القفص .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

 

القفص .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

القفص .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

 

أكتب إليك كأم مشكلة تؤرقني .. فابنتي التي تبلغ من العمر 34 عاما قد تزوجت منذ أحد عشر عاما بعد خطبة قصيرة من شاب يعمل بإحدى الدول العربية .. وبعد عقد القرآن بثلاثة شهور سافرت إليه في مقر عمله , فلم تمض شهورحتى ساءت معاملته معها , فلقد اتضح  أنه رجل شرس للغاية وعدواني ويضربها بقسوة " ضرب موت" ويلسعها بأعواد الكبريت ويضربها بالحذاء , ومرة بالحزام وأخرى بالمقص تارة في ظهرها حتى سال عنها الدم وأصابها ذات مرة بجراح غائرة في وجهها .. فضلا عن تهديدها أكثر من مرة بالسكين إلخ .

ومع إنها كانت تسلمه مرتبها بالكامل وهو بالآلاف فإنه لم يكتف معها بهذه المعاملة القاسية الشاذة وإنما أجبرها أيضا على أن توقع له إيصال أمانه بمبلغ كبير واحتفظ بالايصال معه للزمن كما جعلها توقع لأخيه على شيكات بمبالغ أخرى وهو يعلم جيدا أنه لا رصيد لها .

وعلى هذا الحال مضت حياتها معه في الغربة  8 سنوات كاملة لم تعد خلالها لمصر في إجازة لمدة شهر واحد إلا مرتين فقط .

ومع هذا كله لم تشك من زوجها أبدا ولم تفكر في الانفصال عنه وأنجبت وهي في هذا الهوان ثلاثة أبناء وقد صبرت على هذا الذل وقبلت أن يعاملها زوجها معاملة العبيد رغم أنها من أسرة طيبة ووالدها له شأنه ومكانته بين الناس لأنها تعتقد أنها بهذا الأسلوب تحافظ على بيتها , وهذا خطأ في رأيي لأن البيوت يجب أن تقام على حفظ كرامة الزوجين واحترام كل منهما للآخر.

ومنذ فترة اتصلت بنا هاتفيا من البلد الذي تعيش فيه مع زوجها واستغاثت بنا لنساعدها في العودة لمصر لأن حياتها مع زوجها أصبحت لا تطاق وقد عجزت عن العودة لأن زوجها يحتجز جواز سفرها حتى لا تستطيع المغادرة .. فأعاننا الله بكل الطرق والسبل على مساعدتها على الهرب والعودة ورجعت إلينا ومعها أطفالها الثلاثة , فكأنما قد ولدت من جديد , واستقرت بيننا وبدأت تسترد صحتها وعادت للعمل .. وأقمنا ضد زوجها عدة قضايا للانفصال والنفقة إلخ فرد عليها بأن أقام ضد زوجته وأم أطفاله قضايا جنائية بإيصال الأمانة .. واصدار شيكات بدون رصيد , وتداولت المحاكم القضايا وانتهت قضية إيصال الأمانة لصالحها أما قضية الشيكات فقد حكم عليها فيها بالحبس شهرا واستأنفنا الحكم واستطعنا بتوفيق من الله الحصول على إيقاف لتنفيذه , ولكن بعد أن وقفت المثقفة المتعلمة بنت الناس المحترمين في القفص إلى جوار المجرمين والمحتالين وهو موقف عصيب لأي إنسان لو كان مدانا فما بالك إذا كان مظلوما .. ورجعت إلى البيت من المحكمة ذلك اليوم في الثامنة مساء , وهي منهارة وتبكي بشدة وتقول لنا أنها لن تنسى أبدا هذا اليوم طوال حياتها ولا من تسبب فيما عانته من هوان فيه.

ومع ذلك فلقد نسيت ابنتي "اليوم" الذي قالت أنها لن تنساه ولن تنسى ما صنعه وبعد أن هدأت العاصفة قليلا بدأ زوجها يذهب إليها في عملها ويتودد لها لترجع إليه فإذا بها قد "حنت" وتريد العودة إليه بعد كل ما حدث منه .. ونحن متشددون حفاظا على كرامتها التي اندثرت ولنا شروط تحفظ حقها وكرامتها إذا قبل بها وأفقنا على عودتها وإذا لم يقبل انتهى كل ما بيننا إلى الأبد .. والمشكلة يا سيدي أن ابنتي لا تبالي بذلك وتريد الرجوع إلى زوجها فأرجو تبصير هذه "الشاردة" عن الطريق الصحيح وأن تنصحها بألا تخرج عن طاعة أبيها ورأيه , وأن تطالب زوجها إذا ذهب إليها بأن يقبل بشروط أبيها إذا كان حقا راغبا في استئناف الحياة بينهما لأنها إذا خالفتنا ثم تعرضت لشئ بعد ذلك من زوجها فلن تجد من يساندها ولا من يقف إلى جوارها من جانبنا .. مع العلم بأننا أكرمناها هي وأولادها ولم يقصر والدها في حقها في شئ بل عاشت بيننا معززة مكرمة في شقة مستقلة .. فأرجو أن تنصحها بألا تخرج على رأي أبيها فهي من قارئاتك .. وأرجو أن يكون الرد سريعا قبل أن تتسرع هذه الشاردة وتهدم كل شئ .

جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com

 

ولـــكـــاتــبة هــذه الـــرســـالـــة أقــــول:

 

ابنتك يا سيدتي مقيدة إلى زوجها بقيدين ثقيلين هما الحب .. وثلاثة أطفال أكبرهم في العاشرة من عمره ! ومع أن أيا من هذين القيدين يكفي وحده لأن يتغاضى الإنسان عن كثير مما لا يقبل به لنفسه لو لم يكن مقيدا به , إلا أن للتنازل حدودا مهما كانت نبل دوافعه ولهذا فإني أؤيدك وزوجك تماما في ألا تتسرع ابنتكما في العودة لزوجها بعد هذه الأهوال التي جرت بينهما قبل أن تطمئنا وتطمئن هي معكما إلى أنه لن يستأنف معها مباريات الملاكمة والضرب بالحذاء والحزام والمقص والحرق بأعواد الكبريت والتهديد بالسكين , ناهيك عن المشهد البشع المشين الذي ارتضاه زوجها لمن مازالت تحمل اسمه وينتسب إليها أطفاله وهو مشهد قفص الاتهام في قضايا مادية حقيرة , حتى ولو كانت حقيقية وليست كيدية كما تقولين .. بل إني إذا افترضت أن بعض هذه الحقوق المادية حقيقية فلست أتخيل رغم هذا أن يقبل زوج سوي على كرامته أن يسحب زوجته إلى المحكمة ويوقفها بين اللصوص والمجرمين في قفص الاتهمام طلبا لحقه منها !

فهذا التصرف وحده يكفي لعدم الارتياح لشخصية الزوج أو الثقة به أو الاطمئنان إليه ..

لكن حنين ابنتك للعودة إليه يدفعني للقول بأني أكاد أشم في سلوك زوجها معها نوعا من السادية والتلذذ بإيذاء الآخرين  "خاصة في ايماءات الحرق بالكبريت وإسالة الدم أكثر من مرة" كما أكاد أشم أيضا في سلوك ابنتك معه رائحة نوع من المازوكية واستعذاب الألم .

والسادية والمازوكية , وجهان مختلفان لانحراف نفسي واحد تختلط فيه اللذة بالألم .

فإذا كان تصوري صحيحا وأرجو أن يكون خاطئا فلن تجدي مع ابنتك نصيحة بألا تخرج عن طاعة أبيها إذا استحال رجوعها له بغير ذلك ولن تتوقف الاشتباكات والمصادمات بينهما إذا رجعت إليه ! وإذا كنا قد تحدثنا طويلا عن قهر الأبناء الذي يدفع زوجا أو زوجة لاحتمال حياتها مع زوجها إلى ما لا نهاية رغم  ما تلاقيه من هوان واعتداءات جسدية فيها فالحب أيضا قهر آخر لا يقل قهرا عن قهر الأبناء ويدفع صاحبه لقبول ما لا يقبل به في حياة  أخرى .. والأديب الفرنسي مارسيل بروست يقول أن "مرض الحب" يثير في أعماقنا صراعا بين ذكائنا الواعي .. وبين إرادتنا الضعيفة , ففي لحظات التعقل نرى من نحب كما يراه الآخرون على حقيقته وفيما عدا هذه اللحظات نعجز عن أن نراه إلا متأثرين بمشاعرنا تجاهه فلا نعرف أبدا هل هو حقا جميل كما نراه أم قبيح نبيل أم وغد .. وإنما كل ما نعلمه هو أننا فقط .. في حاجة إليه.

وهذا في تقديري هو موقف ابنتك الآن من زوجها .. فهي في حاجة إليه .. رغم تسليمها الآن بكل ما فيه من عيوب بشعة ورغم مرارة الذكريات الأليمة في القفص .

مع كل ذلك فإني لا أنصحها أبدا بالخروج على طاعة أبيها لا بالعودة لزوجها قبل أن يكفر تكفيرا كافيا عن جرائمه في حقها ولو لم يكن له من جريمة سوى مقاضاته لها في قضية مادية حقيرة لما كفته مياه البحر لغسل عاره فيها .. وأيضا قبل أن يثبت حسن نيته وتخليه عن الايذاء الجسدي .. والقهر المادي عن طريق استكتابها الايصالات والشيكات .

فإذا كانت شروطكم في هذا الإطار فإني معكم فيها بلا تحفظ وأناشد ابنتك ألا تخذل أباها وهو الحريص على مصلحتها ومصحلة أطفالها في النهاية أما إذا كانت شروطكم تتجاوز هذا الأطار فإني أنصحكم بالاعتدال فيها وبالاكتفاء بما يحفظ لابنتكم كرامتها وحقوقها ويحميها من التعرض لما تعرضت له من قبل .. وفي كل الأحوال فإن "الاذلال" أو الانتقام لا يحققان أية ضمانات حقيقية بحسن المعاملة ولا يحفظ الكرامة , وإنما يحققهما فقط العدل والحكمة والحرص الرشيد على مصلحة ابنتكم .

ومهما كانت الظروف فلن تتكرر في حياتهما مآسي الغربة بشكلها الدامي السابق .. إذ ستعيش بالقرب منكم وتستطعيون دائما حمايتها ونجدتها إذا ما تعرضت لأي عدوان جديد .. وشكرا .

 

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" مايو 1994

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات