مواقف الحياة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999

 

مواقف الحياة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999

مواقف الحياة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999

من مواقف الحياة ما يزيد من إيمان المرء بها ويحببه فيها ، ومنها على الناحية الأخرى ما يبغضها إليه ويزهده فيها .
عبد الوهاب مطاوع

أكتب إليك هذه الرسالة قرب الفجر وقد مضى علي يومان لم أذق خلالهما تقريبا أي طعام ولا أستطيع أن أجزم بأنني قد نمت خلالهما لحظة واحدة ، فأنا استلقي في الفراش مغمض العينين لكني اشعر بكل لحظة تمر علي ولا يكف عقلي عن التفكير وأنهض من الفراش في الصباح خائر القوى وأشد إرهاقا مما كنت عليه حين دخلته ، وابدأ من البداية فأقول لك إنني رجل في أوائل الأربعينيات من العمر نشأت بين أبوين متحابين متعاطفين ، وأنهيت تعلیمی الجامعي وعملت مهندسا بإحدى الهيئات ، وحاولت بقدر جهدي تعويض أبي عن كفاحه المرير لإعالتي وتعليم إخوتي فطلبت منه بمجرد أن عملت أن يعفي نفسه من مشقة العمل المسائي ، الذي يضطره لعدم العودة إلى البيت كل يوم إلا في العاشرة مساء بعد يوم عمل طويل يبدأ في الثامنة صباحا ، وأقنعته بعد جهد كبير بأن من حقه أن يلتقط الآن أنفاسه ويستريح بعض الشيء وتصبح له « حياة » وأوقات فراغ يستمتع بها كغيره من الآباء الطيبين.

 

 واستجاب أبي لرجائی دامعا وداعيا لى بالسعادة في الدنيا والآخرة واعتزل العمل المسائي الشاق بالفعل .

وفي أول كل شهر كنت أسلمه مرتبی کاملا وأترك له حرية التصرف فيه ، فيعيد إلي أكثر من نصفه لنفقات حياتي ويرفض بإصرار أن يأخذ أكثر من ذلك .. وعشت بعد تخرجی وعملي استمتع باعتزازه بی وحديثه الطيب عني للجيران والمعارف ، أما أمي فقد كانت ومازالت والحمد لله نبعا للحب والحنان لى ولكل أبنائها وقد راقبت نجاحي في عملي بحب وثقة في أنني سوف أستطيع أن أحقق كل أحلامي في الحياة .

وبالفعل ، فلقد تفتحت أمامي أبواب الرزق على مصارعها بفضل دعاء أبي وأمي وإخوتي الصغار لی ، وسافرت للعمل في مشروع تابع للشركة التي أعمل بها لعدة شهور في إحدى الدول المجاورة ، ورجعت منها بحصيلة طيبة من المدخرات وترقيت في عملي وازداد مرتبی وحوافزی منه ، كما ازداد دخلي الإضافي من عملي المسائي بأحد المكاتب الهندسية فغمرت أبي وأمي وإخوتي بخيرات ربي التي أفاء بها علي وجددت أثاث بيتنا ودفعت مقدم شقة تمليك في أحد مشروعات الهيئة التي أعمل بها ، وأصبحت متعتي الكبرى أن اسأل إخوتي الصغار عما يحتاجون إليه واشتريه لهم مما لا يقدر أبي بمرتبة الحكومي على توفيره لهم كالأحذية الرياضية والساعات والكاميرات وأجهزة الكاسيت الصغيرة .. الخ.

 

ثم كنت ذات يوم مسافرا بالقطار إلى الإسكندرية فجاءت جلستی إلى جوار فتاة جميلة وجذابة الملامح وارستقراطية المظهر فتجاذبنا أطراف الحديث وانتهت الرحلة بتعارفنا وتبادلنا عناوين العمل وأرقام التليفون ، وكنت حينذاك في السادسة والعشرين من عمري ولم يسبق لي الارتباط بأي فتاة ، فانجذبت إلى هذه الفتاة بشدة ، وتكرر لقاؤنا ووجدتني بعد قليل غارقا في حبها، وراغبا في الزواج منها لكن عقلی تساوره بعض المخاوف والشكوك تجاهها، فالفتاة من وسط عائلی مختلف عن وسطي الأسري ومظهرها متحرر إلى حد كبير فذراعاها عاريتان وملابسها قصيرة .. وشخصيتها قوية وجريئة وعالمها مختلف عن عالمي ، لكن الحب كان أقوى من كل الهواجس ،

فظل قلبي يقربني منها وعقلي يبعدني عنها .. وبين حين وآخر تهملني هي وتتشاغل عني لفترة وأشعر بأن هناك ما تخفيه عني وأتعذب بالشك فيها والغيرة عليها ثم أواجهها بشكوکي فتعترف لي بأنها ارتبطت خلال فترة الانشغال بشاب أخر رشحته لها الأسرة وجاهز للزواج .. لكن التجربة أثبتت عدم قدرتها على التجاوب معه .. فرجعت إلي !

 

وتكرر ذلك خلال عام واحد ثلاث مرات ! وفي المرة الأخيرة حسمت کل هواجسي وقررت الزواج منها ، وصارحت أبي برغبتی فيها وبكل ظروفها فأبدى لي تخوفه من ألا أسعد معها لاختلاف الظروف والنشأة العائلية ، لكني صارحته بتمسكي بها فلم يملك إلا الموافقة ، وكان قد أحيل للمعاش وازداد اعتماده المادي علي .. فتزوجت هذه الفتاة وأقمت معها في الشقة التي أدفع أقساطها ولاحظت من البداية تأففها من أبي وأمي ، وإخوتي بفتورها تجاههم وعدم رغبتها في زيارتهم أو مجيئهم عندي ، وأغضيت الطرف للأسف عن هذا الجانب السلبي وساعدني على ذلك أن أبي وأمي وأخوتي قد شعروا بفتورها تجاههم فلم يلحوا عليها بدعوتها إلى البيت أو زیارتها في بيتها ، فنزل جدار من العزلة بينهم وبينها حتى لم يعودوا يزورونني نهائيا في بيتي وأنجبت من زوجتي طفلة جميلة ولاحظت للأسف إبعادها لهذه الطفلة عن أهلي وتقريبها من أهلها ، كما تغاضيت عن عصبيتها الزائدة معي ، وعنادها وتمسكها برغباتها إلى أن تتحقق ولو لم أكن راضيا عنها .. كما رضخت كذلك لرغبتها في عدم الإنجاب بعد هذه الطفلة بالرغم من أمنية أبي وأمي أن يریا لي ابنا من صلبي .. وانشغلت عما يضايقني منها بعملي الذي حققت فيه نجاحا كبيرا .. وباهتمامي بأبي وأمي وإخوتي الذين أنهى بعضهم تعليمه وبدأ حياته العملية .. وبزواج أختي الوحيدة .. وسعادتها مع زوجها الشاب المكافح .. وأدائي لواجبي معها في "السر" لأن زوجتي شديدة الحساسية تجاه أية مساعدة أقدمها لإخوتي وتتعمد

إرهاقي وتعجيزي بالطلبات المادية الترفية حين تستشعر إسهامی في بعض شئون إخوتي ، لكن الحياة مضت بنا بالرغم من كل ذلك ، وظل حبها مشتعلا في قلبي بالرغم مما أنكره عليها من تصرفات تجاه أهلي .. أو فيما يتعلق بمظهرها المتحرر وكثرة لجوئها إلى بيت أهلها وترکي وحيدا في مسكن الزوجية لفترات طويلة لأن أعصابها متعبة وتحتاج للراحة إلى جانب كثرة صداقاتها وقضاء معظم الوقت في الحديث بالتليفون والخروج إلى النادي ثلاث أو أربع مرات في الأسبوع مع صديقاتها دوني .. الخ .

 

وبعد ثماني سنوات من إنجاب طفلتنا الوحيدة اتخذت زوجتي قرارا فرديا بأن تنجب لها أخا ، وأنجبنا بالفعل طفلنا الثاني وعقب إنجابها له ازدادت عصبية وتسلطا وتحكما .. وأصبح الشجار والخصام قاسما مشتركا في حياتنا عند أي مناقشة أو بادرة اعتراض من جانبي على أي تصرف من تصرفاتها ، كما أصبح استنزافها المادي لي صارخا وسوء تصرفها الاقتصادي يبدد كل ما اجنيه من عملي الأساسي والإضافی رغم وفرته .. وكلما حاولت مناقشتها في شيء من ذلك غضبت وهجرت مسكن الزوجية واصطحبت الطفل الصغير وابنتنا إلى بيت أهلها ولا ترجع إلا حين استرضيها وألبي لها مطالبها المادية التي لا تنتهي ، حتى لم أعد أعرف الاستقرار العائلي سوى لبضعة أسابيع طوال السنة.

 

ثم ازداد نزاعنا حول كثرة خروجها إلى النادي وإلى زيارات لصديقات لا أعرفهن خلال غيابي .. وصرخت في وهددت وتوعدت وتدخل أهلها وبدلا من أن يعيدوها إلى رشدها ساندوها في موقفها وبرروه لي بأنها قد اعتادت الحرية طوال حياتها .. ولم نتفق على رأي بهذا الشأن وظل موضع خلاف وصراع بيننا ينفجر من حين

لآخر.

وجاءتني فرصة للإشراف على مشروع للهيئة في إحدى مدن

الجنوب البعيدة فرحبت بها لكي تبعدني عن الجو المضطرب في بیتی وأصبحت أقضي هناك ۲۵ يوما كل شهر وارجع لقضاء أسبوع مع أسرتي ، واستمر المشروع عامين لاحظت خلالهما أن ابنتي الوحيدة قد أصبحت تتدخل بيني وبين أمها في كل نزاع يطرأ بيننا وتتخذ موقف الدفاع عنها والهجوم علي دائما وعاتبت زوجتي في إشراكها لابنتنا في مشاكلنا ، فلم تهتم بعتابي وقالت لي أن البنت قد كبرت وأصبحت تفهم كل شيء ومن حقها أن تبدي رأيها فيما لا يعجبها من تصرفاتي ، أما حين سألتها ولماذا لا تبدي رأيها فيما لا يعجبها كذلك من تصرفات أمها فقد كانت إجابتها بالطبع أنها على حق دائما وأنا على خطأ باستمرار !

 

وضقت بكل شيء وأصبحت أتجنب أسباب النزاع والمشاكل معها خلال الأسبوع الذي أقضيه معها ، وكنت التمس الراحة والسلوى في بيت أبي وأمي ، وكان من عادتي أن أتصل ببیتي خلال وجودي في  موقع المشروع كل يوم عدة مرات لأطمئن على أحوال زوجتي وابني وابنتي ، وأتابع دراستهما فلاحظت أن التليفون قد بدأ يصبح مشغولا لفترات طويلة من المساء والليل ، كما لاحظت أنني كثيرا ما أتصل بزوجتي في النهار وأول المساء فلا أجدها ، أو لا أجد أحدا نهائيا في البيت ، وحين ترجع تقدم لي تبريرات غير مقنعة لخروجها .

 

ورجعت في الإجازة فأثار شكوكي أنها حاولت على خلاف عادتها معي في الشهور الأخيرة أن تحتويني عاطفيا ، كأنما تريد أن تبعد عن ذهنی ای خاطر مريب ، كما لاحظت أنها كثيرة التهامس مع ابنتي ولا تجيب على التليفون أبدا في حضوري على خلاف عادتها ، وتقوم ابنتي بالرد ثم تقول لي إن الرقم خطأ !

وربطت بين كل هذه الأشياء واتخذت القرار المؤلم وهو أن أعتذر عن عدم العودة لعملي لكي أراقب زوجتي التي بدأت الشكوك تساورني فيها ، وحملت حقيبتي في موعدي المقرر وغادرت البيت ،

لكني لم أتجه إلى محطة القطار وإنما إلى فندق في وسط المدينة ، وبدأت أراقب زوجتي فإذا بي اكتشف وجود رجل أخر في حياتها ، وأنه يخرج مع زوجتي وابنتي التي بلغت من العمر 16 عاما وابني ، وبعد تحريات مؤلمة اكتشفت أن زوجتي تقدمه لهما على أنه خالها العائد من الدول العربية بعد غياب 15 عاما! وواجهت زوجتي بما عرفت وانفجرت فيها ضربا وركلا وخنقا حتى كادت تلفظ أنفاسها بين يدي ، ولم ينقذها مني سوى وقوف ابنتي على حافة النافذة وتهديدها لي وأنا في قمة جنوني أنها ستلقي بنفسها منها إن لم أدع أمها .

 

ثم توالت الكوارث بعد ذلك وتدخل أهلها فتصادمت معهم صداما عنيفا ، ووصل الأمر إلى أقسام الشرطة والمستشفيات إلخ .. وبعد أسابيع من المنازعات طلقتها غير نادم عليها بعد أن نفدت أخر قطرة من حبي الكبير السابق لها ، واتفقنا بعد أهوال .. لا أريد الإطالة عليك بها . على أن تبقی مع البنت والولد في مسكن الزوجية وأن أدفع لها مبلغا كافيا لمتطلبات ابني وابنتی ، على أن يكون لي حق زیارتهما في البيت والإشراف على تربيتهما ودراستهما ..

وأجرت شقة صغيرة بالقانون الجديد في موقع قريب من بيت ابني وابنتي ونقلت إليها متعلقاتي وبعض الأثاث القليل ، وتكتمت عن أبي وأمي خبر طلاقي لزوجتي لكيلا أجدد أحزانهما ، ولم أبح به لأحد من أخوتي ربما خجلا من نفسي أو تخوفا من التنقيب عن أسبابه المشينة لی کرجل .


وأديت التزاماتی تجاه ابني وابنتي .. وانتظمت في الاتصال بهما تليفونيا كل يوم والتأكد من تلقيهما الدروس المطلوبة واستذكار دروسهما وحاولت خلال ذلك إقناع ابنتي بالحياة معي لكي احميها من مؤثرات شخصية أمها عليها فرفضت ذلك بإصرار عجيب وهددتني بالانتحار إذا أرغمتها على ذلك ، وأصبح كل هاجسي هو

حماية ابنتي وولدي وإنقاذهما من الضياع ، فإذا رأيت ملابس ابنتي قصيرة نصحتها بعدم ارتدائها واشتريت لها ملابس طويلة كاسية لكني بدلا من أن تساعدني أمها على ذلك كانت تنفجر في وجهی وتتهمني بأنني معقد وسوف اعقد البنت في حياتها ، كما عقدتها هي ، وشيئا فشيئا بدأت ألاحظ أن مشاعر ابنتي تجاهي قد أصبحت عدائية خاصة بعد أن اعترضت على كثرة خروجها وتأخرها في العودة إلى البيت ! وفي كل زيارة لى لأسرتي يقع صدام جدید بینی وبينها لمثل هذا السبب ، إلى أن حدث ما دفعني للكتابة إليك وأطار النوم من عيني خلال اليومين السابقين ، فلقد ذهبت للاطمئنان على الولد والبنت في المساء فلم أجد ابنتي في البيت وسألت أمها عنها فاختلقت أسبابا واضحة الكذب لغيابها .. فاتصلت بكل صديقاتها بحثا عنها دون جدوى وبحثت عنها في النادي فلم أجدها وعدت للبيت وأصررت على الانتظار حتى تعود ورفضت كل محاولات أمها لإقناعي بالانصراف ، وأخيرا وعند منتصف الليل لمحت من الشرفة سيارة تقف أمام العمارة وتنزل منها ابنتي بنت السابعة عشرة .. وهي تتبادل الضحكات العالية والكلام مع قائد السيارة فهرولت فوق السلالم إلى أن لحقت بهما وفتحت باب السيارة وأخرجت منها قائدها وهو شاب رفيع لا يزيد عمره على ۱۸ أو ۱۹ عاما وأنهلت عليه ضربا.. وصرخت ابنتي وهرولت صاعدة إلى البيت ، فتركته وهرولت وراءها فإذا بها تغلق الباب وراءها وتعاونها أمها وترفض فتحه لی ، وصحت العمارة كلها على الصراخ ، وتدخل الجيران لإقناع الأم بفتح الباب مع طمأنتها بأنني لن أفعل شيئا وأخيرا فتحته وما أن دخلت حتى فوجئت بأخر مشهد لا يود أن يراه أب في حياته وهو مشهد ابنتي وأمها وهما واقفتان متنمرتان لى والأم تعلن لي بكل بجاحة أمام الجيران أنه لا شأن لي بها ولا بابنتي وأنهما ستطلبان الشرطة لحمايتهما مني ، ونظرت إلى ابنتي التي طالما أحببتها ودللتها ولبيت لها كل مطالبها وأنا استجدي منها كلمة واحدة تنفي بها ما تقوله أمها على لسانها ، فصدمت صدمة شديدة بها وصوتها يعلو أمام الجيران ، ويؤكد كل ما قالته الأم المارقة لي وتصرخ أكثر من ذلك في طالبة مني تركها وشأنها وعدم عودتي إلى هذا البيت مرة أخرى لأنها لا تريد أن ترى وجهی ثانية .. لا هي ولا أخوها الصغير كما قالت !




 ولا شيء حولي سوى الصمت وذكريات الجحود والانكسار والعار ، وطوال الوقت اسأل نفسي : ماذا جنبت يا ربي لكي يكون هذا هو عاقبة حبي لابنتي وابني وخوفي عليهما من الضياع؟

لقد كنت ومازلت ابنا بارا بأبويه .. فكيف تعاقبني السماء بعقوق

الأبناء وأنا الابن الذي لم يعص أبويه وحريص دائما على إرضائهما .

إنني لا أكل ولا أنام ولا أذهب للعمل .. ولا أعرف كيف سأواجه الحياة بعد أن أنكرتني ابنتي ، وسكت ابني الغلام فلم يندفع نحوی ليحتضني ويقول لمن شهدوا هذه المأساة إنني أب حنون وعطوف على أبنائي ، وانفق معظم دخلي عليهم .

إن قلبي ينازعني لأن اذهب إلى ابنتي هذه وأحاول استعادتها إلى أحضاني مرة أخرى .. لكن خوفي من نفورها وكلماتها الجارحة يمنعني ، إنني استطيع أن أفعل الكثير بالقانون واستطيع استعادة الشقة التمليك في أي وقت وتقديم مسكني الصغير الحالي لمطلقتي الحاضنة لابني الصغير بديلا عنه كما استطيع أن أقبض يدي عن أبنائي إلا لضروريات الحياة .. لكني لا أريد لهم أن ينزلوا عن مستوى معيشتهم السابق ولا أن يدفعوا ثمن خيانة أمهم ، وتنكرها لحبي السابق لها وقد أنذرتها بأنني سوف استرد ابني وابنتي إذا تزوجت ، فأكدت لي أنها لن تتزوج .. وأكدت لي أيضا لكي تزيدني هما وغما أن ولدي لا يريدان لها الزواج لكيلا أستردهما منها !

 

إن زوجتي السابقة لا تعنيني الآن في شيء .. فلقد نضب معين حبي السابق لها تماما .. لكني حزين على ولدي .. فبماذا تنصحني أن أفعل لكي أتجاوز إنكار ابنتي وابني لي .. وأنسى ذكريات الموقف المؤلم الأخير لهما معي .

 

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول:

من مواقف الحياة ما يزيد من إيمان المرء بها ويحببه فيها ، ومنها على الناحية الأخرى ما يبغضها إليه ويزهده فيها ، والموقف المؤلم الأخير لابنتك الضالة هذه معك وإنكارها لك أمام الملأ من هذه المواقف التي يحق للمرء أن يحزن لها حتى النخاع، غير أن فهم حقائق الحياة قد يعين الإنسان على التخفف قليلا من بعض من أساء لها ، وهذه الابنة الشاردة الجاحدة بالرغم من إدانتي بشدة لكل ما فعلت بحياتها وبك ، هي في النهاية جانية وضحية في الوقت نفسه ، فأما أنها جانية فبما تنكرت له وجحدته من حقك عليها كأب في أن تمنعها من تكرار مثال أمها الفاسد والانصياع وراء أهوائها بلا رادع من دين ولا قيم أخلاقية، وبما ارتكبته في حقك من مواجهتك بالرفض والكراهية والإنكار ، وسوف تلقى إن لم ترجع عنه وتندم عليه جزائها العادل عنه في الدنيا والآخرة.

 

وأما أنها ضحية في الوقت نفسه فلأنها قد نشأت في أحضان أم لم ترع حدود الله في حياتها وأبنائها وزوجها ولم تغرس فيها حب الأب واحترامه وطاعته والاعتراف له بحقه عليها في توجيهها وحمايتها من أنواء الحياة . ولعلي لا أجاوز حدودی كثيرا إذا قلت لك أن شيئا من هذه المسئولية الجسيمة إنما يقع عليك كذلك ، باستسلامك الطويل السابق لإرادة أمها الذي لم يسهم في غرس المفاهيم الصحيحة في وجدان هذه الابنة منذ الصغر ، كتغاضيك المزمن عن مقاطعتها لأبويك وإخوتك واهلك وإبعادها لولديك عنهم ، فضلا عن عصبيتها الزائدة وتسلطها المستمر ومظهرها وسلوكياتها المتحررة طوال رحلة العمر معها.

 




وإني ليخيل إلي أن حبك الطاغي لها طوال ارتباطك بها لم يكن المسئول الأوحد عن ضعفك السابق معها ولا عن تنازلاتك المستمرة لها ، وإنما كان للشعور الغامض بالنقص تجاهها بسبب اختلاف المستوى العائلي والاجتماعي نصيب ، كذلك في تراجعك المستمر أمامها حتى لم تعد تخشى شيئا من جانبك ولا تجد على تصرفاتها أي قيد .

غير أني لا أريد أن أزيد من آلامك وأنت في هذه المحنة القاسية، وإنما أحاول فقط أن أفسر لك بعض ما غمض عليك من معاناتك مع هذه السيدة ، لأن "من لم ينتفع بعينه لم ينتفع بأذنه" .. كما قال الإمام ابن القيم الجوزيه .. ومن لا يتعلم من أخطائه لا أمل له في النجاة من شدائد الحياة .

 

ثم أصل بعد ذاك إلى تساؤلاتك المؤلمة في نهاية رسالتك وأقول لك أن الحكمة القديمة التي تقول إن من عق والديه عقه ولده ، هی قول سدید حقا ، لكنه ككل قاعدة لا تستعصي على الاستثناء ، وعقوق ابنتك وأنت البار بأبويك وإخوتك وأهلك ليس سوى هذا الاستثناء المؤلم الذي أعانت علیه ظروف نشأة هذه الابنة الشاردة بين أم متسلطة قوية الشكيمة ومتحررة من قيود القيم الدينية والأخلاقية ، وأب مسالم يحاول قدر الجهد والطاقة تحجيم الآثار السلبية لقيم الأم المعنوية على أبنائها ، كما أن برك بأبويك وأهلك قد انعكس من الناحية الأخرى على جوانب مختلفة من حياتك كتوفيقك في عملك وتحقيقك لكل أحلامك المادية خلال فترة زمنية قصيرة ، فإذا كنت قد حزنت لعقوق ابنتك لك وتعلقت بالأمل في أن تأتي إليك نادمة، فثق بأنها سوف تجيء بالفعل باكية ولكن ليس الآن وهي في عنفوان مراهقتها وحمقها وجهلها وغرورها بنفسها وبالحياة ، وسيطرة قيم الأم الفاسدة عليها ، وإنما بعد أن تلقنها الحياة دروسها القاسية وتدرك بعد فوات الأوان أن كل ما يصيبها من عثرات الطريق هو الجزاء العادل لإنكارها لأبيها وخروجها على حدود ربها.

 

ولهذا فإني أنصحك يا سيدی بألا تمتهن نفسك مع هذه الابنة الجاحدة وألا تستجدي مشاعرها الصخرية ، لأنه لن يرضيها شيء سوى أن تترك لها الحبل على غاربه لتفعل بحياتها ما تشاء متحررة من كل قيد ، وبشرط أن تدفع أنت إلى جانب ذلك فاتورة الحياة اللذيذة السهلة الخالية من كل القيود .. فهل أنت على استعداد لأن تكون هذا الأب الذي لا يسأل ابنته المراهقة عما تفعل.. ويكافئها على ذلك بالإغداق عليها وتلبية كل مطالبها ؟

إنني لا أنصحك بالتخلي عن مسئوليتك المادية عن ابنك وابنتك لأنك مسئول أمام الله بالرغم من كل شيء عن توفير أساسيات الحياة لهما .. وإنما أطالبك فقط بان تكتفي في المرحلة الحالية وإلى أن تهدأ العاصفة .. بتحمل نفقات حياتهما الأساسية على أن تربط بعد ذلك بين العطاء المادي الغامر لهما وخاصة بالنسبة لهذه الابنة .. وبين التزامهما بالطريق القويم في الحياة والقيم الدينية والأخلاقية التي ترجو لهما أن ينشا في ظلالها : فمن استجاب. فله العطاء الأوفى بلا حدود ومن تنكر فعلی نفسنه ما فعل .

 

وفي هذا الشأن فإني أتساءل : أين هؤلاء الأهل ، العظام الذين تدخلوا بينك وبين زوجتك السابقة من مسئوليتهم كذلك عن حماية ابنتك مما تمضي إليه من طريق الضياع بلا أي محاولة من أمها لتقويمها ، ولماذا لا يتدخلون هذه المرة لإلزام الحفيدة برعاية حدود ربها ، وطاعة أبيها واحترامها له.

يا سیدی اصبر وانتظر .. ولا تيأس من ممارسة دورك كأب في رعاية ابنك وابنتك حتى يصلا إلى سن الرشد وشاطیء الأمان ، فلسوف يظلان في حاجة إليك من الناحية المادية والنفسية والإنسانية مهما خيل لهذه الابنة الشريدة غير ذلك ، وما تهديها لك بأن أهل أمها سوف يتكفلون بها وبأخيها من الناحية المادية سوی قعقعة بلا طحن .. لا يصمد للواقع العملي طويلا ، كما أن هذه الابنة سوف تزداد احتياجا إليك مع مرور الأيام ، ومع مجيء الوقت الذي تتلفت فيه كل ابنة باحثة عن أبيها لكي يقوم بواجبه الأبوي والإنساني معها ويضع يده في يد من سوف ترتبط به ، ويتكفل بنفقات تكريمها وإعدادها للحياة الجديدة .

 

فتماسك يا سيدي ولا تستسلم لضعفك الأبوي مع هذه الابنة الجاحدة إلى أن تجيئك ذات يوم قريب تتلمس السبل إليك وتحاول محو ذكرى تنكرها المؤلم لك.

فأما حزنك وهمك بتخلي أبنائك عنك فأرجو أن تعفي منه غلامك الصغير الذي لا يملك من أمر نفسه الآن شيئا ويفزع كأي طفل في مثل عمره أن ينتزع من بين أحضان أمه حتى ولو كان الحضن الآخر الذي ينتظره هو حضن أبيه العطوف ، واستعن على أحزانك بالصبر والأمل في تعويض السماء لك ، وبقول من لا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه .. عن ابن مسعود ما معناه أنه ما أصاب عبدا هم أو حزن فقال اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ، أسالك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ، ونور بصری ، وجلاء حزني ، وذهاب همي وغمي إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحا .

 

فاستعن بهذا الدعاء الكريم على أمرك وحبذا لو فكرت بعد فترة من النقاهة النفسية المناسبة في أن تبدأ صفحة جديدة في حياتك ، ترتبط فيها بسيدة ترعی حدود الله في حياتها وتعينك على أمرك وتعوضك عما لقيت من أحزان .

رابط رسالة كشف الحساب تعقيبا على هذه الرسالة

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1999

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات