رأس النعامة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2002
يكتب إليك كثير من
قرائك عن مشاكل الرجل العاطفية حين تتقدم به السن فتهمله رفيقة عمره, أو تهمل
الجانب العاطفي من علاقتها به لحساب الأبناء والأحفاد, وأنا أحد هؤلاء الذين
أهملتهم زوجاتهم ليس حين تقدمت بي السن وإنما منذ عشرين عاما, وحين كنت في
عنفوان رجولتي, إلى جانب أنني وعلى مدى40 عاما من زواجنا لم أسمع منها ذات يوم
كلمة حلوة ناهيك عن أن تكون كلمة حب, وبالرغم من أنني أحبها حبا جما وممتليء
بالعواطف الفياضة وقادر على العطاء العاطفي فإنني افتقدت تماما زوجتي في هذا
الجانب نظرا لأنها حادة الطبع وسليطة اللسان وجافة العواطف ومتبلدة الحس ولها
شخصية نرجسية تعشق ذاتها إلى حد لا يتصوره عقل.
ومنذ أكثر من 18
شهرا التحقت بالعمل لدي موظفة شابة عملت تحت إشراف مرءوس لي .. وبعد سبعة شهور
من التحاقها بالعمل اقتضت ظروف العمل أن تعمل معي لبعض الوقت, فاقتربت بذلك مني
وأصبحت تتردد على مكتبي ونجلس معا لنتدارس أمور العمل بل وخرجنا معا لأداء بعض
الأعمال المهمة فكان الحديث يدور بيننا في سيارتي حول أمور خارج نطاق العمل,
وبدأت أرى فيها شخصية محببة إلى النفس من حيث رقة المشاعر ودفء العاطفة وطلاوة
الحديث.. لكنني قاومت انجذابي إليها بشدة لكيلا أنزلق إلى ما لا تحمد عقباه,
وبدأت هي تستدرجني إلى ما هو أبعد من علاقة صاحب العمل بموظفة لديه فصددتها بشدة
وبأدب شديد في نفس الوقت .. وأفهمتها مرارا وتكرارا أنني زوج منذ أكثر من40
عاما وزواجي مستقر.. وأنها أصغر من أصغر أبنائي ولا يسمح فارق السن الكبير بيننا
بأي ارتباط, لكنها ازدادت إصرارا وباحت لي بأنها كانت في البداية معجبة بي ثم
تطور هذا الإعجاب إلى حب, وأنها لم تشعر في تعاملها معي بفارق السن بيننا ولا
تفكر إطلاقا فيه.. حيث أنني كما قالت أكثر شبابا من أي شاب!
والحق أنني كنت قد
تعلقت بها لكني كتمت مشاعري وأحاسيسي عنها.. فظلت هي تضغط وأنا أكتم إلى أن جاء
يوم واعترفت لها بأنني بالفعل أحبها!
ومنذ تلك اللحظة
تطورت علاقتنا إلى لقاءات خارج العمل ونزهات وتناول وجبات الطعام معا, حتى أهملت
تناول الطعام في البيت, كما بدأت أفتعل المبررات للخروج معها في مهام خارج
المكتب بل والسفر أيضا إلى خارج المدينة بدعوى إنهاء المصالح.
وعشت أياما وشهورا
من أحلى أوقات العمر لم تشعر هي خلالها إطلاقا بفارق السن بيننا حيث كنت أتصرف
معها بروح شاب في الثلاثينيات من العمر ونذهب معا لدور السينما والملاهي ونستقل
المراكب في النيل وننطلق في كل مكان معا كأي شابين متحابين متقاربين في السن,
حتى أبدت هي نفسها دهشتها لأنها لم تكن تتصور أن أكون بهذا المرح والصبا على عكس
شخصيتي في العمل التي تتسم بالاتزان والرزانة والصرامة.
وخلال ذلك دخلت بيتها بدعوى توصيلها عند تأخرها
ولم أجد إلا الترحيب من أهلها.. وشجعني ذلك على دعوتهم للغداء من حين لآخر, ثم
بدأت أقدم لها الملابس والهدايا بل والمصوغات أيضا.. كما اهتممت بها من الناحية
الصحية حيث كانت تشكو من بعض المشاكل فاصطحبتها إلى كبار الأطباء, وفي هذه الفترة
عرضت هي علي أن نتزوج رسميا ولكن بدون علم أهلها لأنهم لن يقبلوا أبدا بزواجي منها
في هذه المرحلة لفارق السن بيننا لكنه إذا تزوجنا سرا ثم أجريت أنا بعض الترتيبات
لتأمين مستقبلها, فإنها تستطيع أن تواجههم في الوقت المناسب بزواجها مني..
لكني رفضت هذه الفكرة وأردت أن يكون زواجنا بعلم أسرتها وليس خفية عنها ورأت هي
صعوبة ذلك, وطلبت مني أن نتزوج عرفيا وأن نؤجر شقة مفروشة إلى أن أقوم بشراء شقة
خاصة بها وتأثيثها تأثيثا كاملا وتأمين مستقبلها بصورة تجعل أسرتها تتغاضى عن فارق
السن بيننا وتقبل بزواجنا.. واقتنعت بوجهة نظرها واستأجرت الشقة المفروشة
وتزوجنا عرفيا وعشنا معا أياما من أحلى الأيام .. ومن حين لآخر تذكرني زوجتي
الشابة بأنني لم أفعل شيئا بعد في موضوع شراء الشقة الموعودة, وأنه يخيل إليها
أنني لن أفعل شيئا فيه ويوما بعد يوم بدأت تختلف بعض الشيء في تعاملها معي وبعد أن
كانت لا تطلب مني شيئا.. وأبادر أنا دائما بشراء الأشياء لها بغير طلب منها..
بدأت هي تطلب كل يوم طلبا جديدا حتى طلبت أن أشتري لها سيارة صغيرة لأنها لم تعد
تتحمل ركوب المواصلات العامة أو سيارات الأجرة, فإذا لم ألبي بسرعة بعض هذه
الطلبات راحت تقول لي أنها قد أصبحت رخيصة في نظري بعد أن أخذت ما أريده منها دون
مقابل, ولهذا فلم أعد أهتم بطلباتها.
وفجأة ودون سابق إنذار انقلبت حياتنا رأسا على عقب, فلقد كنت
أقوم بتوصيلها ذات مساء إلى بيتها بعد زيارة للطبيب ففوجئت بمقابلة جافة للغاية من
أسرتها .. وفي
اليوم التالي جاءتني هي وطلبت مني الامتناع عن الاتصال بها في بيت أسرتها.
والامتناع كذلك عن توصيلها وعن زيارتها في البيت لأنها قد تعرضت للوم شديد من
أسرتها التي تقول لها أن الجيران يتساءلون عن هذا الرجل الذي يرونه معها في وقت
متأخر, ولأن أسرتها أيضا قد حذرتها بشدة من مجرد التفكير في الارتباط بي لفارق
السن بيننا, وأكدت لي أنه قد وقعت مشادات عديدة بينها وبين أبيها وأمها بسببي
وأن أبويها لن يوافقا أبدا على زواجنا وقد يسقطان صريعين إذا علما بزواجنا العرفي
السري .
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
لا أستطيع الحكم على النيات ولا التفتيش في الضمائر لإستنطاق المكنون داخلها والاطلاع عليه .. لكني أستطيع على الأقل أن أضع أمامك بعض الحقائق التي قد تعينك على فهم حقيقة ما جرى وما صعب عليك استيعابه.والحقيقة الأولى هي أن البداية التقليدية بإدانة رفيقة العمر واتهامها بجفاء المشاعر وتبلد الأحاسيس والنرجسية حتى ولو كان صادقا فإنه لا يجيز لرجل في قمة العمر مثلك ويتصف بالرزانة والحسم والاحترام أن ينزلق إلى مثل هذه القصة المخجلة مع فتاة تصغره في السن بأربعين سنة على الأقل وما هذه الإشارة إلى جفاء زوجتك وشريكة حياتك في بداية قصتك إلا حيلة نفسية مفهومة من جانبك للتبرير والتماس العذر لنفسك فيما تورطت فيه وتشعر في أعماقك بأنه لم يكن ليليق بك.
والثانية: هي أن المثل الصيني القديم يقول لنا أن من يريد الحصول على أشبال النمر عليه أن يدخل عرينه, بمعنى أن يواجه خطر انقضاض النمر عليه وافتراسه قبل أن يظفر بأشباله وأن يقبل بهذه المخاطرة المهلكة في سبيل الحصول على ما يريد فإذا طبقت هذا المثل الصيني على قصتك مع هذه الفتاة وقصص الآخرين من بعض أصحاب الأعمال أو المديرين مع موظفات يصغرنهن غالبا بثلاثين أو أربعين سنة, لقلت لك أن من يريد كذلك أن يشتري الشباب المنقضي ويطرب بالزهو المؤقت بإعجاب فتاة تصغره بأربعين سنة بمرحه وصباه وبحيويته التي تفوق حيوية الشباب كما زعمت لك تلك الفتاة عليه أن يقبل بأداء تكاليف ذلك راضيا وهي تكاليف تتجاوز بكثير النزهات والهدايا الصغيرة وركوب المراكب في الليالي القمرية وارتياد المطاعم لكنك في غمرة زهوك باندهاش هذه الفتاة بمرح شخصيتك وشبابك لم تنتبه إلى أنك أمام فتاة عملية اختارت أن تحقق أهدافها في الحياة عن طريقك فعرضت عليك أن تتزوجها رسميا بغير علم أسرتها على أن تشتري لها شقة وتؤمن مستقبلها, وحين ترددت بعض الشيء في القبول عرضت عليك الزواج العرفي السري الذي لا يكاد يختلف في شيء عن العلاقة الآثمة على أن تؤجر لها مؤقتا شقة مفروشة إلى أن تشتري الشقة الموعودة وتؤثثها وتؤمن لها مستقبلها ماديا لكي تضع أسرتها بعد ذلك أمام الأمر الواقع, فرحبت بهذا الحب.. في غمرة تلهفك عليها.. وارتبطت بها ونهلت من رحيقها.. وانتظرت هي أن تأتي لها برأس النعامة الذي وعدتها به فإذا بك تتمهل وتراجع حساباتك.. وتستثقل فاتورة المتعة بل وتنتابك الدهشة لكثرة مطالبها منك بعد الزواج السري.. وعجزك عن ملاحقتها بالسرعة الكافية.. مع أن هذه المطالب نفسها جزء أساسي من صفقة الزواج السري بين فتاة في أوائل العشرينيات ورجل في أوائل الستينيات وزوج منذ40 عاما, وأب لأبناء يكبر أصغرهم هذه الفتاة المتطلعة للحياة المريحة على حساب أبيهم.. فما وجه العجب في ذلك اللهم إلا أن تكون قد صدقت معزوفة الحب المبرأ من الغرض الذي أغرى هذه الفتاة الصغيرة بالارتباط بك؟
لقد روي الحكيم الإغريقي أيسوب في خرافاته الشهيرة, قصة طريفة عن أنثى النسر التي شكت ذات يوم لذكر الحدأة من أنها لا تجد الزوج الكفء الكريم الذي يليق بها فعرض عليها ذكر الحدأة نفسه, وسألته أنثى النسر: هل يستطيع كسب عيشه وتوفير الحياة الكريمة لها فأجابها: ماذا تقولين؟ إنني أصيد النعامة الكبيرة بمخالبي هذه وأحملها في الهواء إلى عشي! فقبلت بالزواج منه, وبعد أيام طلبت منه أن يصيد لها نعامة تغتذي بلحمها.. فحلق في الهواء ثم رجع إليها وفي مخالبه فأرة صغيرة ميتة هي كل ما تسمح له قدراته بحملها وصيدها .. فسألته مستنكرة: أهذا وفاؤك بالوعود؟
فأجابها: أنني في سبيل الفوز بك لم أكن لأحجم عن أن أعد بأي شيء حتى ولو علمت بعجزي عن القيام به! ومن وجهة نظر هذه الفتاة العملية فإنك قد كررت مثال ذكر الحدأة مع أنثي النسر.. ووعدتها برأس النعامة.. فإذا بالتجربة معك تسفر عن فأرة صغيرة لا أكثر.
ولأن فهم كل شيء يجلو غموضه ويفسره فإن منطق الفتاة التي تتزوج من رجل يكبرها بأربعين سنة أو أكثر حتى ولو كانت صادقة الحب له في أحيان نادرة, هو أن رحلة القطار معه ستكون قصيرة مهما تطل, تسليما بحقائق الحياة والزمن, وبالتالي فلابد من أن تتطلع لتأمين مستقبلها معه حتى إذا حانت اللحظة المحتومة لم تغادر القطار بغير متاع يعينها على استكمال رحلة السفر بوسائط أخرى ومن يقبل بقواعد اللعب من البداية لا يحق له أن يشكو من تداعياتها في المستقبل ومشكلتك يا صديقي أنك لم تستوعب جيدا قواعد اللعبة في غمرة النشوة بإعجاب الفتاة الصغيرة وحبها لك.
وبغض النظر عما إذا كانت فتاتك صادقة العزم على إنهاء قصتها معك أو أنها تضغط عليك بالهجر المؤقت لكي تستجيب لمطالبها المادية الباهظة وتدفع فاتورة شراء الشباب كاملة.. فإن المحصلة واحدة.. وهي أن عليك أن تراجع موقفك وقصتك مع هذه الفتاة فإذا كانت صادقة النية في طي هذه الصفحة الشائنة من حياتها فمن واجبك أن تعينها على تصحيح مسارها في الحياة, وعلى أن تبدأ حياة طبيعية مع شاب مقارب لها في السن.. وتكفر عن هذا الخطأ الجسيم في حياتها, وإن لم تكن كذلك فمن واجبك أيضا أن تصمد لضغوطها عليك للاستجابة لمطالبها, وأن تطوي أنت هذه الصفحة المخجلة من حياتك متعزيا بأن خسائرها مازالت في حدود الاحتمال والسيطرة.. وأنها لم تؤثر بعد على حياتك العائلية وصورتك لدى أبنائك وسمعتك الاجتماعية وأن وتحاول الاكتفاء بحياتك الخاصة المحترمة وبعث الحرارة في زواجك الذي تصفه أنت بالاستقرار, واستعادة صورتك السابقة التي تتسم كما تقول برجاحة العقل والرزانة والجدية الصارمة, وحبذا لو أبعدتها عن مجال نظرك وسمعك لكي تتخلص من مؤثرات وجودها في الجوار القريب ولو تطلب ذلك السعي لإيجاد عمل آخر لها لدى أحد معارفك أو عملائك بشرط ألا يكون ضعيف الإرادة أمام ألاعيب بعض الفتيات الصغيرات المتطلعات إلى حياة أفضل على حساب نزق بعض الكهول والشيوخ وتعاميهم عن حقائق العمر والحياة وانتشائهم الوقتي بوهم إعجاب الشباب بهم.
والإنسان يا صديقي قد يخطيء مرة .. لكنه يخطيء خطأ أبلغ إذا
تقاعس عن إصلاح خطئه الأول أو تجاهله وتعامى عنه!
رابط رسالة يوم الخلاص تعقيبا على هذه الرسالة
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2002
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر