خلف الأبواب .. رسالة من بريد الجمعة عام 1997
لقد قيل بحق أن الإسلام لم يكره شيئا مباحا كما كره الطلاق , لما فيه من
أضرار للأسرة والأبناء . وعلى الرغم من ذلك .. فلقد شرعه علاجا للحياة الزوجية
نفسها , ونظمه على نحو يتيح للزوجين مراجعة نفسيهما , وتدبر عواقبه وآثاره على
الأبناء , بما قد يسمح لهما بالعدول عنه فى أى مرحلة , أو إذا جرب كل من الزوجين
نفسه بعد الانفصال , ووجد لديه الرغبة فى استئناف الحياة الزوجية مع شريكه السابق
, ولقد رأينا من قبل كيف أن مجرد بغض الزوجة لزوجها وعجزها عن احتمال عشرته , قد
يكفى لأن تخلع نفسها منه .
عبد الوهاب مطاوع
أنا طبيبة شابة في
منتصف العمر, حاصلة على أعلى الدرجات العلمية في أحد فروع الطب, وقد نشأت في أسرة
مترابطة لها جذور عميقة , وكان أبي رحمة الله من علماء الأزهر الشريف , وأحد
أساتذته , وله مؤلفات عديدة في الفقه والدين , تدرس الآن فى الجامعات المختلفة ,
ولى شقيقات , وأخ كبير , نشأوا جميعا في هذا المناخ المعطر بعطر القيم الروحية .
وقد تزوجت جميع شقيقاتي , وكذلك شقيقنا الأكبر , حين كنت في مراحل التعليم
المختلفة ثم التحقت بكلية الطب , وواصلت تفوقي الدراسي , فكنت طوال دراستي بالكلية
من الطالبات المثاليات , ولأن الله سبحانه وتعالى قد حباني بدرجة عالية من الذكاء
والفطنة , أشكره عليها أناء الليل وأطراف النهار , فلقد ساعدني ذلك على تفهم أشياء
كثيرة وتمتعت دائما باحترام الزميلات والزملاء وإعجاب أساتذتي بتفوقي ونشاطي ,
ورفضت كل من يحاول أن يخطب ودي خلال مرحلة الدراسة الجامعية .. وآمنت بأن لكل
مرحلة من العمر هدفها , وأن هدفي في هذه المرحلة هو النجاح في الدراسة , ثم يجئ
الزواج بعد ذلك , وواصلت دراستي حتى حصلت على شهادتي الجامعية بتفوق .
وبدأت التفكير في اختيار شريك الحياة , وتقدم لي كثيرون قبلت منهم من رأيت فيه ضالتي
المنشودة , وكان يعمل خارج مصر , فكان في الأيام القليلة التي سبقت الزفاف , عذب
الحديث عف اللسان دمث الخلق , وتمت الخطبة وعقد القران والزفاف بأسرع مما يتخيل
أحد , بناء على طلب زوجي الذي يريد العودة لعمله.
وقبل الزفاف بأيام زارتني صديقة لي , وتساءلت
كيف أتزوج بهذه السرعة , ولم أعرف بعد زوجي حق المعرفة , فأجبتها بأنه حتى لو طالت
الخطبة سنوات , فلن يعرف أي زوجين بعضهما البعض حق المعرفة , إلا حين يغلق عليهما
معا مزلاج باب المسكن , ولكني أدعو الله أن يكون زوجي رجلا صالحا , كما يظهر لي
الآن .
وتم الزفاف وقضيت مع زوجي بضعة أيام جميلة لا تحسب من العمر , في أحد المنتجعات
السياحية , ثم طرنا إلى البلد الذي يعمل به , ووصلنا إلى عشنا الجديد الدائم ,
وأنا سعيدة مبتهجة , وأدعو الله أن يحفظ علينا سعادتنا , فما أن دخلنا المسكن ,
وأغلق علينا " المزلاج " حتى بدأ زوجي الذي عرفته في الأيام القليلة
السابقة عذب الحديث وعف اللسان , ينطق بكلمات بشعة نابية ويتصرف تصرفات لا تصدر
إلا عن كائن همجي , وذهلت لما سمعت من كلمات خارجة سوقية , وما رأيت من تصرفات ,
وتشاغلت عن ذهولي بترتيب البيت , وأنا واجمة لإطلاعي على هذا الجانب الآخر لشخصية زوجي
.
وبعد فترة قصيرة ارتدى زوجي ملابسه , وطلب مني الخروج لتلبية دعوة العشاء في بيت
أحد أصدقائه , وخرجت معه فما أن غادرنا المسكن , حتى رجع زوجي إلى ما عهدته فيه من
قبل بشوشا وضاحكا , ويداعبني بأرق الكلمات وقضينا السهرة في بيت أصدقائه , فكان زوجي
خلالها رجلا تتمناه أي امرأة , حتى خشيت عليه من الحسد , وتناسيت ما بدر منه من
قبل وبررته له بإرهاق السفر , ورجعنا إلى بيتنا , فما أن دخلنا البيت وأغلق علينا
المزلاج مرة أخرى , حتى رجع زوجي إلى سيرته الأولى , وأعاد على مسامعي
الألفاظ النابية نفسها , وأذى مشاعري بتصرفاته , التي تبعث على الاشمئزاز , ولم
أطق صبرا هذه المرة وانفجرت فيه مستنكرة عليه ما يقول وما يفعل ؛ فإذا به يجيبني
ببرود " وما وجه الغرابة فيما أقول أو أفعل , وأنا في بيتي .. ومن حقي أن
أستمتع بحريتي فيه , كما أشاء ؛ حتى أستطيع مواصلة حياة التكلف خارجه ! ".
وذهلت مرة أخرى , وتساءلت : هل بذاءة اللسان حرية أو متعة ؟
وهل في ارتكاب المعاصي بالخوض في أعراض الناس سعادة وراحة ؟
واستمرت حياتنا بعد ذلك على المنوال نفسه .. خارج البيت زوجي رجل مهذب وعف اللسان
و" جنتلمان " كما يقولون , وفى داخله مخلوق غير آدمي على الإطلاق , حتى
كرهت البيت , وحاولت أن أقضي معظم أوقاتي خارجه .
ومضت خمس سنوات , وأنا أجاهد جهاد الأبطال لإصلاح زوجي وتغييره بلا طائل , حتى
سلمت بأن طباع الإنسان تجري منه مجرى الدم , ولا سبيل لتغييرها , وكنت قد أنجبت
منه خلال هذه السنوات طفلتين جميلتين , وبعد أن باءت كل محاولاتي للإصلاح بالفشل ,
نفد صبري وعجزت عن الاحتمال فآثرت الانفصال , قبل أن يحدث ما لا تحمد عقباه ,
وطلبت منه الطلاق بالحسنى ولكنه رفض بإصرار وعناد , فرجعت إلى بيت أهلي ومعي
الطفلتان , وقررت أن أجعل هدف حياتي هو تربيتهما , والوصول بهما إلى بر الأمان .
وتصورت أن متاعبي قد انتهت عند هذا الحد , فإذا بى لا أسلم رغم انفصالي عنه من
أذاه ؛ بحجة أنني مازلت زوجته , فلجأت إلى القضاء للحصول على الطلاق ؛ لكيلا تصبح
له حجة علي , فمضت خمس سنوات حتى الآن وأنا أنتقل بين أرجاء المحاكم بغير أن أحصل
على الطلاق .. ومازلت مقيمة في بيت أهلي , ولا أنا زوجة فأسعد بحياتي مع زوجي ..
ولا أنا مطلقة فأتصرف في أموري كما أشاء , ولا أستطيع السفر للخارج لحضور مؤتمر علمي
, أو حتى لأداء فريضة الحج والعمرة لماذا ؟ لأنني زوجة , لابد من موافقة زوجي على
ذلك .
هذه يا سيدي هي القضية التي أكتب لك من أجلها ,
قضية المرأة التي لا هي زوجة ولا هي مطلقة .. وأريد أن أسأل من بأيديهم الأمر ,
أين الشرع والقانون من موقف هذه المرأة ؟ ألم يعط الشرع للزوجة حق الخلع , إذا ما
تنازلت عن كل حقوقها المالية لدى الزوج ؟ أليس للزوجة حق التطليق إذا لم تأمن على
نفسها مع زوجها ؟
لماذا لا تمنح الزوجة حريتها , إذا تقدمت بطلب التطليق للقاضي , بمجرد أن تطلب ذلك
, ودون اللجوء إلى تأجيل القضية سنوات وسنوات لإحضار شهود ووثائق ... إلخ .
وكيف تستطيع زوجة لها حياؤها ومركزها العائلي والاجتماعي , أن تحضر شهودا على ما يجري بينها وبين زوجها وراء الأبواب المغلقة , وما بين الزوجين لا يعلمه أحد إلا الله وحده ؟
ولكاتبة هذا الرسالة أقول :
بغض النظر عن جدية أو عدم جدية الأسباب التي دعتك إلى الانفصال عن زوجك وحرمان طفلتيك من حقهما العادل في الحياة الأسرية الآمنة , فلقد شرع الإسلام للزوجة إذا عجزت عن إصلاح زوجها .. أو عن احتمال عشرته وأبى الزوج أن يطلقها , أن تقدم لزوجها من مالها ما تفتدى به نفسها , فيما يعرف بنظام الخلع في الفقه , ومن الثابت في الأثر أن امرأة ثابت بن قيس قد جاءت إلى رسول الله , صلوات الله وسلامه عليه , فقالت له عن زوجها : يا رسول الله ما أعتب عليه في خلق ولا دين لكنى أكره الكفر في الإسلام " أي أنها لا تطيقه بغضا " فسألها النبي الكريم : أتردين عليه حديقته " وكانت مهرها " فأجابته بالإجاب , فأمره بأن يسترد منها حديقته , ويسرحها ولا يزيد عن الحديقة شيئا فيما يأخذه منها .
وهذا هي الحال , التي شرع فيها الإسلام الخلع , حين تكره زوجة كراهية شديدة , تستحيل معها العشرة , دون إيذاء لها من جانبه , أو إضرار بها فتقدم إليه من مالها ما تفتدى به نفسها , ومن علامة الشريف ألا يقبل لنفسه عشرة من لا تطيق عشرته , وألا يرضى لنفسه أيضا أن يكون الخلاص منه أملا , تدفع فيه له زوجته الفدية من مالها , ولقد يكفى مثل هذا الرجل أن يشعر بأن قرار زوجته بالانفصال عنه لا رجعة فيه .. ولا أمل في العدول عنه بعد فترة من مراجعة النفس لكي يبادر هو بإطلاق سراحها متعففا حتى عن قبول أية " فدية " لذلك .. لأن هذه الفدية نفسها قد تجرح مشاعره , بأكثر مما جرحتها رغبة زوجته فى الانفصال عنه , دون إيذاء من جانبه لها , ومع ذلك فلا لوم على من يقبلها , وإنما اللوم كل اللوم على من يضيق على زوجته ويؤذيها نفسيا ومعنويا وبدنيا , إلى الحد , الذي يدفعها لعرض الفدية عليه للتخلص من عشرته , وهذا هو الخلع غير المشروع , الذي يرى فضيلة الإمام الأكبر الراحل الشيخ محمود شلتوت , أنه إذا وقع فإن الطلاق يكون نافذا تخليصا للمرأة من الضرر والإيذاء , ولكنه يجب على الرجل أن يرد عليها ما أخذه منها مقابل الطلاق .
أما إذا كانت الزوجة غير قادرة ماديا على أن تتخلص من ضرر زوجها بالفدية , أو كانت
قادرة , ولكن زوجها رفض ذلك , وآثر الإبقاء عليها والاستمرار في إيذائها . فلقد
شرع الإسلام أيضا لمثل هذا الزوجة أن ترفع أمرها إلى القضاء , وأن تثبت بين يديه
الضرر الذي ينالها من استمرار عشرتها لزوجها , فيطلقها القضاء منه , ومن نقطة
إثبات الضرر هذه تأتي المعاناة , ويطول النزاع فى ساحات المحاكم , ويسهم بطء التقاضي
في إطالة العناء إلى الحد , الذي يسئ بغير قصد إلى الشرع الحنيف , الذي لا يجبر
امرأة على عشرة رجل لا تحبه .
وإذا كنت أختلف معك فى جدية أسبابك للطلاق من زوجك ولعلك لم تفصحي عنها كلها , فإني
لا أختلف معك في أنه لا يليق بكرامة رجل مهما تكن أسبابه أن يحبس زوجته رغما
عن إرادتها , وحتى تضطره إلى الوقوف أمامها في ساحات المحاكم .. فلقد قيل بحق أن
الإسلام لم يكره شيئا مباحا كما كره الطلاق , لما فيه من أضرار للأسرة والأبناء .
وعلى الرغم من ذلك .. فلقد شرعه علاجا للحياة الزوجية نفسها , ونظمه على نحو يتيح
للزوجين مراجعة نفسيهما , وتدبر عواقبه وآثاره على الأبناء , بما قد يسمح لهما
بالعدول عنه في أي مرحلة , أو إذا جرب كل من الزوجين نفسه بعد الانفصال , ووجد
لديه الرغبة في استئناف الحياة الزوجية مع شريكه السابق , ولقد رأينا من قبل كيف
أن مجرد بغض الزوجة لزوجها وعجزها عن احتمال عشرته , قد يكفى لأن تخلع نفسها منه .
فكيف إذا يقبل رجل على نفسه ورجولته وكرامته أن يتمسك بزوجة , تهجره منذ خمس سنوات
, وترد عليه مهره ؛ طلبا للخلاص منه حتى ولو كانت مصلحة الصغار هى دافعه إلى ذلك
.. إذا تذكرنا أن مصلحة هؤلاء الصغار أنفسهم , لم تمنع زوجته من الإصرار على
الطلاق ؟
يا سيدتي ... إنني سواء اتفقت معك في أسبابك أو لم أتفق , فإني أضم صوتي إلى صوتك في
جعل قضايا الطلاق والأحوال الشخصية بصفة عامة من اختصاص القضاء المستعجل , ليس فقط
تجنبا لم ينجم عن بطء التقاضي فيها من مآس إنسانية عديدة , وإنما أيضا لما يقدمه
طول النزاع في قضية مثل قضيتك هذه عن انطباع خاطئ عن موقف الشرع الحنيف من حق
المرأة , فى الحصول على حريتها , إذا كرهت زوجها , أو إذا شكت منه الضرر والإيذاء النفسي
, وهو انطباع خاطئ وظالم بكل المقاييس .. والسلام !
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1997
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر