الاختيار .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984

 الاختيار .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984

الاختيار .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984


بعض الرسائل تشل قدرة الإنسان علي التفكير .. ومنها في رأيي هذه الرسالة.

 

أنا سيدة عمري 28 سنة .. أعمل طبيبة أخصائية للأمراض الجلدية ، نشأت في أسرة ثرية معروفة وعشت حياة طبيعية , وفي ذات يوم عُرٍضَ عليً شاب مريض بمرض جلدي بسيط فعالجته منه , وخلال فترة العلاج تعرفت عليه وأحبني وأحببته ثم تقدم للزواج مني ووافقت أسرتي بعد معارضة وزففت إليه.

وهذا الشاب بدأ حياته في ظروف مأساوية فقد تربى في بيئة فقيرة وحصل على الثانوية العامة ثم التحق بالجامعة وعمل لينفق على تعليمه , ثم نجح في عمله وكسب مالا كثيرا وتزوج من سيدة لم يوفق معها , ثم صدم في إخلاصها له فطلقها , وقال لي إنه تقدم لفتيات كثيرات رفضنه لأن شكله غير مقبول ووجهه غير وسيم , وبالمناسبة فأنا على قدر كبير من الجمال والذكاء , وقد تزوجت هذا الشاب وأحببته كثيرا وعشت معه حياة سعيدة كل السعادة , ووجدت لديه الحنان والعطف والطيبة وقد أرادني أن أكون ملكة في بيته وأن يحضر لي الشغالات فرفضت لأني أريد أن أخدمه بنفسي , وفعلا خدمته وأصبحت له زوجة وسكرتيرة .. أرتب مواعيده وأكتب له المذكرات واختار ملابسه .

 

 وبعد عامين من الزواج تأكد وتأكدت من خلال الفحص الطبي الذي أجراه على نفسه أنه غير قادر على الإنجاب .. فعرض علي أن نتبنى طفلا من أحد الملاجئ لكي لا أشعر بنقص الأطفال في حياتي , فرفضت وقلت له إنه يكفيني أن أكون بجواره .. وأن أكرس حياتي له فطلب مني أن أستقيل من عملي لأنه لا يحب أن يراني مرهقة وموزعة بين العمل والبيت, فاستقلت فعلا وتفرغت نهائيا له ولحياتي السعيدة , ومضى العام الثالث من زواجنا وسافرنا إلى الإسكندرية للاحتفال بعيد الزواج , وفي رحلة العودة اصطدم لوري كبير بسيارتنا , فأصيب زوجي بكسر في ذراعه وبجروح بسيطة , أما أنا فقد أصبت بفقد البصر وأجريت 4 جراحات لاستعادته فشلت كلها , لكني لم أيأس من رحمة الله وسأجري جراحة أخرى يوم 25 نسبة نجاحها تزيد على 95% وأملي كبير في الله في أن استرد بصري .

 

تسألني بالطبع كيف كتبت لك هذه الرسالة وأنا عمياء , لا بأس.

 إني أملي رسالتي هذه على شغالتي وأمينة سري التي تربت معي في بيت أبي , وحين أصبت بفقد البصر أصر أبي على أن تصاحبني لتخدمني , ومضت الحياة بعد ذلك ولم يتغير شئ فأنا باقية على حبي لزوجي وأتفانى في خدمته حتى مع ظروفي الجديدة , وهو أيضا على حبه وإخلاصه لي وتفانيه في إسعادي , بل إنه أصبح أيضا عيني التي أري بها الدنيا.

 لكنني فجأة لاحظت منذ حوالي شهرين أنه قد أصبح كثير السفر والمبيت خارج البيت , إنه محام مشهور يترافع في قضايا عديدة في محافظات مختلفة ويسافر كثيرا .. لكني رغم ذلك لاحظت أن نوبات سفره قد زادت بالذات إلى الإسكندرية, وفي إحدى المرات غاب هناك أسبوعا كاملا كان يتصل بي خلاله كل يوم بالتليفون , ويعدني بالحضور ثم حضر أخيرا متعللا بأن القضية كانت مرهقة وطالت جلساتها. ولم أعترض وفي الصباح غادر البيت إلى مكتبه , وقالت لي أمينة سري إن بذلة زوجي تحتاج إلى تنظيف فطلبت منها إخراج محتوياتها قبل إرسالها للمكوجي ففعلت, فإذا بها تجد بين أشيائه قسيمة زواج حديثة من سيدة بالإسكندرية, لم أصدق نفسي فطلبت منها أن تقرأها مرة ثانية وثالثة ورابعة وحين انتهت من قراءتها للمرة الخامسة , كنت قد غبت عن الوعي.

 

لماذا يا ربي ؟.. لأنني عمياء ؟ إن عماي مؤقت كما يقول الأطباء .. ثم ما معنى هذا ؟ إن تصرفاته معي تقول لي إنه مازال يحبني ويغمرني بعطفه وحنانه فلماذا يتزوج غيري ؟ وماذا أفعل الآن ؟ إنني لم أفاتحه بعد بأني قد عرفت بنبأ زواجه ولم أفاتح أهلي به, ولو فعلت لسعوا إلى تطليقي منه على الفور.. وأنا الآن حائرة لا أعرف ماذا أفعل ؟ فأني إذا أبلغت أهلي بالنبأ وطلقوني منه ثم أجريت الجراحة ونجحت واستعدت بصري فإني سأندم طوال حياتي على أني طلقت منه , وإذا فشلت العملية فإني لن أندم على عدم إبلاغ أهلي , لأني في هذه الحالة سأظل عمياء ولن أستطيع خدمته كما كنت أفعل في سنواتنا الأولى .. وإن كنت سأزداد ارتباطا به لأنه عيني التي أري بها .

ماذا أفعل؟ أرجوك أن تجيبني قبل موعد الجراحة يوم 25 الحالي.

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

 

هذه هي رسالة الزوجة المعذبة التي تلقيتها .. والتي عنيتها حين قلت إن بعض الرسائل تشل قدرة الإنسان على التفكير .

فالحق يا سيدتي أني لا أريد أن أغامر بإبداء رأي حاسم في مشكلتك , وأفضل أن أستعين بعقول القراء لتشاركني مهمة التفكير الصعبة في النصيحة المناسبة لك, فمشكلتك صعبة بالفعل وأنت تواجهين فيها اختيارا مريرا بين الرضا بحياتك الحالية وبما تقدمه لك من بعض العزاء .. وبين هدم المعبد من أساسه والبدء من جديد في ظروف قد لا تكون مواتية .. أنت تواجهين الاختيار بين الرضا بنصف زوج وبنصف الحنان والحب , والوحدة وافتقاد الرفيق الذي تميلين إليه وعليك وحدك أن تختاري , ولو تركت لنفسي العنان لقلت إني أحس من كلمات رسالتك إنك متمسكة به رغم كل شئ وراغبة فيه وفي استمرار الحياة معه , ولقلت لك إن ظروفك الأخيرة ليست في رأيي الدافع الأساسي وراء نزوة زوجك ومغامرته الحمقاء .. ذلك أن بعض الرجال يرفضون أن يصدقوا أنهم المسئولون عن عدم الإنجاب رغم نتائج الفحوص , ويسعون سرا لتجربة حظوظهم مع أخريات لإقناع أنفسهم بأنهم قادرون على ما حرمتهم الطبيعة منه.

 

أعتقد أن هذا هو سبب مغامرة زوجك وليس فقدك للبصر , ففقدك للرؤية مؤقت. وأنت تنتظرين جراحة نسبة نجاحها عالية .. ولم يمض وقت طويل على تعرضك للمحنة بحيث ييأس زوجك ويحاول تعويض نفسه مما فقد , وحتى لو كان فقدك للرؤية دائما .. أيكفي هذا وحده للانصراف عنك!

إننا نعرف نماذج عديدة ناجحة لزواج موفق سعيد بين أزواج وزوجات حرمهما الله نعمة البصر لذلك فإن هذا السبب لا يكفي وحده في رأيي للانصراف عن زوجة محبة مخلصة مثلك. ثم ألم يفكر زوجك ماذا كان من الممكن أن يحدث لو أصيب هو في هذا الحادث بفقد البصر وأصبت أنت بالجروح البسيطة؟

أكنت تتخلين عنه بهذه السرعة ؟ أشك في ذلك كثيرا .. لأن المرأة السوية عادة أكثر رضا بقضاء الله من بعض الرجال الجاحدين, إنني لا أريد أن أواصل الحديث معك لكي لا أنجرف إلى أبداء رأي محدد قد يكون جائرا , لكني سأنقل إليك ما أتلقاه من أراء قراء البريد, وإلى اللقاء.

رابط تعليق القراء على الرسالة بعنوان القرار

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1984

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي 

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات