الرهان الخاسر! .. رسالة من بريد الجمعة عام 2000
قد يعتمد البعض فى تعاملاته على سياسة دفع الأمور إلى
حافة الهاوية التى تتبعها بعض الدول للضغط على الخصم فتحشد قواتها على الحدود معه
وتتهيأ للحرب ضده، لكي يتراجع عن موقفه بما لم يقبل به من قبل بالوسائل السلمية، وهو
رهان خطير لا يقدر عليه إلا من يثق فى قدراته وحساباته ويعرف جيداً أن الطرف الآخر
سوف يتراجع فى اللحظة الأخيرة قبل إندلاع الحرب.
عبد الوهاب مطاوع
أكتب إليك وأنا
مشوشة الذهن وضعيفة التركيز فأنا سيدة في الأربعين من عمري, تزوجت زواجا تقليديا
عن طريق الأهل.. لكنني أحببت زوجي بعد ذلك بشدة وسافرنا معا للعمل بالخارج لمدة
عشر سنوات أنجبنا خلالها ولدين, وكان لي نعم الزوج والمحب المخلص, ولم ألحظ
عليه طوال ذلك أية عيوب أو لعلي هونت دائما من شأن أي عيب لمسته فيه كما ينبغي
دائما للزوجة المحبة أن تفعل مع زوجها, ثم رجعنا إلى بلدنا وعاد زوجي إلى عمله
السابق وعدت أنا كذلك إلى عملي, وبدأ هو القيام ببعض المشروعات التجارية إلى
جانب عمله فوقفت إلى جواره أشجعه وأحافظ على أمواله حتى اتهمني البعض بالوصول إلى
حد البخل مع نفسي وأبنائي من أجله, أما هو فلقد كان مهتما بالظهور بمظهر رجال
الأعمال.. ومن حقه أن يفعل ذلك.. وتحملت هذه الفترة من أجل مستقبل ننعم فيه
بجني ثمار غربتنا وشقائنا ولم أطالبه بالرغم من مشاركتي له في كل شيء بأن يكتب
إحدى الشقق باسمي حين أصبح لنا شقة بالقاهرة وأخرى بالإسكندرية وثالثة بالساحل
الشمالي.
ومضت الأيام بنا وهو يتقدم في عمله ومشروعاته
حتى أصبح من الأثرياء, وبدأت أسمع منه نغمة غريبة لم أسمعها من قبل وهي أنني
معقدة لأنني قد تربيت تربية متزمتة وهو لا يريد لأبنائنا أن ينشأوا معقدين مثلي
وأنني لست حريصة على بيتي وأبنائي, وتلفت حولي أبحث في نفسي وفيمن حولي عن مبرر
لهذه الاتهامات, فلم أجد ما يدعوه لمثل هذه الشكوى, فأنا على درجة عالية من
الثقافة والتعليم وأقرأ باستمرار وأحرص على الاستفادة بآراء المتخصصين في التربية..
ثم لاحظت بعد ذلك أن الابنين قد بدآ يسخران من توجيهاتي ونصائحي لهما ويصفانها
بتشجيع من أبيهما بالتزمت مع أنني لست متزمتة.. وتواكب مع ذلك أن بدأ زوجي يحكي
لي عن زميلة له في العمل يسيء زوجها معاملتها إلى حد الضرب والإهانة, ويحثني على
دعوتها لزيارتنا دون زوجها واتخاذها صديقة لي لكي نخفف عنها مأساتها, واستجبت
لرغبته وبدأت أدعوها للخروج معنا وشجعني على ذلك أنها لا تتمتع بأي مسحة من الجمال
ومتزوجة ولديها ولدان في مثل عمر أبنائي, وبعد ذلك بدأت ألاحظ كثرة غياب زوجي
واختلاقه الأعذار الكثيرة للتأخر في الخارج, كما كثرت الخلافات بيننا حول ذلك.
وفي أحد هذه
الخلافات فوجئت به يصارحني في هدوء غريب بأنه قد تزوج من أخرى وجد معها نفسه..
وأنه قد جاء الوقت الذي يزيح فيه هذا السر عن صدره لكي يستريح, ثم طالبني بعد
ذلك بأن أحدد مصير الأسرة ولسوف يفعل ما أريد, مع مراعاة أنه مازال يحبني ولا
يستطيع أن يستغنى عني أو عن الأخرى.. وهكذا وضع زوجي من تحملت معه صعوبات
البداية وعناء الغربة ومشاركته السراء والضراء في ميزان واحد مع الأخرى التي لم
تعرفه إلا وهو ناجح وثري! ولم أتحمل الموقف وثارت كرامتي وطالبته بالطلاق فراح
يضغط علي بكل الوسائل للعدول عنه وقام بتشويه صورتي أمام الأقارب والجيران بل
وزملاء العمل قائلا للجميع إن من تطلب الطلاق دون سبب تحرم من رائحة الجنة, وإن
زواجه بأخرى ليس سببا مقنعا لطلب الطلاق, وراح الجميع يضغطون علي للتنازل عن طلب
الطلاق حرصا على الأسرة والأبناء والأموال التي سأحرم منها بالانفصال, بل ذهب
البعض إلى تحذيري من نظرة الناس للمرأة المطلقة, وواصل زوجي ضغطه علي للتنازل عن
طلب الطلاق وآلمني أن وجدت الابنين في صفه يشاركانه الضغط علي من أجل هذا الغرض..
وحين ناقشتهما في ذلك فوجئت بهما يقولان لي إن والدهما على حق فيما فعل وإنه لو
كان قد وجد معي ما وجده لدى الأخرى لما تركني! بل إنهما ذهبا إلى أبعد من ذلك
وأنذراني بأنهما في حالة الطلاق سوف يذهبان للإقامة مع أبيهما.. وقال لي أكبرهما
إنه في الثانوية العامة ويرغب في الالتحاق بكلية الطب ويحتاج إلى دعم أبيه له
لمواجهة ثمن الدروس الخصوصية الكبير.. أما أصغرهما فلقد وعده أبوه بالاشتراك في
ناديه المفضل ولا يريدني أن أحرمه من ذلك!
ولقد كان ابني الأصغر هذا بالذات لا يطيق البعد
عني لحظة واحدة.. لكن والده زين له ولأخيه ذلك وقام بشراء الملابس الفاخرة لهما..
واصطحبهما إلى النزهات وللإقامة في الفنادق حتى أصبح ذلك شيئا معتادا في حياتهما
وأصبحا في كل مناقشة بيني وبينهما يصيبانني بالحسرة من طريقة تفكيرهما, ولقد كان
من المفروض أن أضعف أمام كل هذه الضغوط وأقبل بالأمر الواقع وأستكين.. لكنني
أصبت بالجنون وصممت على الطلاق متنازلة في ذلك عن كل حقوقي.
ودبر زوجي السابق لي شقة صغيرة من غرفة واحدة
وصالة في أحد الأحياء البعيدة لكي أترك له الشقة الواسعة التي كنت أقيم فيها,
وتركت الشقة الكبيرة بالفعل وانتقلت إلى الشقة الصغيرة مع وعد منه بأن يزورني
ابناي مرة كل أسبوع.
وهكذا انتهى كل شيء
في حياتي وخسرت كل شيء من البيت إلى الأسرة إلى الأبناء وتركت ابني نزولا على
رغبتهما لكيلا أحرمهم من حياة الترف التي يعيشانها مع أبيهم ولم يخسر هو أي شيء.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
لقد كنت على استعداد لأن أتفهم موقفك حين أصررت على طلب الطلاق ورفض الأمر الواقع الذي أراد زوجك فرضه عليك بالإكراه المعنوي لو كنت قد انطلقت من ذلك من موقف مبدئي لزوجة أحبت زوجها وأخلصت له وساندته في كفاحه حتى بدأ يجني ثماره، ثم رفضت بعد ذلك أن تشاركها فيه أخرى وانتصرت لكرامتها في وجه ضغوط ابنيها العاطفية عليها للتنازل عن مطلبها وتحملت في سبيل ذلك تبعات اختيارها ورضيت بها .إذ انه بغض النظر عن أن يتفق معك الأهل والابنان في ذلك أو يختلفوا فإنه في النهاية موقف مشروع يجيزه لك الشرع والقانون اللذان يعطيان الزوجة حق الاختيار إذا أراد زوجها أن يتزوج عليها بين الاستمرار في حياتها الزوجية معه وبين رفض ذلك والتمسك بالانفصال عنه .. لكنك يا سيدتي لم تطلبي الطلاق و تتمسكي به في وجه كل الضغوط التي تعرضت لها للتنازل عنه من زوجك السابق وابنيك واهلك انطلاقا من رغبة حقيقية في الانفصال، وإنما من منطلق آخر مختلف تماما، وهو "الأمل" في أن يدفع إصرارك العنيد على الطلاق، زوجك إلى التراجع عن زواجه بالأخرى وابنيك إلى اكتشاف أنهما لا يستطيعان الحياة بعيدا عنك .. فكأنما قد اعتمدت في ذلك على سياسة دفع الأمور إلى حافة الهاوية التي تتبعها بعض الدول للضغط على الخصم فتحشد قواتها على الحدود معه وتتهيأ للحرب ضده, لكي يتراجع عن موقفه ويقبل بما لم يقبل به من قبل بالوسائل السلمية, وهو "رهان" خطير لا يقدر عليه إلا من يثق في قدراته وحساباته ويعرف جيداً أن الطرف الآخر سوف يتراجع في اللحظة الأخيرة قبل اندلاع الحرب.
وفي حالتك الشخصية
فلقد كان هذا الرهان نفسه دليلا على أنك لا ترغبين في الطلاق من زوجك وفقد ابنيك
وإنما في "الفوز" بهم جميعا عند بلوغ الأمور بينك وبينهم حافة الهاوية
أو حتى بعد السقوط فيها بقليل، وهو رهان خاسر أخطأت للأسف كل حساباته مع اعترافي
لك بحقك العادل في رفض مشاركة أخرى لك في زوجك، ذلك أن دفع الأمور إلى الهاوية على
هذا النحو سياسة لا يلجأ إليها إلا الطرف الذي يثق في قوته من ناحية ، وفي عجز
خصمه عن الصمود للنهاية من ناحية أخرى .. وأنت يا سيدتي قد أسأت تقدير عناصر القوة
والضعف في موقفك وموقف زوجك السابق، فلقد رأيت نفسك في موقع القوة التي تسمح لك
بدفع الأمور إلى هاوية الحرب ، ورأيت زوجك السابق في موقف الضعف الذي يدفعه
للتسليم قبل انطلاق أول طلقة مدفع، مع أن واقع الحال كان كفيلا بأن يلفت نظرك إلى
أنه يتمتع في صراعه معك بعناصر للقوة لم تتوافر لك للأسف منها استقطابه لابنيه في
صفه وثقته في اختيارهما له دونك بعد الانفصال نظرا لعلاقته الوثيقة بهما وقدرته
المالية على إغرائهما بالانحياز إليه دونك وارتباط مستقبلهما الدراسي والعملي به،
إلى جانب قدرته على الحركة والفعل استنادا إلى مقدرته المادية التي لا تتوافر لك
سواء قبلت بزواجه من الأخرى أو رفضت، إلى جانب وجود هذه "الأخرى" نفسها
في حياته وإمكان استغنائه بها عنك .
ولقد أنذرك ابناك بأنهما سوف ينضمان لأبيهما في
حياته الجديدة إذا تمسكت بمطلب الطلاق منه للنهاية .. وهو إنذار قاس ولا إنساني
ويكشف عن خلل غير مفهوم في علاقتك بهما .. لكنه في الحساب العملي عنصر قوة لزوجك
وعنصر ضعف في موقفك.
فعلى أي شئ إذن
بنيت حساباتك ووثقت في انك إذا تمسكت بالطلاق حتى النهاية بل وإذا حصلت عليه أيضا
فلسوف يدفع ذلك زوجك إلى التخلي عن زواجه من الأخرى وابنيك إلى العودة لك؟
إن الطلاق سلاح
خطير يؤثر تأثيرا فادحا على حياة الزوجين و الأبناء، لهذا فإنه لا يجوز لعاقل أن
يستخدمه كورقة ضغط للحصول به على تنازلات من الطرف الآخر ما لم يكن راغبا فيه بصدق
ولأسباب تنبع من نفسه وظروفه وليس من الأمل في أن يدفع الطرف الآخر للقبول بما كان
يرفضه من قبل ، كما أنه ليس من الحكمة أن يتخذ الإنسان موقفا يعتمد فيه على
"الأمل" في الآخرين وليس على حسابات واقعية تتعلق به و تصدر عنه.
فإذا كنت
تتساءلين عن العدالة في ذلك فإني أقول لك إن فى الحياة من صور الظلم الإنساني
والبعد عن روح العدالة الكثير.. كما أن فيها من صور العدل الإلهي والخير الكثير
أيضاً.. وليس سؤالك عن العدل هو الأجدى بالتوقف عنده .. ولا سؤالك أيضا عن كيف
تتحول مشاعر رجل من الحب الشديد إلى القسوة المفرطة والعدائية .. لأن تحول المشاعر
وارد وفقا لتطور العلاقات الإنسانية ومتغيراتها .. وإن كان من الثابت كذلك أن
مشاعر الحب الحقيقي الصادق قد تنتهي ذات يوم أو تفتر تبعا للتطور الوجداني للإنسان
ودورة الأيام، لكنها أبدا لا تنقلب إلى نقائضها من الكره والحقد والعداء ، وإنما
ما يستحق التوقف أمامه بالفعل فهو سؤالك المفزع كيف يتحول ابناك عن حبك على هذا
النحو المؤلم؟
والحق إنني قد
افهم تأثير الاعتبارات المادية والمستقبلية على قرار ابنيك الانحياز لأبيهما
وتفضيل الحياة معه بعد الانفصال عنك، لكني لا افهم أبدا ألا يتعاطف ابناك معك في
نزاعك مع أبيهما قبل الانفصال ولو باتخاذ موقف الحياد بينكما ، ولا كيف يضغطان
عليك للقبول بالأمر الواقع ولا يبذلان في الوقت نفسه مساعيهما هذه مع أبيهما لكي
يعدل عن قراره بالزواج من أخرى .. ولا تفسير لهذا الموقف المؤلم سوى انه يكشف عن
نوع من الخلل في علاقة هذين الابنين بك وعلاقتك بهما وعن أن حياتهما بينك وبين
زوجك السابق لم تكن فيما يبدو خالية تماما من بعض ما يدفعهما لتقبل فكرة زواج
أبيهما من أخرى وعدم الانزعاج لها .
وفي كل الأحوال فإن الخسارة الإنسانية فيهما لأم مثلك مهما كان موقفها من أبيهما أو موقفه منهما .. ومن حقك أن تشعري بالحسرة والألم وضياع كل شئ من يديك بسبب قسوة الأيام وسوء الحسابات .. وتقلب القلوب .. بكل أسف.
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر