الرد الجاف .. رسالة من بريد الجمعة عام 2003
أعدت قراءة رسالة
السيدة المحترمة بعنوان (رائحة الورد) التي كتبتها في مايو الماضي, وكانت
تشكو فيها السيدة عدم وجود الشاب المناسب لابنتها التي وصلت إلى سن الزواج رغم عدم
وجود عراقيل أمام من سيتقدم لها, حيث تعيش في بلدة أشبه بالريف, فبكيت على
حالي .
فأنا شاب مسيحي
أعمل مهندسا زراعيا ولي دخل من عمل حر أخر وميسور ماديا والحمد لله, وأعيش
بالريف على مسافة نصف ساعة من مدينة المنصورة وأبلغ من العمر34 عاما, وأنا ابن
لأب بالمعاش وأم ست بيت بارك الله فيهما, ولي ست أخوات من الإناث وأنا وحيد أبي
وأمي, وقد تأخرت في الزواج حتى تزوجت آخر أخت لي في شهر أكتوبر الماضي وعندئذ
بدأت في البحث عمن ستشاركني حياتي المقبلة في منزل الوالد, وبنيت شقة لنفسي
مستقلة ومتسعة فتحطمت كل جهودي على صخرة أنني أسكن بالريف, رغم أن الريف لم يعد
ريفا بل تطور وأصبح فيه كل وسائل الراحة والترفيه والأسفلت والدش والمياه
والكهرباء وكل ما في المدينة يتوافر الآن في الريف, ومع ذلك كلما تقدمت لأسرة
أجد دائما الرد الجاف: ابنتنا لا تعيش في الريف.. هات لها شقة في المدينة ! .
وإن تظاهر أبي
وأمي بالموافقة على توفير شقة بالمدينة فأنا أعرف أنهما بداخلهما حزن دفين ففضلت
الرد في أغلب الأحيان بأنني سأظل أعزب لكي أعيش بجوارهما لكيلا أتزوج لأبتعد عنهما
وهما في أواخر أيامهما.
وأخيرا وبعد جهد جهيد دخلت بيت إحدى الأسر بإحدى المدن ورحبت
الأسرة بي نظرا لما لمسوه في من تواضع وبذل لسعادة الآخرين, وعرضت ظروفي عليهم
من الألف إلي الياء ورحبوا وتمت زيارتهم لمنزلي ورأوا الشقة وأعجبوا بها. وجاءت
معهم خطيبتي فعرضت عليهم شراء الشبكة وخلافه وتم تحديد الخطبة والحمد لله ونظرا
لأن والد خطيبتي ليس على قيد الحياة فقد أردت أن أعوض عدم وجوده بالعطف والحب
والحنان, وأردت أن أقربها مني وأقترب منها اختبارا للمشاعر ووجدت أنني أجد
سعادتي في إسعادها ووعدتها بأنني لن أدخر جهدا في سبيل إسعادها. ثم أبلغتني أنها
تريد دراسة الماجستير بعد الزواج حيث إن ميعاد زفافنا قد تحدد أواخر فبراير الحالي
فقلت لها إنني لن أكون حجر عثرة في طريقها بل سأكون الحجر الذي تصعد عليه لكي
ترتفع, وأصبحت تتلهف على سماع صوتي في التليفون ووعدتها بعد زواجنا بشراء سيارة
معقولة, وبعد أن تم تشطيب الشقة وخلافه وشراء الأجهزة والنجف وخلافه ودهان الشقة
حسب رأيها إذ بها تضعني بين المطرقة والسندان بقولها إنها تريد شقة في المدينة,
فنظرت إلى السماء متحسرا ولم تتفوه والدتها بكلمة سوى: راجعي نفسك يا ابنتي,
وهكذا فعندما خيل لي أنني في مرحلة الحصاد صدمتني في أحلامي وطموحاتي.
ولقد أدخلت بعض الأقارب لإنهاء العلاقة من ناحيتي بعد فترة
تفكير لها فجاءتني الشبكة وتنازلت عن أشياء أخرى .
فهل تراني أخطأت عندما استجبت لها وآمنت
بكلماتها المعسولة عن الوفاء والإخلاص, هل كنت مخطئا عندما سلمتها قلبي تلهو به
وتسخر منه وصدقت كلامها الأجوف عن الحب ؟ هل كان يجب إظهار بعض الحب وليس كله ؟..
فالبعض أشار علي بتأجير الشقة لمدة سنة وبعد ذلك أنتقل للبلدة مرة أخرى لكني رفضت
من حيث المبدأ.
ماذا تريد الفتاة يا سيدي ؟ ألا يكفيها أن تعيش في كنف رجل
يسعدها ويحميها من غوائل الحياة, إنني اسمع الآن أن هناك عنوسة فكيف لا يكون ذلك
وأنا أسمع أن تلك الفتاة قد رفضت عريسا لمجرد أنه أصلع, وأخرى رفضت أخر لمجرد أن
سيارته موديل قديم وآخر لأنه بدين بعض الشيء, وآخر لأنه يرتدي نظارة طبية,
وآخر لأنه يأتي إليها وليس معه هدية لها.
إنني أضم صوتي الضعيف إلى صوتك في مناداة الأسر
ومناشدتهم فتح العقول قبل القلوب. وتغيير النظرة الحجرية إلى الريف والتبصير
بالمستقبل للفتاة في هدوء وحكمة.
هل تريد الفتاة الجوهر أم المنظر؟ وهل أجد بين قارئاتك من
تشاركني حب الحياة في الريف؟! إنني مجروح فماذا تقول لي ؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
لا لوم عليك في شيء, بل إنك محق في رغبتك في أن تتزوج في المكان الذي تعيش فيه.. وبالقرب من أبويك.. ومن واجب الزوجة أن تتبع زوجها حيث يحيا ويقيم.. لكنه من حق الزوجة أيضا أن تشترط على زوجها قبل الزواج المكان الذي تحيا فيه, ومن حق الزوج أن يقبل بشرطها هذا أو يرفضه وينصرف عنها.. ولست ألوم فتاتك إلا في تعمدها استدراجك للقبول بالإقامة في المدينة عن طريق التظاهر في البداية بقبولها للحياة معك في بلدتك, ثم مباغتتك بعد تقاربكما وتوثق الروابط بينكما برغبتها الحقيقية قبل الزفاف بوقت قصير, فهذا استدراج لا يتسم بالأمانة مع زوج المستقبل, إذ كان في مقدورها رفض الارتباط, بك من البداية.. أو إعلان رغباتها الحقيقية قبل الارتباط لكن ما مضى قد مضى وأنه لأفضل لك كثيرا أن تعرف قبل الزواج أنها لم تكن متحمسة للإقامة معك في بلدتك, من أن تثير لك المتاعب حول عش الزوجية بعد إتمام الزواج.. وكثيرات هن من يفضلن الحياة في هدوء الأقاليم, حيث إيقاع الحياة أخف وطأة منه في جحيم بعض المدن الكبرى, فلا تتنازل عن شرطك هذا, ولسوف تضع الأقدار في طريقك من تسعد بالحياة معك حيث تعيش, وتسعد بها خلال وقت قصير بإذن الله.· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2003
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر