أيام السعادة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1984
لا أعرف كيف أبدأ رسالتي
إليك .. إنني شاب في الثانية والثلاثين من عمري أعمل في وظيفة مرموقة والحمد لله
وأتقاضى مرتبا ًمعقولا ً جدا ً ومتزوج من زوجة رائعة تربطني بها علاقة حب عميق
ومتجدد، وقد عرفتها في الجامعة عقب تخرجي مباشرة وكنت أتردد على الكلية لأستعيد
ذكريات الجامعة فإلتقيت بها وتعارفنا سريعا وأحببتها وأحبتني ودامت علاقتي بها 3
سنوات حتى تخرجت ثم تقدمت لأهلها لخطبتها .. وبدأنا سوياً رحلة الكفاح لبناء عش
الزوجية .. كان مرتبي أيامها 26 جنيها وكانت هي الأخرى تتقاضى مرتبا ً مشابها ً
فبدأنا نشد الحزام على بطوننا لكي نجمع مبلغا ً لدفع خلو شقة صغيرة .. وكان متوسط
الخلو أيامها حوالي ألف جنيه فكافحت ليلا ونهارا وكافحت هي الأخرى حتى جمعنا أول
ألف جنيه، واذكر أنه عندما اكتملت الألف الأولى أننا صرخنا من الفرح بقرب تحقيق
الأحلام .. وفي الصباح الباكر خرجنا لنطوف على السماسرة فاكتشفنا أن متوسط الخلو
قد ارتفع إلى 2000 جنيه !! .
وصدمنا وانهارت أحلامنا
وفكرت طويلا ً واستقر رأيي على أن أبحث عن عمل في دولة عربية لعدة شهور لأجمع
المبلغ وفعلا وفقني الله في العمل في إحدى البلاد وتحملت الغربة لمدة 6 شهور حتى
جمعت مبلغ 3500 جنيه وما إن أمسكت بها حتى عدت إلى شريكة حياتي طائرا ً على جناح
السعادة .. ولا أستطيع أن أصف لك فرحتي حين وفقني الله إلى صاحب عمارة رحيم فقد
كان يطلب 5 آلاف جنيه من الجميع لكنني وقفت أمامه أنا وخطيبتي والدموع تكاد تظفر
من عيوننا وروينا له قصة حبنا وكفاحنا فرق قلبه لنا وأقسم أن يعطينا الشقة بما
معنا من نقود ووقع العقد وسلمنا مفتاح الشقة وهو يتمنى لنا السعادة !
سعدنا سعادة لا توصف
وانطلقنا نطوف بالشقة ضاحكين مصفقين مهللين وبدأت أعمل ليلا ً ونهارا ً وأول كل
شهر نقتطع ثلاثة أرباع مرتباتنا ونعطيها للنجار، وكان يوم شراءنا لغرفة النوم
ومائدة السفرة و4 كراسي عيدا .. وكان يوم زواجنا عيدا ً.
آه .. ما أحلى الراحة بعد
العناء، لقد ابتسمت لنا الدنيا بعد أن أمضيت 6 سنوات تقريبا ًفي حرمان شبه متصل
لبناء هذا البيت . . ثم بدأ الكفاح يؤتي ثماره فتقدمت في عملي وتضاعف مرتبي عدة
مرات وزاد مرتبها أيضا ً .. وأكرمني الله بفرصة عمل أخرى في الخارج لمدة سنة أصلحت
بها حياتي .
ومضت الأيام سريعة وسعيدة
.. وذات يوم اشترت زوجتي " صندلا " صيفيا ً من أحد المحلات ثم عادت إلى
البيت لتجربه فوجدته ضعيفا ً بعض الشيء فعادت إلى المحل لتعيده فاكتشفت أن مقاس الصندل
هو نفس المقاس الذي ترتديه لكن قدمها هي التي ليست طبيعية بل متورمة قليلاً ..
شككت في الأمر فاصطحبتها إلى الطبيب فشخص المرض خطأ وتخبطنا معه لمدة 6 شهور بلا
تقدم وكل أسبوع اشتري دواء بـ 60 أو 70 جنيها، ثم هدانا الله إلى طبيب عظيم فحص
زوجتي ثم قال إن هذا التورم ليس بسبب مرض الفيل كما تعالج الآن لكنه ناتج عن ماء
متجمع بالساق بسبب مرض في الكلى، وبدأنا رحلة العذاب وكان أول ما طلبه الطبيب هو
الامتناع عن الحمل .. وحدث أن سافرت في مهمة للخارج لمدة شهر كنت خلالها اتصل بها
كل أسبوع لأطمئن عليها .. وذات مرة طلبتها فلم يرد التليفون فاتصلت بأهلي لأسأل
عنها فقالوا لي إن التليفون عطلان .. فلم اطمئن وعدت بعد أيام فاكتشفت إنها قد
نقلت إلى المستشفى بعد أن أصيبت بغيبوبة .. وأن الكلى قد توقفت تماما ً عن العمل
وأصبحت في حاجة إلى غسيل مستمر لمرتين كل أسبوع .
ولن أصف لك ما نتحمله من
عذاب كل ثلاثة أيام مرة .. لكي لا أوجع قلب أحد .. وسأختصر فأقول إن الطبيب قد
نصحني أن أبحث عن متبرع بكليته لإجراء جراحة زرع الكلية لها لأنها شابة وتتحمل هذه
الجراحة .. فعرضت نفسي على الفور فأجريت لي التحاليل لكني صدمت بنتيجتها التي تؤكد
أني لا أصلح لنقل كليتي لها .. ولا أنسى الحالة العصبية التي انتابتني حين عرفت
نتيجة التحاليل .. فلقد ثرت ثورة عارمة في قسم التحاليل بالمستشفى .. وصرخت وبكيت
وتهورت حتى على طبيبة التحاليل الإنسانة التي تحملتني وقالت لي والدموع في عينها
أنها سعيدة أن ترى إنسانا ً وفيا ً لزوجته على هذا النحو .. لكن المسألة في رأيي
لم تكن مسألة وفاء .. ولا تضحية .. بل ارتباط حياة ودم .. المهم فشلت تحاليل
شقيقها الوحيد أيضا ً .. ونصحني أطباء التحاليل بالبحث عن متبرع آخر وأعطوني اسم
وعنوان متبرع كان قد أجرى التحاليل ليتبرع بكليته لمريض آخر فاتصلت به وطلب مني 5
آلاف جنيه فرحبت لأني أستطيع بيع سيارتي وجهاز الفيديو والتليفزيون وأن أدفع له ..
وأجرينا له التحاليل فأثبتت عدم صلاحية كليته ثم أعطوني عنوان شاب آخر يصلح وسبق
أن أجرى التحاليل فاتصلت به فطلب منى عشرة آلاف جنيه فشرحت له ظروفي وإني لو بعت
كل ما أملكه فإني أستطيع تدبير هذا المبلغ لكني لا أستطيع تدبير تكاليف الجراحة
والمستشفى أيضاً وعرضت عليه سيارتي وكل ممتلكاتي فقبل .. ثم اختفى ثم عاد يتصل بى
من جديد ويطلب مبلغاً أكبر .. فأشرح له الظروف من جديد فوافق ويمضى خطوات فى طريق
التحاليل والاستعداد للجراحة ..ثم يختفي مرة أخرى وهكذا فى شد وجذب.
فمنذ أكثر من شهرين .. في يوم نفرح بقرب تحقيق
الآمال .. وفى يوم آخر نحزن لانهيارها وهكذا .. والغريب أنه ليس محتاجاً بالصورة التي
تتخيلها فهو شاب متعلم من أسرة متوسطة يعيش في شقة أحسن من شقتي مع أهله .. وليس في
حاجه ملحه للمال .. ولا أعرف نوازعه أو تفكيره لكني مضطر لأن أفعل المستحيل لإنقاذ
زوجتي.
ومازلت حائراً ومتعلقاً في
الهواء مع هذا الشاب .. لقد قرأت عن بعض المشاكل التى تم حلها في بريد الجمعة ..
فكتبت لك هذه الرسالة .. إن فصيلة دم زوجتي A.. وأنا على استعداد لبيع كل ما أملك وأقدمه
هدية لمن يساعدني في إنقاذ زوجتي
ولا أقصد بذلك المسألة المادية فإني لا أقبل مساعدة عاديه .. لكني أقصد هل أستطيع
أن أجد متبرعاً يقبل ما عندي لقاء مساعدته في إنقاذ زوجة وأسرة وبيت.
ولصديقي كــاتب هذه الرسالة أقول:
إنني لا أمتلك سوى نشر رسالتك
.. وقد نشرتها وكلي ألم مما تعانيه أنت وزوجتك الشابة الرقيقة من عذاب .. في وقت
كان المفروض فيه أن يكون وقت الراحة بعد العناء .. ووقت التطلع للآمال بعد أن
تحققت الأحلام، لكن ماذا أقول إنها الدنيا يا صديقي التي قلت عنها يوماً أنها
ناقصة. تعطى شيئاً فتأخذ أشياء .
لقد رفعتني معك إلى السماء وأنت تروي قصة حبكما وكفاحكما لبناء عش الأحلام ثم هويت
بي إلى الأرض وأنت تروي تفاصيل رحلة العذاب مع مرض زوجتك .. إني لا استطيع بكلماتي
أن أقدم لك عوناً كثيراً .. لكني فقط قد أقول لك .. لا تقنط من رحمه الله فقد كان
أجدادنا يموتون بأمراض تعالج بالأسبرين .. وما يعجز عنه الطب اليوم قد يكون غداً
يسهل الشفاء .. ويخلق ما لا تعلمون .. وكل يوم هو فى شأن, وقد يهيئ الله لزوجتك
ولأمثالها من المعذبين بهذا المرض اللعين فرجاً من ضيقهم بعلاج جديد في علم الغيب
يخفى الآن ولا يخفى عليه.
أما أنت يا صديقي فواصل
بحثك .. وقد يهيئ الله لك ولزوجتك عن طريق نافذة البريد .. فإن شاءت إرادته ذلك
فيها ونعمت, وإن لم يشأ ..فأستمر فى العلاج بالغسيل فإني أعرف أشخاصاً يعيشون حياة
طبيعية ومنتظمين فى غسيل الكلى منذ أكثر من عشرين سنه, وكيفا حياتكما على هذا الأساس
وتآلفا مع مقتضياتها الجديدة .. وأرضيا أولا بما أراد الله فإن الرضا هو بداية
الفرج وتذكر أنه رب يوم بكيت منه فلما صرت فى غيره بكيت عليه, فأقنع زوجتك بتقبل
الأمر بواقعية وواصلا حياتكما ولا تفقد الابتسامة مهما حدث ..وسوف يخفف عنكما
الكثير أن يجعل كل منكما للآخر كل هذا الحب..فاحتميا بحبكما ضد هذا العذاب ..
أعانكما الله وأعان أمثال زوجتك من المعذبين وفرج كروبهم جميعاً.
رابط رسالة طائر الحب والسعادة من كاتب الرسالة بعد عدة أشهر
![]() |
16 اغسطس 1985 |
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد
الجمعة" عام 1984
شارك في
إعداد النص / بسنت محمود
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر