كشـف الحسـاب .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2000
لقد علمنا الهادي البشير صلوات الله وسلامه عليه أن كل الذنوب
قد يؤخر الله منها ما يشاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإنه يعجل لصاحبه.
عبد الوهاب مطاوع
قرأت رسالة "مواقف
الحياة" للأب المعذب الذي يشكو من جحود ابنته الشابة له واجترائها عليه
وانحيازها لأمها غير الأمينة علي زوجها ولا على أبنائها.. ويصف مدى تألمه لوقاحة
ابنته ابنة السبعة عشر عاما عليه وإنكارها له وطلبها منه أن يغرب عن وجهها ويدعها
لنفسها هي وأمها وأريد أن أقص عليه وعلي ابنته قصة أسرتي لعلها تخفف عنه بعض
أحزانه.. وتعيد هذه الابنة الضالة إلى رشدها قبل أن تدفع ثمن جحودها لأبيها
غاليا من حياتها وسعادتها.
أنا سيدة متزوجة ولدي ثلاثة
أطفال وقد نشأت بين أب طيب مسالم.. وأم شرسة معتزة ببياض بشرتها وجمالها وسطوة
أسرتها, في بيت لا يعرف الاستقرار إلا قليلا, وتفتحت عيوننا وآذاننا على أمنا
القوية الشرسة وهي تشتبك مع أبي في كل مناسبة وتعيره بسمرة بشرته وهوان أسرته
بالقياس لسطوة أسرتها المعروفة بالشراسة وتنعي حظها الذي دفن جمالها مع هذا الرجل
الأسمر الجلف كما كانت تدعوه أمامنا, وهو يتحمل ويصبر ويغضب في بعض الأحيان
ويهجرها لفترة من الوقت ثم يتدخل الوسطاء بينهما فيعود ويقول لنا بعد عودته أنه لم
يرجع إلا من أجلنا لأنه يخشى علينا من الضياع إذا تركنا لرعاية أمنا وحدها.
إلى أن بدأت أمنا تشركنا في
مصاداماتها مع أبينا.. وتأمرنا في غمرة الشجار بأن نسبه بأقزع السباب وإلا
فالويل لنا إن لم نفعل ذلك فكنا نمتثل لأوامرها خوفا من بطشها بنا وتنطق ألسنتنا
بأبشع الألفاظ والكلمات ضد أبينا ولا نتوقف ونحن صغار للأسف أمام نظرة الحسرة
والألم في وجهه ونحن نفعل ذلك, ولا نبادره للأسف بالاعتذار بعد ذلك, وإنما
نشارك أمنا في خصامه لفترات طويلة ولا نكاد نجيب له طلبا إلا إذا أمرتنا أمنا بذلك
وهي تشجعنا على ذلك.. وتشجع شقيقنا الوحيد الذي كان يسرق من نقود أبي من حين
لآخر ويعطيها ما يسرقه على أن يستمر في ذلك وعلى عصيان أبيه,
وتحميه من الحساب.. وتحمينا كذلك من أي عقاب مع أن أبي لم يكن يعاقب أحدا منا..
وإنما كان يكتفي بلومه وبتذكيره بعقاب ربنا لمن يجحد أباه أو يسيء الأدب معه..
ويقول لنا أنه لم يقبل باستمرار الحياة مع أمنا بعد ما لقيه ويلقاه منها إلا لكيلا
ينفر منا الخطاب في المستقبل حين يجدون أمنا في بيت رجل آخر غير أبيهم وأباهم
متزوجا من امرأة غير أمهم.
وبالرغم من ذلك فلم توقف إساءة شقيقاتي له..
وبلغ أبي قمة الشعور بالألم حين قرأ ذات يوم اسم شقيقتي على كراسة لها فإذا بها
تنسب نفسها بتحريض من أمنا لا إليه كما هو الطبيعي وإنما إلى خالها ذي المنصب
المرموق, فتوقف أمام الاسم المنتحل متألما وسألها متحسرا: إلى هذا الحد تنكرين
أباك وتتمسحين باسم خالك ؟
ثم غادرها دامعا ومتألما.. ومضت الحياة بنا بالرغم من
كل شيء وارتبطت إحدى شقيقاتي بزميل لها بالجامعة لم يرض أبي عنه في حين خالفته أمي
كالعادة وشجعتها على الارتباط به وطالبتها بألا تأبه لموقف أبينا لأنها سوف تزوجها
منه رغما عنه وبالفعل تحدت شقيقتي أباها وأعلنت له أنها سوف تتزوجه رغما عنه
بمساعدة أهل أمي.
وعادت أمي في تشجيعها على ذلك
وحددت لهذا الشاب موعدا لزيارتنا ليطلب يدها من أبي بالرغم من إعلانه لرفضه له,
وقبل أن يحل هذا الموعد بأيام قليلة أصيب أبي بالشلل كمدا وحزنا وحسرة على حياته
الضائعة بين جفاء زوجته وجحود أبنائه, وتمت الخطبة وهو مريض حسير, وبعد فترة
معاناة طويلة مع المرض رحل أبي عن الحياة, ومضينا نحن في طريقنا فتزوجت البنات
واحدة بعد أخرى .. وانفردت أمي بنفسها وجبروتها في بيت أبي وعاما بعد عام راحت
تتوالى على الإخوة الذين جحدوا أباهم وأساءوا إليه في حياته المتاعب والمعاناة.
فتعثرت حياة أختي الكبرى
التي نسبت نفسها ذات يوم إلى أسرة أمها دون أبيها.. وبعد سنوات من استقرار
حياتها الزوجية مع رجل محترم إذا به يتهم في جريمة أخلاقية ويتورط في فضيحة مدوية
سوف تدفع أبناءه للخجل من الانتساب لأبيهم كما خجلت أمهم ذات يوم من الانتساب إلى أبيها
ناهيك عن جحيم المتاعب القضائية.. وتكاليفها وضيق ذات اليد بعدها.
وتزوجت الأخت الثانية من
الشاب الذي تحدت به أبي وأحضرته إلى بيته رغما عنه وهو مريض ومحسور, وسافرت معه إلى
إحدى الدول العربية فذاقت معه كل أنواع الشقاء ولم تهنأ بحياتها الزوجية معه يوما
واحدا ومات فجأة في سن مبكرة وتركها بلا عائل ولا معاش, فلم تجد في النهاية سوى
معاش أبيها وتقدمت بطلب لإعادة صرفه لها كأرملة لا مورد لها.. وهي الآن تعتمد في
معيشتها على معاش الأب الذي تحدته وقهرته وعجلت بمجيء المرض إليه.
أما الابن الوحيد الذي كان
يسرق من أبيه ليعطي أمه ويتجرأ عليه في حمايتها, فلقد حرمه الله سبحانه وتعالى
من الاستقرار في أي عمل ومن النجاح في أي مشروع يقيمه, وما من عمل يبدأه أو
مشروع صغير ينفذه إلا ويسرقه فيه من يعمل معه ويخسر فيه الجلد والسقط ويرجع لنقطة
البداية من جديد, ناهيك عن تعاسته الزوجية التي صارت مضرب الأمثال مع زوجة من
أسرة أمي.. ولولا خوفه على أطفاله منها لطلقها واستراح منذ زمن طويل.
ويأتي الدور للحديث عني وقد
شاركت للأسف في التستر على أمي في إيذائها لأبي وساعدتها أحيانا في ذلك فأقول لك
أنني سعيدة في حياتي الزوجية الآن وأطفالي بخير كلهم والحمد لله.. لكني خائفة حتى
المرض مما سوف يحمله لي المستقبل وأشعر بالذنب لما فعلت مع أبي وبالندم الشديد
عليه وأترقب عقاب السماء لي عنه وأنا واجفة القلب.. وتمضي علي أحيانا بضع ليال
لا أذوق فيها طعم الراحة.
وأري في نومي كثيرا أبي
الراحل يرحمه الله جالسا تحت شجرة جرداء لا أوراق تحميه من لهيب الشمس.. مرتديا
جلبابا متسخا للغاية وكلما هممت بالاقتراب منه نهض من مجلسه وأدار ظهره لي وابتعد
عني وهو يعرج في مشيته بطريقة غريبة وانهض من نومي منقبضة الصدر وأفسر رموز هذا
الحلم بأن الشجرة الجرداء التي كان يحتمي بظلها فلا تظله بأي ظل لأنها بلا أوراق..
هي نحن أبناء هذا الأب الطيب الصابر الذي لم نظله في حياتنا بحبنا واحترامنا له
وتعاطفنا معه.. وأن هذا الجلباب المتسخ الذي يرتديه رغما عنه هو أمنا المفترية
عليه والجاحدة لفضله.. ولا عجب في ذلك فلقد طردتنا في النهاية من بيت أبينا
وحرمتنا من آخر ميراثه الذي استولى عليه أهلها ذوو السطوة والشراسة.
وكلما نظرت إلى زوجي الذي
يحسن معاملتي وأحسن معاملته وإلى أطفالي الصغار الذين يضيئون حياتي بالحب والبهجة
والأمل.. استسلم للخواطر السوداء وأتساءل: من أي اتجاه يا رب سوف يجيء قصاصك
العادل مني لجحودي لأبي ومشاركته لأمي في إيذائه ؟ وتنهمر دموعي طويلا وابتهل إلى
الله العلي القدير أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي, وأن يترفق بي في قصاصه فلا يصيب
أحدا من أفراد أسرتي الصغيرة سواي وأرجو أن تشاركني أنت وقراء بريد الجمعة هذا
الابتهال وان تدعو ابنة كاتبة رسالة مواقف الحياة الجاحدة لأبيها إلى أن تقرأ قصتي
جيدا وتفيق من غيها وحمقها وترجع إلى أبيها وتطلب صفحه وعفوه قبل أن يحل بها قصاص
السماء العادل والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
لا عجب يا سيدتي فيما تروين
عن إخوتك, فلقد علمنا الهادي البشير صلوات الله وسلامه عليه أن كل الذنوب قد
يؤخر الله منها ما يشاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإنه يعجل لصاحبه .
ولو كانت إساءة إخوتك
لأبيهم قد اقتصرت على فترة الطفولة الجاهلة أو حتى بواكير الصبا الأرعن لكان الله
سبحانه تعالى قد أعفاهم من المسئولية عنها باعتبارهم ضحايا لأم لم ترع حدود ربها
في علاقتها بزوجها وأبنائها, لكنه من الواضح أن هذه الجهالة قد تخطت مرحلة
الطفولة واستمرت في مرحلة التمييز بين الخطأ والصواب والحلال والحرام, أي مرحلة
التكاليف الدينية التي تطالب الأبناء برعاية حرمات الأب وطاعته وحسن مصاحبته .
فلا عجب إذن في أن يعجل
الله سبحانه وتعالى العقاب في الدنيا لمن عقوا أباهم وأورثوه الحسرة والمرض..
ولم يقدروا له تضحيته بسعادته الشخصية من أجلهم, خاصة وأنه لا يبدو من سياق قصتك
أن هؤلاء الأبناء قد استشعروا الندم علي ما بدر منهم تجاه أبيهم.. أو استغفروا
ربهم أناء الليل وأطراف النهار فيما جنوا على هذا الأب الصابر ولا قال قائلهم حين
بلغ الرشد وأدرك فداحة جرمه "ربنا أبصرنا وسمعنا فأرجعنا نعمل صالحا إنا
موقنون" .. كما سوف يقول يوم القيامة من أنكروا البعث في ضلالتهم في الدنيا.
غير أن ما يستحق أن يتوقف المرء
أمامه طويلا متأملا ومستعبرا هو أن يجيء برهان ربك لكل ابن أو ابنة مذكرا إياها أو
إياه بنوع جنايته على أبيه لكي تنتفي لديه كل شبهة في أن هذا العقاب لأي سبب أخر
من أسباب الدنيا سوى عقوقه لأبيه.
فيكون عقاب السماء لمن طلبت لنفسها الرفعة
بالانتساب لغير أبيها وأشعرته غفر الله لها بأنها تخجل من الانتساب إليه هو أن تشقى
بحياتها العائلية ويتورط زوجها في فضيحة أخلاقية قد تدفع أبناءه ذات
يوم إلى الخجل من الانتساب إليه بين أقرانهم .. "وما ربك بظلام للعبيد"
صدق الله العظيم.
ويكون عقاب السماء لشقيقتك
التي تحدت أباها وقهرت إرادته وأورثته المرض والشلل ومضت في مشروعها للارتباط
بزميلها بغير أن تأبه لمعارضته أو تبذل أي جهد لإقناعه به وطلب رضائه عنه منذرة
إياه بأنها سوف تفعل ما تريد معتمدة في ذلك على أهل أمها وأنه لا حاجة لها إليه
ولا إلى قبوله أو رضاه, يكون عقابها هو أن تشقى في حياتها الزوجية, وترجع بعد
رحيل الأب محسورا ومكلوما إلى الاعتماد في معيشتها وتنشئة أبنائها على معاشها من
نفس هذا الأب الذي أشعرته من قبل بأنه لا ضرورة له في حياتها ولا حاجة لها به, فكأنما
قد أراد الله سبحانه وتعالى أن يرد عليها ضلالها ويؤكد لها أنها كانت ومازالت وسوف
تظل في حاجة إلى هذا الأب الذي يمد الآن مظلته لرعايتها حتى وهو بين يدي أرحم
الراحمين .. "وقليلا ما تشكرون" صدق الله العظيم.
ويكون عقاب الابن الوحيد
الذي أدمن سرقة أبيه لصالح أمه وشاركها الاجتراء عليه والإساءة له الفشل في حياته
العملية فتحالفه الخيبة في كل مشروع يقيمه ويسرقه الآخرون في كل عمل يبدأه.. ولا
يعرف السعادة في الحياة الزوجية ولا النجاح في الحياة العملية .. "وقيل
للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون" صدق الله العظيم.
فأما هواجسك ومخاوفك من أن
يطالك عقاب السماء على مشاركتك لوالدتك في إيذاء أبيك وتسترك عليها في بعض ما ارتكبته
في حقه, خاصة وقد ترفقت بك السماء فوفقت في حياتك الخاصة حتى الآن, فإن لها ما
يبررها فيما رأيته من برهان ربك في إخوتك حتى الآن, غير أنه يخيل إلي أن إسهامك
في هذا الأذى كان أقل إلى حد كبير من نصيب إخوتك فيه, وأن معظمه كان إسهاما
سلبيا بالتستر على ما تفعله أمك في حق أبيك خوفا من بطشها, وليس إسهاما إيجابيا
في إيذائه بالفعل والقول المباشرين, ذلك إذا ضربنا صفحا عن جهالة الطفولة
ومسئولية أمك عنها, كما أن ترقبك للقصاص وتخوفك منه له جانب إيجابي آخر هو
استشعارك للجرم الذي مضي وندمك عليه واستغفارك لربك طلبا للصفح عنه.
ومن أحزان الحياة الحقيقية أن يرحل عنا من لم
نستشعر الحزن الصادق عما بدر منا تجاههم إلا بعد أن غابوا عنا وتعذر علينا
الاعتذار لهم وطلب صفحهم وعفوهم عنا, فلا يبقى لنا بعد ذلك إلا الرجاء في الله
رب العالمين أن يغفر لنا ما مضي من ذنوبنا ويعصمنا فيما بقي لنا من عمرنا
ويرزقنا أعمالا زاكية يرضى بها عنا كما جاء في الأثر عن دعاء رجل غريب سمعه
الصحابة ذات يوم وهم لا يعرفونه يدعو بهذا الدعاء في مسجد الرسول بالمدينة فرووا
عنه للرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه فأخبرهم أنه الروح الأمين جبريل عليه
السلام.
وما أفدح أخطاء الشباب الذي
لا يرى كما قال عنه أعظم شعراء روسيا بوشكين سوى قوته, فتدنيه هذه القوة من
الحياة وينغمس فيها ويذهله سحرها وأضواؤها فتختم في بعض الأحيان على بصيرته وتختلط
عليه الأمور ويعجز عن التفرقة بين النور والظلام والخير والشر والسعادة والشقاء.
غير أن هدى السماء لم يشأ
لنا أن نحترق بلسع الندم والألم إلى ما لا نهاية, فأرشدنا إلى أنه لا يلام المرء
على أمر قد تاب عنه فاعله وصحت توبته عنه وصدق ندمه عليه, وأرشدنا كذلك إلى أن إكرام
أحد الأبوين الراحلين والاعتذار له.. إنما يكون بالدعاء الصالح له في كل حين
والتصدق علي روحه والحج عنه إن لم يكن قد أدى الفريضة وإكرام صاحبه وقضاء دينه.
وبذلك يكون حزن المرء على
ما فاته الاعتذار عنه لأبيه أو أمه في حياة كل منهما صادقا وأمينا ومن ذلك النوع
الذي يقول عنه الصوفية أنه من مقامات السالكين ويبعث على الانكماش في الأعمال
السيئة والنهوض إلى الطاعات.
فليكن اعتذارك لأبيك يا سيدتي بالدعاء الصالح له
في كل حين والتصدق عليه والإشادة بفضله وتنشئة أطفالك على القيم الدينية
والأخلاقية التي أساءت إليكم والدتكم كثيرا حين أفسدت بعضها عليكم, وبغرس حب
الأب واحترامه واحترام ذكرى الجد الطيب الصالح في نفوس هؤلاء الأبناء.
مع رجائي الصادق لك أن يكون
سبب نقمتك الآن على ما فعلت والدتك بأبيك وأشركتكم معها فيه هو الندم الصادق عليه
والحزن الحقيقي على أبيك الراحل وليست فقط النقمة على ما فعلت بكم والدتكم التي لم
يأتها بعد فيما يبدو برهان ربها حين طردتكم من بيت أبيكم وحرمتكم من ميراثكم عنه .. والسلام.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2000
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر