك الإنساني تجاه أسرتك‏,‏ ولأنك تعرف ذلك في أعماقك وتشعر بلوم النفس على التفريط في الحب وعدم الكفاح للحفاظ عليه‏,‏ فإنك تعاني الإحساس بالقهر ليس لأنك لم تختر زوجتك‏,‏ وإنما اختارتها لك أسرتك‏,‏ إذ ما كان أسهل عليك من أن تعترض على الاختيار أو ترفضه أو تستبدله بغيره‏,‏ وإنما لأنك قد أدركت أنه كان في مقدورك لو كنت قد تحليت بالصبر وقوة الإرادة وعزيمة الكفاح أن تفوز بالحب والسعادة وألا تنهزم سريعا أمام الظروف غير المواتية‏..‏

هذا هو المبرر الحقيقي لما تشعر به من قهر داخلي وليس أي شئ آخر‏,‏ ولأنك كنت تنطوي علي هذه المشاعر المتضاربة‏,‏ فإنك قد بدأت حياتك الزوجية ومرآتك الداخلية مشوشة بلوم النفس على التفريط في الحب وبالتشكك في قدرة الزوجة التي سمحت بها الظروف العائلية أخيرا على تعويض ضياع الحب‏..‏ وأدى تفاعل كل تلك المشاعر إلى المسارعة بإعفاء النفس من المسئولية عن عدم التجاوب مع الزوجة‏,‏ بنسبة اللوم إليها وتحميلها المسئولية لأنها تختلف عن شخصية فتاة القلب السابقة‏,‏ ولأنها تكرس نفسها لأبنائها وبيتها ولا تعرف من الزواج سوى ذلك‏..‏ أو لأنها تعتز بأوضاعها العائلية التي تفضل أوضاعك الأسرية‏.‏
والمؤكد أنك قد ظلمت نفسك وظلمت زوجتك بارتباطك بها وأنت غير مهيأ لاعتبارها من البداية شخصية مختلفة عن فتاتك السابقة ولها وسائلها المختلفة للتعبير عن المشاعر تجاه شريك الحياة‏..‏ وغير مسئولة كذلك عن الظروف التي دفعتك للتضحية بالحب‏.‏

فإذا كنت تسألني عن رأيي فيما اتخذته من قرار بمغالبة ضعفك العاطفي الطارئ تجاه زميلتك المطلقة‏..‏ وعجزك عن مواجهة تبعات اختيارك العاطفي لها‏,‏ وتراجعك عنه تكريسا لحياتك لأسرتك وأبنائك‏,‏ فاني أقول لك إنه ليس من العدل أن يدفع غيرنا فواتير عجزنا السابق عن مغالبة ظروفنا‏.‏
ولاشك في أن محاولتك للتعويض العاطفي المتأخر كانت ستترتب عليها تبعات جسام يتأذي بها من لا ذنب لهم في استسلامك السريع بعد التخرج لظروفك‏..‏ وأولهم زوجتك التي لم يجبرك أحد على الارتباط بها‏..‏ ولا تجد ما تأخذه عليها سوى في انكفائها على بيتها وأبنائها‏,‏ حتى ولو لم تحسن التعبير العاطفي عن الحب‏,‏ وأبناؤك الذين لا ذنب لهم ولا جريرة فيما قضت به المقادير‏..‏

فلا تخجل من قرار شجاع رأيت معه أن تتحمل وحدك تبعات التفريط في الحب في البداية وعدم التواصل العاطفي بينك وبين من تزوجتها بإرادتك في النهاية‏..‏
فهكذا يفعل الفضلاء الذين يأبون إلا أن يتحملوا وحدهم تبعات اختياراتهم‏..‏ ولا يكلفون غيرهم من أمرهم رهقا بأية دعاوي أو مبررات‏,‏ ولو أنصفت لحاولت إقناع نفسك بفتح صفحة جديدة مع زوجتك وأم أبنائك‏,‏ لا تنظر إليها فيها كرمز للهمة الخائرة والحب الذي تخلى عنه طرفاه‏..‏ وإنما كإنسانة وأم وزوجة جمع الله بينك وبينها ودامت عشرتكما بلا مشكلات حقيقية حتى أثمرت ثمارها الطيبة من الأبناء‏..‏ ومن المؤكد أنك سوف تستشعر تجاهها أحاسيس جديدة تقضي على أحاسيسك السابقة بالقهر والتعاسة‏.‏
رابط رسالة يوم الخلاص

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2003

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات