طريق النسيان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993
أنا من قرائك الدائمين وقد أردت أن أكتب لك رسالتي هذه لأروي لأصدقائك المهمومين قصتي مع الحياة لعلهم يجدون فيها بعض ما يخفف عنهم همومم ويفيدهم في مواجهة تقلباتها .. فأنا مهندس أعمل بالأعمال الحرة وعمرى 52 عاما , وقد تزوجت منذ 27 عاما وأنجبت ابنة جامعية ومتزوجة الآن وابنة مخطوبة وتعمل مدرسة وولدا بالمرحلة الثانوية وبنتا ثالثة بالمرحلة الاعدادية وولدا صغيرا عمره 7 سنوات ولم يذهب للمدرسة لأنه طفل منغولي أي متخلف تخلفا بسيطا والحمد لله على كل حال.
وكان ابني الطالب الثانوي متفوقا في دراسته وذكيا وقد حصل على الاعدادية بمجموع 90% وعلى الدرجة النهائية في مادة اللغة الانجليزية , وواصل تفوقه في الدراسة الثانوية حتى وصل إلى السنة الثانية , ثم أحس ذات يوم ببعض الألم في رجله اليمنى فذهبت به إلى الأطباء في مدينة بالوجه البحري بها كلية طب اقليمية , ولم يجدوا فيها شيئا يلفت النظر , ثم قرر أحدهم أنها تحتاج إلى جراحة بسيطة لا تتطلب سوى اقامته في المستشفى ليوم واحد ففرحنا بذلك وأعددنا العدة لاجرائها .. وذهبت به إلى المستشفى فإذا بالأطباء يترددون في اجرائها ويطلبون تحليل عينة من ساقه .. ثم يصدمونني بأنه مصاب بمرض لعين ولابد من بتر ساقه قبل أن يمتد إلى أماكن أخرى من جسمه , وفوضت أمري إلى الله .. وسافرت إلى القاهرة لعرضه على كبار الأطباء المتخصصين وسابقت الزمن لاجراء عملية البتر قبل فوات الأوان .. وبعد إجراء الفحوص المختلفة صارحني الأطباء بأنه لم يعد في الامكان بترها لأن المرض قد امتد بالفعل ولم تعد تجدي معه جراحة ولم يبق لابني من العمر إلا مهلة تتراوح بين ستة شهور وسنة واحدة !
يا ربي .. في أسبوع واحد ما بين أول شكوى من الألم , وما بين هذه الحقيقة القاسية يقال لي : لا أمل في ابنك الشاب الطيب الوديع البشوش المتفوق دائما في دراسته !.. وماذا أفعل حين يقال لي ذلك ؟ وامتثلت لقضاء الله وقدره .. وكتمت الخبر الأسود في صدري ولم أبح به لزوجتي أو لأحد من أفراد أسرتي وطويت قلبي على أحزانه .. ورددت لنفسي ما أؤمن به عن يقين من أن الأعمار بيد واهبها وحده سبحانه , ولهذا فلابد من المضي في مشوار العلاج حتى النهاية وواصلت المشوار بلا كلل .. وكلما ذهبت به إلى طبيب جديد دخلت إلى مقابلته قبل ابني ونبهته إلى أنه لا يعرف بحالته لكي يراعي ذلك في حديثه معه.
والحمد لله لم يعرف ابني بحقيقة مرضه .. فقد كنت أدعو الله لابني بثلاث أمنيات هي أن يشفيه الله من مرضه وأن يخفف عنه آلامه .. وألا يعرف بطبيعة مرضه ذات يوم ..
ووجدت نفسي أحمل في صدري أحزان الدنيا كلها .. وساءلت نفسي ماذا عساي أن أفعل وصدري يضيق بما ينطوي عليه ؟.. فوجدت الاجابة في أنه لا مهرب من الله .. إلا إليه .. وأكثرت من قراءة القرآن ففيه شفاء لما في الصدور وأصبحت أتم قراءته مرة كل أسبوع . ثم تطلب علاج ابني دخوله أحد المستشفيات الاستثمارية في القاهرة أكثر من مرة .. وكان علي ألا أهمل في نفس الوقت عملي وهو مصدر رزقي الوحيد فكنت أسافر من بلدتي صباح كل يوم إلى مواقع العمل في المحافظات المختلفة ثم أسافر منها عصرا إلى القاهرة لأرى ابني وأمضي معه ساعات ثم أتركه آخر الليل في رعاية أمه أو أحد أقاربه وأعود إلى بلدتي وأنام في بيتي والتليفون بجواري مترقبا وخائفا مما سوف يحمله لي بين لحظة وأخرى من أنباء حزينة.
ومع قسوة ما عاناه ابني من آلام فقد كان حين يراني داخلا إليه حزينا ومهدودا يسري عني ويطالبني بألا أحزن .. ويقول لي : اصبر بحكم ربك يا بابا .. والغريب أنه لم يفقد بشاشته ولا ابتسامته ولا الأمل في شفائه لحظة واحدة حتى أنه طالبني بدفع رسوم مدرسته في موعدها حتى لا يفصل منها .. وهو لا يدري أنه على وشك الفصل النهائي .. من مدرسة الحياة كلها.
وكان بين فترات العلاج تتحسن حالته قليلا ويغادر المستشفى لأيام أو أسابيع .. فقررت أن يؤدي معي العمرة ليقف معي بالبيت الحرام .. وفي الروضة الشريفة .. وندعو له الله بالشفاء .. وأتممت اجراءاتها له وحددنا يوم السفر وقبل يومين فقط من موعده دخل المستشفى وتدهورت حالته في اليوم التالي فظل طوال اليوم يحمد الله كثيرا .. ثم قرأ الفاتحة والمعوذتين وراح يردد دعاء سيدنا يونس "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين".. ثم ردد الشهادتين عدة مرات .. ثم استراح من آلامه إلى الأبد رحمه الله وأحسن ثوابه وعوضنا فيه خيرا.
وودعناه يا سيدي إلى مأواه الأخير وعدت بعد فترة العزاء إلى عملي فاندمجت فيه محاولا النسيان وأكثرت من قراءة القرآن والأحاديث والتفسير وتذكرت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :"أكثركم ابتلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل " .. وتذكرت الآية الكريمة من سورة العنكبوت "أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون" واسترجعت الحديث القدسي الذي يقول :"إذا ابتليت عبدا من عبادي بمصيبة في ماله أو نفسه أو ولده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزانا أو أنثر له ديوانا ".
ثم ذهبت لأداء رحلة العمرة التي كانت محجوزة قبل أن يتم القضاء وغاب عنها شريكي فيها رحمة الله , ووقفت بباب الملتزم وغسلت أحزاني بدمعي وبكيت حتى ارتويت .. وكلما تذكرت في موقفي بالملتزم أحد أصدقائي أو أقاربي دعوت الله له ألا يريه ما أراني.
وفي موسم الحج اصطحبت زوجتي إلى الرحلة المقدسة لنكون ضيوفا على الرحمن ونسأل مضيفنا الصبر والمغفرة وعدت ونفسي راضية .. ومارست حياتي وعملي وكلما عاودتني الذكرى أو أحسست بغصة الحزن والألم .. نهضت لفوري وفي أي مكان وجدت فيه فتوضأت وقرأت القرآن وأديت الصلاة ودخلت مع الله في التحميد والتهليل والدعاء لابني بالرحمة مع والدي .. فتطيب نفسي وتهدأ جراحي واستعيد هدوئي .. وهذه هي نصيحتي يا سيدي لكل قرائك المعذبين والمهمومين الذي أكتب لك رسالتي هذه من أجلهم .. أن يغسلوا بالصلاة والقرآن والحمد والتكبير والتهليل جراحهم وأحزانهم .. ويسألون الله من فضله أن يؤجرهم في آلامهم ويعوضهم عنها خير الجزاء , وينتظروا ذلك بأمل لا يخيب في الله .. فالحق أن أملي كبير في أن يدخلني هذا الابن الراحل جنة الله التي وعد بها عباده الصابرين والحمدلله كثيرا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولــكـــاتـــب هـــذه الــرســـالـــة أقــول:
لم تعرف البشرية طريقة لاحتمال الأحزان ومحاولة نسيانها أفضل مما فعلت أنت يا صديقي .. وهي آخر ما انتهى إليه علم النفس حتى الآن .. وتتمثل في التسليم أولا بقضاء الله ثم الفرار من قضاء الله إلى قدره , والالتجاء إلى من بيده وحده أن يشفي الجراح ويخفف الأحزان وطلب عونه عليها والاعتصام بالصلاة وذكر الله كلما هاجت بالإنسان الذكرى , مع الاندماج الكلي في العمل والانغماس في مباراة الحياة والمشاركة في مناسباتها الاجتماعية للتشاغل عمدا عن الأحزان ومراوغتها تجنبا لخلو الذهن مما يشغله فيتفرغ لاجترار الأحزان , فالذهن البشري مهما كان عبقريا لا يتسع لغير ما يهتم بأدائه في نفس اللحظة , وإذا استغرق في أداء شئ ما بتركيز شديد نال إجازة قصيرة من أحزانه وهمومه , وإذا توالت هذه الإجازات وتلاحقت نجا الإنسان إلى حد كبير من الانفراد بهمومه والاستسلام لها .. لهذا نرى دائما العاملين المشغولين بأعمال ونشاطات متعددة أقدر على نسيان التجارب الأليمة وأسرع ممن يجدون أوقاتا طويلة لمعايشة أحزانهم وهمومهم . والإيمان بالله والتسليم بقضائه وقدره يحميان الإنسان من الغرق في بحار الحيرة والشك والوقوع أمام التساؤل الخادع : لماذا حدث ما حدث ؟ .. ويحملانه فوق طوق الإيمان إلى شاطئ الأمان حيث يتجاوز المرء هذا التساؤل الخادع إلى التساؤل عما يستطيع أن يفعله لكي يتحمل ما حدث ويتعايش معه , فيغرق الحائرون والمتشككون في بحر القنوط حتى نهاية العمر .. وينجو المؤمنون منه ويمسح الله على جراحهم وأحزانهم ويعوضهم عما لاقوه خيرا في الدنيا وفي الآخرة , وهذا هو فضل الإيمان في كل العقائد السماوية , ففي "الكوميديا الإلهية" للشاعر العظيم دانتي يقول لنا : إنه ليس هناك أضل من إنسان يأخذه الأسى أمام قضاء الله "أي الأسى والرفض والاستنكار" , ولقد اهتديت أنت يا صديقي إلى هذه الروشتة الحكيمة لمداواة الأحزان .. بإيمانك ووجدانك الديني السليم فاحتميت بمن لا يرد أحدا عن حماه .. وسألت من لا يسأل سواه فهداك إلى طريقه ومد إليك يده , وصاحب الحزن "كما يقول العارف بالله أبو على الدقاق" يقطع من طريق الله في شهر , ما لا يقطعه غيره في سنين .
ومن علامات هذا الطريق الذي قطعته حسن الظن بالله فهو من مقامات اليقين كما يقول الصوفية .. ولابد أن يكون الله سبحانه وتعالى عند حسن ظن عبده به .. فيعينك على أمرك ويجزيك عن فقده خيري الدنيا والآخرة , وشكرا لك على رغبتك الإنسانية في أن تعرض تجربتك الحزينة على المهمومين والمبتلين ليهتدوا بطريقك ويستفيدوا منه .. خفف الله عنك وعنهم وعن الجميع الأحزان والآلام.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" ديسمبر 1993
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر