الساعات الأخيرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2003

 

الساعات الأخيرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2003

الساعات الأخيرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2003

أنا زوجة عمري‏ 42 عاما أقيم في محافظة ساحلية ومتزوجة من رجل طيب القلب متدين‏,‏ وقد رزقنا الله بطفلين توءم فكنت أدعو الله في كل صلاة أن يرزقني بالبنت لكي تكون صديقتي وحبيبتي‏,‏ فاستجاب الله لدعائي‏,‏ ووهبني بنتا في غاية الجمال والذكاء التحقت بالمدرسة‏,‏ وكبرت وأصبحت حمامة السلام في أسرتنا وقمة في الأدب والصلاح‏,‏ تخاف على أخويها كأنها أمهما وكبر الولدان وتقدما في مراحل الثانوي وهي في المرحلة الإعدادية ثم رجعت ابنتي ذات يوم من المدرسة ودرجة حرارتها مرتفعة بشدة‏,‏ فذهبت بها إلى الطبيب وكتب لها العلاج ورجعت إلي المنزل‏,‏ وقبل أن تأخذ الدواء كانت روحها الطاهرة قد صعدت إلى بارئها وحزنت عليها حزنا شديدا‏,‏ وشهدت حياتي أصعب أيام عمري وشعرت بأن روحي قد سلبت مني بعد أن فقدت صديقتي التي تمنيتها من ربي‏,‏ لكنه لا راد لقضاء الله فاحتسبتها عند ربي وتغلبت على هذا الابتلاء بعد مدة طويلة وزوجي يصبرني ويقوي من إيماني بالقرآن والصلاة‏,‏ كما ذهبنا إلى العمرة‏.‏

وكبر الولدان وأصبحا شابين دخلا إحدى كليات القمة‏,‏ الأكبر في محافظة غير المحافظة التي نقيم فيها‏,‏ والثاني في نفس المحافظة‏,‏ فحمدت الله أن معي واحدا منهما يصبرني على فراق أخيه ومرت الأعوام فأصبحا في السنة النهائية من الدراسة‏.‏ وإذا بابني يرجع أثناء الامتحان آخر العام شاكيا من وجع شديد في الرأس وذهبت به إلي جميع الأطباء وأجرينا جميع الفحوص والتحاليل‏,‏ فإذا بالصاعقة تنزل علينا ونعرف أنه المرض اللعين‏!‏ ودخلنا مراحل العلاج الصعب الذي لا يتحمله بشر لمدة سنة ونصف السنة وهو في فراش المرض وأنا أذهب إليه كل يوم أنا وأبوه وأخوه الذي ترك كليته لكي يطمئن على توءم روحه إلى أن جاءت وقفة عيد الأضحى وكنت صائمة في المستشفى‏,‏ فطلب مني ابني وألح علي أن أفطر في البيت مع أخيه وأبيه لأنه الآن في أحسن حال‏,‏ على أن أرجع إليه في اليوم التالي أول أيام العيد فتركته ورجعت إلى البيت‏,‏ وفي الصباح الباكر نقل إلي التليفون الخبر المشئوم أن فلذة كبدي قد لقي وجه ربه‏,‏ إن هذا هو الابتلاء الصعب علي كل أم يا سيدي‏,‏ فلم أنس أبدا منظره وهو ينظر إلي مودعا وأنا أعاقب نفسي بأني تركته في ساعاته الأخيرة وأعيش في حزن شديد لا أريد أن أرى أحدا حتى زوجي وابني ولا يخفف عني حالي بعض الشيء سوى قراءة القرآن‏ الكريم.‏

إني أوجه كلمة إلى الأخت صاحبة رسالة القرار الصائب التي تقول إن عدم الإنجاب صعب على كل زوجة وأقول لها إن عدم الإنجاب أسهل من إنجاب طفل ينمو أمامك حتى يصبح شابا وسندا لأبيه في الدنيا ثم في لحظة خاطفة يضيع منك ومن الدنيا كلها‏.‏ فاصبري يا أختي على أقدارك وقفي مع زوجك في مرضه والله لا يضيع أجر من أحسن عملا‏.‏

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏

قدر الله وكما شاء فعل يا سيدتي‏,‏ ولقد شاءت إرادته سبحانه وتعالى أن يصبح من كان لك في الدنيا سرورا‏,‏ في الآخرة لك أجرا عظيما إن شاء الله‏.‏ ويبقى الأمل دائما في رحمة الله أن ينزل سكينته على القلوب الملتاعة ويعين أصحابها على أمرهم ويحسن مثوبتهم بإذن الله‏.‏

نعم ‏..‏ نعم‏ ..‏ إنني أتفق معك تماما في أنه إذا كان الحرمان من الإنجاب بلاء للصابرين ‏..‏ فإن فقد الأعزاء بعد أن يملأوا الدنيا حولنا أنسا وبهجة لهو ابتلاء أشد وطأة على المكلومين‏..‏ غير أننا لا نملك في الحالين إلا الامتثال لإرادة الله سبحانه وتعالى والتسليم بقضائه وقدره‏..‏ خيره وشره‏..‏ عاجله وآجله‏..‏ وألا أن نطوي حنايا الصدور على ذكريات الأعزاء الراحلين وأن نعايشهم في وجداننا ونتذكرهم على الدوام وندعو لهم الله سبحانه وتعالى أن يمتعهم في الدار الآخرة بما لم تتسع له صفحة العمر القصير في الدنيا وأن يجمعنا بهم في رحابه حين يجئ الأوان‏.‏

فصبرا جميلا يا سيدتي‏..‏ ولا تضاعفي أحزانك بجلد النفس على أنك قد غبت عن ابنك الراحل في ساعاته الأخيرة‏..‏ فلقد رحمك ربك بهذا التدبير الإلهي لكي يعفيك من شهود الأوقات العصيبة‏..‏ وما كان إلحاحه ـ رحمه الله ـ عليك بالعودة إلى البيت إلا جزءا من هذا التدبير الرحيم‏..‏ فاسعدي روحه الطاهرة بتمالك نفسك ومواصلة حياتك‏..‏ والتعزي بصحبة الابن الآخر والزوج العطوف عمن فقدت ـ والله المستعان على كل أمر عسير.

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2003

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات