ابتسامة الألم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992
أنا سيدة نشأت في أسرة ميسورة
بين أبوين صالحين يخافان ربهما .. يشغل أبي مركزا مرموقان وكانت أمي تعمل بوظيفة
محترمة ثم استقالت لتتفرغ لتربية أولادها الأربعة وهم بنتان وولدان يصغرننا بعدة
سنوات .. وكان الفارق بيني وبين أختي الكبرى عاما واحدا فنشأنا صديقتين ومتلازمتين
في مراحل الدراسة وكل أمور الحياة، وقد وهبنا الله جمالا لافتا للانظار فكنا محل
اهتمام الشباب والرجال في كل مكان نظهر فيه .
وكنت دائما فخورة بجمالي واختال
به على زميلاتي .. وحين التحقنا بالجامعة كانت أختي لا تغار من تقرب الشباب مني ولا
لأني أفوقها جمالا لافتا للانظار وإنما كانت توجه لي النصح وامتازت بشخصيتها
القوية المهذبة وخفة روحها .. وإحساسا مني بتفوقي في الجمال والأسرة فقد تجاهلت
دائما محاولات الشباب العاديين للتقرب مني .. واتجه تفكيري إلى ضرورة الارتباط بشاب ثري جدا بل غاية في الثراء
لكي أعفي نفسي من متاعب الحياة التى يواجهها الفتيات والشباب المكافحون عند
الزواج.
ثم حدث أثناء دراستي بالكلية أن
سافرنا إلى المصيف فتعرفت وأختي على الشاطئ بشابين انجذب أحدهما إليها وأبدى الآخر
اهتماما كبيرا بي .
وفي جلساتي مع أختي أبديت لها
رأيي بصراحة وهو أن فتاها لا يصلح للارتباط بها لأنه بسيط الحال بالرغم من دماثته
وقوة شخصيته في حين أن صديقه ربما يصلح لي لأن ظروفه المادية والاجتماعية أفضل منه
كثيرا .. وتكررت اللقاءات على الشاطئ ووقع المحظور ووقعت أختي الجميلة في هوى هذا
الشاب وبدأت تتحدث عنه باعجاب , وكان أكثر ما أعجبها فيه هو أنه عزيز النفس ووقور
ومثقف وطيب , وعدنا من الاسكندرية وبدأ هذا الشاب يتصل بأختي يوميا ويشعرها بحبه
ورجولته ويترجم مشاعره لها من حين لآخر بهدية بسيطة ترضي أنوثتها .. في حين غيرت
أنا رأيي سريعا في صديقه ونفضت يدي منه بعد أن وجدت من هو أفضل منه وكان شابا من
أسرة فاحشة الثراء وخلال ذلك كنت أرقب تجربة أختي باهتمام .. وأدهشني أن فتاها رغم
فقره كان يغدق عليها بالهدايا الصغيرة وأن ملابسه تعكس ذوقا جميلا رغم بساطتها .
وجاءت اللحظة التي ينبغي أن
يتقدم فيها لأسرتي .. وانفجرت المشكلة الكبيرة إذ كيف لشاب بسيط كهذا الشاب أن
يحلم بأن يكون صهرا لها .. وتمسكت أختي بفتاها وكان أبي كالعهد به حكيما ويعرف
حدود ربه فطلب أن يلتقي بهذا الشاب أولا وجلس معه جلسة طويلة في النادي وتحدث معه
بترحيب وبغير أن يجرح مشاعره وحاول أن يتعرف على شخصيته وبعد عدة لقاءات بينهما ,
أعلن ارتياحه له ووافق على خطبة أختي له .. وسعدت أختي بذلك سعادة لا توصف أما أنا
فقد نزلت علي موافقة أبي كالصاعقة بالرغم من تقديري لمشاعر أختي وازداد اكتئابي
حين جاءت أسرته البسيطة لخطبتها ولم يخفف من معارضتي الخفية ما لاحظه الجميع عليها
من أنها أسرة طيبة يجمعها الحب والرضا والتفاهم .
وبدأت اتزعم جبهة المعارضة السرية
لاتمام هذا الزواج داخل أسرتي وزادني حماسا لذلك أن الشاب الثري الذي اخترته
وفضلته على الآخر قد رفض أن يتقدم لخطبتي استياء من ارتباط أختي بخطيبها وأسرته
البسيطة .. أو هكذا قال ولست أعرف على وجه التحديد كيف انسقت وراء نوازعي بلا
مقاومة فرحت أدبر المكائد لهذا الشاب الطيب الذي أحب أختي بإخلاص .. في نفس الوقت
الذي كان يعتبرني فيه نصيرته داخل الأسرة لأني شهدت بداية قصته مع أختي وكان من
المحتمل أن اكون خطيبة لصديقه، لكني انسقت وراء هذه النوازع للاسف واستسلمت لها ..
وكنت ابتسم له وأعامله بود في حين أكيد له في الخفاء واظهر عيوبه لأمي وأبي وإخوتي
وأهمها فقره وعجزه عن أن يوفر حياة لائقة لأختي .
ثم تطور الحال بي فبدأت أتعمد إحراجه
أمام أسرتي لإظهار عجزه ولإجباره على أن ينسحب من حياتنا وتماديت في ذلك إلى حد
إيلامه واشعاره بالاهانة في مواقف كثيرة شديدة الحرج مازلت أتعجب من نفسي كيف جرؤت
على تعريضه لها .. ولم يخفف من رغبتي الشريرة هذه في إحراجه وإيلامه رؤيتي له
وحبات العرق تتجمع شيئا فشيئا فوق جبهته وابتسامة الألم وهي تنكمش تدريجيا فوق
وجهه وتعكس ما يحس من مرارة تجاهي وأنا من كان يعتبرها صديقة له بل ولم أشفق عليه
حين كان يأتي مبتهجا وسعيدا .. فلا يلبث أن يكتئب بعد قليل ويخرج مهموما وأختي تلاحقني
بنظراتها الغاضبة وتحاول عبثا أن تخفف عنه وتقاطعني بعد انصرافه مستاءة مني .. ولا
تقتنع بدعوى أني أفعل ذلك لصالحها ومن أجل مستقبلها .. ولم يردعني عن الاستمرار في
ذلك أنه لم يكن يرد لي هذه الاهانات ولا يغير معاملته معي وأنه يقول لاختي دائما
"ربنا يسامحها ويغفر لها " ثم يسامحني بعد ذلك فعلا على ما فعلت معه
وتبلغنى أختي بذلك فلا ازداد إلا ضيقا !
واستمر الحال هكذا عدة شهور ثم تمت خطبة أختي في
حفل بسيط جدا وكانت سعادة أختي وخطيبها خلاله لا توصف بعد أن نجحا أخيرا في تحقيق
هدفهما .
وجن جنوني بعد خطبتها فبدأت
أجري وراء الدجالين وقارئي الحظ إذ كيف تخطب أختي وأنا مازلت خالية الوفاض رغم
جمالي الباهر !
وبعد عام طويل من الطواف على
الدجالين تعرفت على شاب من أسرة فاحشة الثراء أيضا كان يدرس في الخارج وعائدا لتوه
من هناك ووجدت فيه بغيتي من ناحية الأسرة والثراء والشكل الوسيم وانجذب هو إلي
سريعا وجاءت أسرته لخطبتي فكان الفارق هائلا بين الخطبتين والأسرتين في كل شئ !
ولم أدخر أنا من ناحيتي أي وسيلة لإشعار أختي وأسرتي بالفارق الشاسع في الإمكانيات
والأسرة بين خطيبي وخطيبها فلا تفعل أختي شيئا سوى أن تتمنى لي السعادة مع من
اخترت .
وتوالت المفارقات الصارخة بين
خطبتي وخطبتها فأهداني خطيبي سيارة فاخرة مع خاتم الخطبة .. تهت بها فخرا وسعادة
وخلال شهور قليلة كان قد أعد مسكن الزوجية الراقي من 6 غرف وأثثه بأثاث فاخر ..
وتم حفل الزواج في أكبر فنادق العاصمة وتكلف الكثير .. وأمضينا ليلتين في الفندق
الكبير ثم سافرنا في رحلة جميلة لشهر العسل في الخارج .. وكل ذلك أختي مازالت
مخطوبة وهي وخطيبها يعدان الجنيهات لايجاد الشقة .. وتقسيط باقي ثمنها وشراء
الأثاث البسيط ودفع مقدم له وتقسيط الباقي .. وينشغلان كل يوم بشراء شئ بسيط و
"يسافران" إلى الاحياء البعيدة لشراء شئ أرخص بضعة جنيهات من ثمنه في
وسط المدينة .. إلخ .
وبعد عامين من زواجي ومن هذه
المعاناة تزوجا في شقة صغيرة .. ومضت السنوات بي وبأختي ولاحظت سعادتها مع زوجها
رغم بساطة حياتهما وفي كل عام يغيران شيئا فشيئا في شقتهما ويحتفلان بذلك مع
أطفالهما احتفالا بهيجا .. وعاما بعد عام راح يتقدم في عمله وتنفتح أمامه أبواب
الرزق .. إلى أن فاجأنا باصطحاب أختي وأمي وأمه إلى الحج على نفقته مكافأة لأسرتي
على ترحبيها به وقد نسى كل شئ لكل من أساء إليه وأحب أسرتي من قلبه كأنها أسرته ..
وأصبح الصديق الأول لأبي وإخوتي وأمي .. أما أختي فقد أصبحت موضع حسد كثيرات لحسن
معاملة زوجها لها فهو يخاف على احساسها ومشاعرها في غيابها قبل حضورها وعلى
استعداد دائما لأن يبذل نفسه من أجلها ومن أجل رضا ربه ورضا والديه وسعادة أولاده
.
ولــكــاتــبة
هــذه الــرســالـة أقــول:
أسوأ ما في الطبائع البشرية هي
أن نعاير البعض بعجزهم عن أن يشّرفوا أنفسهم أمام الآخرين في مناسبات الحياة
الأساسية.
كأننا نعتبر بذلك عجز العاجزين
هو خطيئتهم الشخصية التي اختاروها لأنفسهم بمحض إرادتهم .. وقدرة القادرين هي
امتيازهم الذي "نالوه" لجدارة خاصة فيهم أو على "علم عندهم"
كما قال من قبل أحد كبار المغرورين بنعمة الله عليه .. فخسف الله به وبماله الأرض. إنني أفهم يا سيدتي أن نعيب على المتكاسلين على
الكفاح كسلهم وتقاعسهم .. أو على البخلاء تقتيرهم على أنفسهم وذويهم وعلى الآخرين
ممن فرض الله لهم فى أموالهم حقا معلوما .. لكني لا أفهم أبدا كيف يمكن أن تكون
بساطة البسطاء هي عارهم الشخصي الذي يحق لنا أن نعذبهم ونتلذذ باحراجهم به حتى
تكسو وجوههم قطرات العرق وابتسامة الألم والمرارة، كما كنت تفعلين فى جاهليتك
السابقة مع خطيب شقيقتك .
إن الواضح يا سيدتي هو أن زوج
شقيقتك من أسرة طيبة فاضلة ومن مستوى اجتماعي ليس بعيدا عن مستوى اسرتك بدليل اقتناع
أبيك به لكنه كملايين من الشباب غيره لم يكن "فاحش الثراء" ولا قادرا
على صنع المعجزات .. وأنت فيما يبدو قد وقعت تحت تأثير الاحساس المغالى فيه بجمالك
في وهم الاقتناع بأنك وشقيقتك ينبغي لكما ألا تتزوجا إلا زيجات فاخرة تتلاءم مع
مستوى جمالكما وليس من شباب عاديين .. كما تتوهم بعض الجميلات فيعرضن عن الشباب
الملائم لهن .. لكن شقيقتك قد نجت من تأثير هذا الوهم مبكرا وأحبت إنسانا عاديا
وأحبها .. وعرفت الحقيقة الكونية التي يتجرع البعض كؤوس الشقاء قبل أن يعرفوها وهي
أن الهناء العائلي هو أساس السعادة في العالم وبدونه لا قيمة لمال ولا نجاح ولا
بريق .. وهكذا استوهبت شقيقتك ربها السعادة الحقيقية فوهبها لها .. وبحثت أنت عن
مثلك الأعلى في الزواج الفاخر بغض النظر عن اعتبارات القلب وتحري مدى تمسك خطيبك
بالقيم الدينية والأخلاقية .. فاعطيت ما أردت وكان لكل منكما ما أرادت ولكل منكما
ما سعت إليه .
وحكيم الهند وفيلسوفها غاندي
كان يقول أننا قد نبحث أحيانا عن السعادة وهي بين أيدينا كما يبحث المرء عن نظارته
وهي معلقة فوق أنفه !
وأنه لهذا فقد يوغل البعض في
البعد عن السعادة الحقيقية وهو يتصور أنه يمضي إليها ويجد الخطى في الطريق إليها.
ولسنا هنا في مجال تكرار الحديث
عن السعادة الحقيقية وكيف أن الثراء الفاحش الذي كنت تبحثين عنه لم يكن يوما هو
ضمان السعادة ولا مانحها .. وإنما أقول لك فقط أننا نتعلم الحكمة ونعرف حقائق
الحياة الصحيحة غالبا بتجارب الألم .. وأنت الآن يا سيدتي قد عرفت أولى حقائق
الحياة الصحيحة وهي أنه : "لأن تكون سيدا فى كوخ .. خير لك من أن تكون خادما
فى قصر" كما قال قديما أحد الحكماء .. وكل إنسان يبيت ليلته راضيا عن ربه
ونفسه وحياته وأسرته هو سيد في كوخه أيا كان مستوى هذا الكوخ .. وكل إنسان حرم من
سعادة القلب وراحة الضمير والاحساس بالأمان هو غير ذلك أيا كان مستوى قصره .
ومن علامات الطريق الصحيح أيضا
أنك قد أدركت الآن عمق الألم والمرارة التي كنت تتسببين فيهما لهذا الشاب الذي لم
يرتكب جريمة حين أحب أختك وأحبته وأراد أن يقيم معها عشا صغيرا .
والندم الصادق يا سيدتي هو
سفيرنا إلى الله سبحانه وتعالى ودعاؤنا له بأن يعفو ويغفر والاعتراف الأمين بما كان
هو اعتذارنا إلى من أخطأنا في حقهم راجين الصفح والسماح , واعتذارنا أيضا للحياة
عما أسأنا إليها فيه بتشويهنا لبعض مثلها العليا حين أعلينا قيمة الثراء الفاحش
وحده على باقي القيم .. وما هو كذلك .. ولا ينبغى أن يكون.
إنني أنصحك بأن تكتبي إلى أختك وزوجها .. وأن تحرصي على مودتهما والاتصال بهما وأن تصبري على النفوس الجريحة حتى تصفو .. ولسوف تصفو سريعا بإذن الله .. كما أنصحك بألا تقارني بين حياتك وحياتها بما يزيد من شجونك لأن العين لا تثبت أحيانا إلا على ما ينقصها .. ذلك أن لكل إنسان من حياته ما يرضيه ومن ظروفه الخاصة ما يشقيه .. ويبقى دائما لكل إنسان ما تهفو نفسه إليه وما يردها عن التطلع إليه وما يدعوها إلى الرضا به .. فليتقبل الله منك .. وليلهم زوجك الصواب والرشاد ويهديه إلى ما فيه خير نفسه وأسرته وأبنائه .. وشكرا لك .
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" يناير
1992
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر