طائر الحب والسعادة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985
أفتح
بريدي أحيانا فالمح بين ركام المآسي .. نقط ضوء مشعة بالأمل .. فأسعد بها كما يسعد
المتلهف إلى السعادة بلحظة صفاء وسط هجير الحياة ثم أسرع لأضعها بين يدي قراء
البريد ليشاركني الآخرون مشاعري .. وفى هذا الأسبوع تلقيت في بريدي هذه
الرسالة.
أكتب هذه
الرسالة لأني أحس بأن علي دينا ينبغي أن أؤديه للحياة ولهذا الباب ولقرائه على وجه
الخصوص.
وقبل أن
أتركك للحيرة سأبادر بأن أقول لك أنني الشاب الذي كتب لك منذ حوالي 10 شهور يحكي
قصة حبه وزواجه من فتاته وكيف بنينا معا وبمعجزة عشنا الصغير طوبة طوبة رغم ضيق
الإمكانيات، ثم ابتسمت لنا الدنيا فسافرنا للعمل في إحدى الدول العربية لمدة عامين
عدنا بعدهما لمصر .. طائرين على جناح السعادة بعد أن عرفنا الراحة أخيرا بعد
الشقاء .. واستكملنا أعداد عشنا واشترينا كل ما حلمنا بأن يضمه بيتنا.
واشتريت
أنا سيارة صغيرة، واستعددنا لأن نستمتع بثمرة كفاحنا، فإذا برفيقة كفاحي تسقط فجأة
مريضة بالكلى وإذا بأحلام السعادة تثقلها الهموم .. ونبدأ رحلة العذاب وزوجتي
الرقيقة الشابة تستسلم للمرض وتعجز عن العمل وتحيا على غسيل الكلية مرتين كل
أسبوع، والأطباء يجتمعون على ضرورة زرع كلية لها، فأتقدم لزرع كليتي في جسمها
فتاتي نتائج التحليلات مخيبة للآمال .. ثم أتعذب في البحث عن متطوع إلى أن
أفكر فى الكتابة إليك، ولقد نشرت رسالتي بعنوان "أيام السعادة"،
وتلقيت عن طريقك بعدها استجابات عديدة من قراء بريد الأهرام، للتبرع بالكلية
لإنقاذ زوجتي .. ولعلك تذكر أن عدد المتطوعين من أبناء مصر الخير والعطاء قد بلغوا
42 متطوعا، أعطيتني أسماءهم وعناوينهم فبدأت الاتصال بهم فرأيت من خلال هؤلاء
الشباب نماذج من البشر ما كان لي أن أراها أو أطلع عليها أو أعلم بوجودها في
الحياة، لولا أن وضعتني الأقدار وسط هذه التجربة الأليمة فرأيت من يقبلون إجراء
هذه الجراحة بلا هدف .. سوى الرغبة في إسعاد أسرة صغيرة ورأيت منهم هذا الشاب الذي
شارك في حرب أكتوبر، ولا تزال في جسمه آثار باقيات لعدة جراحات خطيرة من آثر
الإصابة، وهو يصر رغم بساطة حاله على أن يدفع من جيبه ثمن التحاليل المبدئية
اللازمة لاختبار صلاحية الكلية للزرع .. ورأيتني أرفض ذلك فيصر إصرارا عجيبا حتى
ليشكوني إليك بسبب ذلك ! ثم حين تجىء التحاليل مؤكدة عدم صلاحيته يعود ويشكوني
إليك بأني غير متحمس لإعطائه هذه الفرصة للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالتبرع
بكليته لزوجتي !
رأيت هذا
الشاب، ورأيت نماذج عديدة لشبان يحملون في جوانبهم قلوبا خيرة مطيعة لله وراغبة في
الخير .. حتى لتضحي بأجزاء من جسمها لإنقاذ من لا يعرفونها .. ومن لم يسمعوا بها
إلا من رسالتي ببريد الجمعة، ورأيتني أمضي الأسابيع أطوف بكل هؤلاء المتطوعين على
معامل التحاليل .. فأجري لهم التحليلات المختلفة .. ثم تأتي النتائج بمفاجآت لم
يتصورها عقلي في البداية .. فالمتطوعون جمعيا غير صالحين بكل أسف لنقل الكلية
لزوجتي الشابة .. وليس هناك من يصلح لذلك سوى الشاب الذي عرفته في بداية رحلة
العذاب عن طريق أستاذة التحليلات والذي يطلب تعويضا معينا عن تضحيته، والذي أشرت
إليه في رسالتي الأولى.
وبعد
مشاورات عديدة مع الأطباء .. وبعد أن أصبحت شبه متفرغ لإنقاذ زوجتي .. عدت من جديد
للاتصال بهذا الشاب ووضعت الأمر من جديد بين يديه، وأشهد أنه بعد أن عرف كل هذه
التفاصيل كان متفهما إلى أقصى حد وأصبح صديقا عزيزا لي واستقر رأي الأطباء على أن
نبدأ المرحلة الجديدة .. في مركز زرع الكلى بجامعة المنصورة، واكتشفت أن هناك رحلة
طويلة أيضا للإعداد للعملية ومررنا بكل المراحل إلى أن جاء اليوم المشهود .. ودخلت
زوجتي غرفة العمليات في لحظة واحدة مع الشاب المتطوع .. كل منهما على مائدة عمليات
وحول كل منهما فريق من الأطباء، أما أنا فقد كنت عند دخولها على باب الغرفة يدي في
يد زوجتي وقلبي معها .. وكان الشاب على السرير المتحرك مستسلما وخائفا مثلي ..
وأشهد أني قد أحببته في هذه اللحظة أكثر من أي وقت آخر ودعوت الله له من قلبي أن
يوفقه في حياته وأن يحقق له كل أحلامه .. وحين أذن "الموكب" بالتحرك
لدخول الغرفة انحنيت فقبلت زوجتي الغائبة عن الوعي .. واستدرت فقبلت هذا الشاب
ودعوت له كثيرا ثم غاب الاثنان خلف الباب المغلق.
وجلست
أنا على المقعد القريب في الممر .. وأخرجت مصحفي وبدأت أقرأ فيه، ودموعي تنساب مني
فتسقط على الصفحات وتحجب عنى السطور .. وكل من حولي من أحبائي وأحباء زوجتي الذين
عاصرونا خلال أيام السعادة وأيام الشقاء يتمتمون بآيات القرآن .. أو يتظاهرون
بالمرح ويحاولون شد أزري .. بعبارات التطمين والتشجيع..
وبقيت
على هذه الحال 6ساعات كاملة مرت علي كأنها قرون، ثم فتح الباب وخرج رئيس فريق
الأطباء مرهقا .. مجهدا، فنهضت من مقعدي كأنما لدغني ثعبان .. ونظرت إليه وروحي
كلها معلقة بشفتيه فإذا بأساريره المتعبة تنفرد ببطء ويقول لى شبه هامس: مبروك ..
فلم أشعر بنفسي وأنا أندفع إليه أقبله وأحاول احتضانه .. وهو يقول لي: اهدأ ويضحك
بسعادة .. وإذا بفريق كله يخرج من الغرفة ضاحكين فرحين كأنهم نجحوا في امتحان صعب،
وكلهم سعداء كما لو كانت المريضة شقيقتهم أو زوجتهم .. وكلهم يهئنونني وأنا أدور
وسطهم أقبل كل من يقع في طريقي منهم وفى أي مكان: الوجه أو الرأس وهم يضحكون
وينصحونني بأن أتمالك نفسي لكن كيف أهدأ ؟ وأحدهم أكثر مرحا يلتفت إلى أهلي ويقول
"مفيش زغرودة حلوة " فتنطلق الزغاريد مجلجلة فتكون آخر ما أعيه من
الوجود لأني لم أشعر بنفسي بعد ذلك إلا وهم يعملون على أفاقتي بالنشادر، وحولي
تمتزج الضحكات بالدموع والجميع سعداء .. لكن أين زوجتي ؟ وأين هذا الشاب الطيب ! .
فأعرف أنهما في غرفة "الإفاقة" وأسرع إلى هناك وأراها .. ويكون اللقاء بعد أن كنت قد ظننت أن "لا تلاقيا" كما يقولون .. وأذكر نعمة الله علي .. فأسجد له شاكرا.. ونمضي أياما في المستشفى ثم نخرج ونبدأ بعد ذلك رحلة ما بعد الجراحة .. ففي كل أسبوع نسافر إلى المنصورة للفحص والمتابعة وتنفيذ مراحل علاجية ضرورية بعد الزرع .. ثم يتحسن الحال ويطمئن الأطباء قليلا فيجعلون موعد الفحص مرة كل أسبوعين .. ونستمر شهرين على هذه الحال .. ويزداد اطمئنانهم .. فتصبح الزيادة مرة كل شهر .. وهى المرحلة التي نعيشها الآن ومنذ أكثر من5 شهور، بعد أن عادت السعادة إلى بيتي الصغير .. وبعد أن عادت الابتسامة إلى وجه زوجتي ووجهي .. وأصبحنا نخرج في المساء لنتمشى على النيل كما كنا نفعل في أيام السعادة وأصبحنا نزور الأقارب والأهل والأصحاب، وأسرة هذا الشاب الطيب الذي أصبح واحدا من أسرتي وأصدقائي .
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
لمست قلبي
مرتين .. مرة فى رسالتك الأولى وأنت تروي لى شقاءك مع رحلة العذاب التي فاجأتك في
بداية حياتك، ومرة في رسالتك الثانية وأنت تحكى لى عن فرحتك الصادقة بنجاح الجراحة
وعودة طائر السعادة إلى عشكما الصغير ويا لها من فرحة من القلب يا صديقي ! تستحقها
بكل تأكيد وتستحق ما هو أكثر منها فلقد شقيت كثيرا وكافحت كثيرا وآن
"للمجاهد" أن يستريح بعد طول العناء، وآن لعشكما الصغير الذي شهد هذه
العاصفة العاتية، أن ترفرف عليه نسائم الراحة والهناء من جديد.
إني سعيد
جدا بسعادتك .. وسعيد بشفاء عروسك الشابة الرقيقة التي منحتها الدنيا في فجر
حياتها بكل هذه الأهوال، وأتمنى لكما حياة سعيدة مديدة بإذن الله.
كما أني
سعيد أيضا بهذه الرسالة التي تقدم لى دليلا جديدا على ما أؤمن به عن جوهر هذا
الشعب الصابر المكافح الذي تطغى عليه أحيانا صعوبات الحياة فتخفى بعض ملامحه خلف
قناع مزيف .. لكنها لا تمحو وجهه الأصيل المشرق بالخير والعطاء أبدا .. وإلا فقل
لى بربك في أي مكان آخر كان من الممكن أن يجد معذب مثلك 42 إنسانا على استعداد
لاقتطاع أجزاء من أجسامهم لتقديمها هدية لمن لا يعرفونه، لإسعاد قلبين وإنقاذ أسرة
صغيرة من العذاب .. وبلا أي مقابل ؟
وأين
يمكن أن نجد مثالا لهذا الشاب الذي يستحق الاحترام والذي كان يكتب إلى ليشكو لي من
إنك "أهملت" رغبته في التبرع لزوجتك بكليته ولم تحقق له رغبته، وهو المصاب
فى الحرب والذي تعذب من قبل بعدة جراحات ؟
وأين كان
يمكن أن نجد إنسانا بسيط الحال كهذا الشاب يرهق نفسه بدفع أجور التحاليل الطبية
استعدادا لتبرع بكليته، ويعتبر إصرارك على الرفض إهانة له ويرفض رغبتك بإباء ! وهو
مواطن لا مورد له سوى معاش عجز بسيط قد ينفقه آخر على وجبة عشاء واحدة في أحد
الملاهي !
وأين يمكن
أن نجد أمثال هؤلاء البشر الطيبين الذي يجودون بسماحة لا نظير لها بما يملكون ..
وقد لا يملك بعضهم شيئا ؟
إننا قد
نكون شعبا من الفقراء، لكننا بالتأكيد شعب من الأغنياء بأمثال هؤلاء البسطاء الذين
على استعداد للعطاء دائما .. وقد يكون العطاء بأعضاء بشرية من أجسامهم .
وقد نكون
شعبا من الفقراء .. لكننا بالتأكيد مازلنا أغنياء بهذه الخصال والفضائل التى
يعتبرها البعض من علامات "التخلف" ! كالتمسك بالقيم الدينية والعاطفية والميل
للعطاء والمشاركة بأقل الإمكانيات المتاحة .. إنه شعب عظيم رغم كل شىء يا صديقي لم
يقدره أحد حق قدره بكل أسف .. ومثله لن يضام مهما جرت عليه عوادي الزمان، ولا بد
أن يحصل يوما على نصيبه العادل من الحياة.
آسف لقد سرحت بعيدا لكن رسالتك أهاجت مشاعري .. وأثارت لدي كل هذه التأملات وإني سعيد بها حقا .. وسعيد بأن رسالتك ستفتح أبواب الأمل أمام كثير من المعذبين.وستقول لأمثالكما بالدليل أن فرج الله قريب وستقول أيضا: اسألوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل وأفضل العبادة انتظار الفرج، ولقد سألت الله يا صديقي فأعطاك من فضله .. وانتظرت الفرج فأتاك فأهنأ بما أنعم الله عليك .. ولا تنس حق الحياة وحق هؤلاء البشر عليك .. فأخدم الحياة بكل ما تستطيع .. وأخدم البشر بما يستحقونه منك من الوفاء والإخلاص، وخفف عن الآخرين ولو بالكلمة الطيبة ، وتذكر أنك مدين للحياة وللبشر بدين كبير فأد دينك لهم بالعطاء والحب للآخرين، وبخدمة البشر ومساعدة من يحتاجون إلى عونك والسلام.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد
الجمعة" عام 1985
شارك في
إعداد النص / ياسمين عرابي
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر