اللقب الأبغض .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995

 اللقب الأبغض .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995

اللقب الأبغض .. رسالة من بريد الجمعة عام 1995


إن من يعتز بنفسه وبأسرته وذويه وأبنائه حقا وصدقا، هو من يربأ بنفسه عن الخطأ مهما كانت شدة احتياجه إليه.

عبد الوهاب مطاوع

 

أنا سيدة في الخامسة والأربعين من عمري، تزوجت منذ خمسة عشر عاما، ومنحني الله ولدين وبنتين. ولی إخوة وأخوات، وقد نشأنا جميعا بين أب متفهم وأم حازمة تشربنا منهما القيم الدينية والأخلاقية، وصمدنا لاختبارات الحياة وجنينا ثمار كفاحنا، فتخرجنا وعملنا وترقينا جميعا في مناصبنا. وتزوجت وأنا في الثلاثين من عمری من زوجي الذي أحببته، ومع ذلك فأنا الآن أعيش في بيت أسرتي مع أبي وأمي وأولادي الأربعة، لأن من تقاليد أسرتي ألا تعيش الابنة مع أولادها وحدها في مسكنها إذا كان الزوج غائبا .. وزوجي غائب منذ 5 سنوات یا سیدی، لكنه ليس مسافرا للعمل في الخارج كما قد تتصور، ولا هاجرا لي، وإنما هو للأسف سجين !

 

نعم .. زوجي، أبو أبنائي الذي أحبه سجين؛ فقد اتهم في قضية أعتبرها مخلة بالشرف لخيانته للأمانة وتزويره وإعطائه شیکات بدون رصيد، وكلها تصرفات تتعلق بالمال، وهي السمة التي طفت الآن على السطح فأصبح كل إنسان يريد أن يعمل القليل ويجنی الكثير .. إنني لست أحلم بالمدينة الفاضلة، لكني أتألم لانهيار الحلم الجميل الذي كنت أعيشه وأريد لأبنائی أن ينشأوا فيه.

وقد قرأت لك رأيا تقول فيه: إنه ليس من العدل أن يتحمل الإنسان تبعات أخطاء الآخرين .. وهذا هو العدل حقا یا سیدی.

 لكن كيف أنجو من تحمل تبعات أخطاء الآخرين وهؤلاء الآخرون هم زوجي وأبو أولادي الذين أخفيت عنهم خبر أبيهم؟ إذ ماذا أقول لهم عن الأب الذي ينبغي أن يكون مثلهم الأعلى، في الحياة والقيم والمبادئ؟

 

إنني لا أستطيع أن أفجعهم في مثلهم الأعلى، وأفضل أن أدعهم في حلمهم يحلمون باليوم الذي سيعود فيه (بابا) من الخارج حاملا معه شهادة الدكتوراه التي زعمت لهم أنه يحضر لها هناك، بعد أن حصل على الماجستير هنا.

 ومع ذلك فإنني أكاد أجن كلما زرت زوجي في سجنه كل أسبوع حين ألمس اللامبالاة التي يواجه بها الموقف.. وأكاد لا أصدق أنه هو نفس الإنسان الذي أحببته وعاشرته وحلمت معه بأن نعبر معا بأبنائنا بحر الحياة إلى شاطئ الأمان. .

إنني أتساءل: ما المبرر الذي يجعل أي إنسان يخون الأمانة ويخون ثقة الآخرين فيه؟

لقد كان والدي في منصب يستطيع معه "لو أراد" أن يكون أحد نجوم مجتمع الثراء، لكنه والحمد لله لم يمد يده إلى قرش واحد من المال الحرام .. وكان يستطيع أن يجهزنا للزواج أحسن جهاز لو فعل، لكنه أراد لكل منا .. ولدا كان أو بنتا، أن يكون مسئولا عن نفسه ، فساعدنا في حدود إمكانياته ومعاشه بما يستطيع، واعتمدنا نحن في الباقي على أنفسنا، وأصبح لكل منا بيته وأسرته وأبناؤه، لكن ها أنا أعود إليه محملة بأربعة أطفال صغار في حكم الأيتام.. فلماذا یا ربي هذا العذاب وأنا لم أطلب شيئا من الدنيا سوى الستر .. ولم أرد لأبنائي سوى الحياة الشريفة العادية؟

 

إنني أسمع عن زوجات قد يدفعن أزواجهن أحيانا إلى المال الحرام بمطالبهن التي لا تنتهي، وربی عليم بكل شيء .. يعلم أنني لم أطلب من زوجي شيئا يفوق أو يتجاوز حدود إمكانياتنا المعروفة ، لكنه هو الذي كانت له تطلعات غريبة لا تتفق مع دخلنا، وقد لاحظت عليه زيادة في دخله كان يبررها دائما بصرف مكافآت له، وكان وقتی کله مشغولا بالعمل والبيت ورعاية الأولاد ورعايته هو، وكنت أحذره دائما من المال الحرام وما يجره على البيوت الآمنة من خراب، فأفقت من حلمي على الواقع المر، وتوالت الكوارث علينا وكانت صدمتی كبيرة .. وضاعف من آلامي ما أتكبده في كل زيارة من عناء نفسي مؤلم، ومن إعداد مؤن وطلبات غريبة له ولزملائه زملاء السجن دون أية مراعاة لمشاعري ولا لأننا نفتقده كأب ورب أسرة، وكل همه هو الطلبات المختلفة من الطعام والملابس وأنواع البقول وأدوات التنظيف وخلافه، ولا يعرف أحد عمق المعاناة النفسية التي أعانيها حين أضطر "وأنا الأم والزوجة الجامعية والموظفة في منصب محترم" لأن أتعامل عند زيارتي له مع نوع من البشر لم أكن أتخيل أن أتعامل معهم ذات يوم، كزوجات وأقارب المسجونين المحترفين الذين يذهبون إلى السجن وكأنهم في نزهة عائلية ، وكالجنود الذين تعودوا على أن يتعاملوا مع أقارب المسجونين کمواطنين من الدرجة العاشرة، ولا تفرقة عندهم بين زوجة تاجر مخدرات، وزوجة (بك) كان مفروضا ألا يعرض زوجته ذات يوم لمثل هذه المهانة .

 

والعجيب أنه لا يشعر بالندم على ما فعل.. وقد قابل خبر فصله من عمله بعد صدور الحكم عليه بمنتهى البرود .. ولست أعرف هل هو برود فعلا أم أن بداخله بركانا يداريه ويريد أن يطمئنني!

لقد قرأت في أحد الكتب أن كثيرين من المجرمين المسجونين في أحد السجون الأمريكية التي زارها المؤلف لم يكونوا يشعرون بالندم على ما فعلوا، بل وكانوا يشعرون بأن الجميع قد ظلموهم، وحين قرأت ذلك منذ عشر سنوات لم أفهمه ولم أحس به .. لكني فهمته الآن وأحسست به .

والكارثة أن بعض أقارب زوجي اتهمونی - سامحهم الله - بأنني كنت أعرف بما يفعل وأتستر عليه .. والله يعلم أنني لم أكن أعرف شيئا مما فعل، ولو عرفت به في حينه لكان لي معه شأن آخر، والحمد لله فإن أحدا سوى هؤلاء الأقارب لم يصدق زعمهم عني، ومازلت موضع احترام كل من أعرفهم، ولم ينقص هذا الاحترام بعد ما حدث، بل زادتني المحنة إصرارا على أن ينشأ أبنائي في جو نظيف أوفر لهم فيه كل ما يحتاجون إليه إلا الأب الذي فقدوه، كما زادتني المحنة إيمانا بأن الإنسان الشريف وحده هو الذي يستحق الحياة، كما وأن الإنسان لابد أن يؤمن دائما بأن لكل إنسان ظروفه ورزقه، ولا يبتغي أن يتطلع لما ليس في قدرته، فأنا مثلا قد دفعت مع أبنائی هذا الثمن الغالي من سعادتنا وأماننا، ولم ألاحظ أي فرق يذكر في مستوى معيشتنا قبل أن يجد زوجي يده إلى المال الحرام، وبعد أن حدثت الكارثة، اللهم إلا في بعض الأشياء التافهة التي يستطيع أي إنسان الاستغناء عنها بسهولة.

 

 فهل تستحق مثل هذه الأشياء ما ندفعه أنا وأبنائي من ثمن باهظ لها الآن؟ .. وكيف هان على زوجي أن يعرضنا جميعا لهذه المحنة .. وكيف لم يرع مستقبل ابنتيه ولا أقول ولديه أيضا؟

لقد فكرت جديا في السفر للخارج بعد أن أحسست بمدى الظلم الذي تعرضنا له كأسرة .. لكني راجعت نفسي وتساءلت: ولماذا أغترب عن بلدي وبها ملايين البشر الذين يتحملون ظروف حياتهم بصبر ولا يمدون أيديهم إلى الحرام؟.. لقد حدث ما حدث نتيجة الخطأ .. إنسان أخطأ واستمر في الخطأ بلا وازع من ضمير .. فلماذا أسافر وأغترب؟ هل أهرب من مواجهة الناس؟




ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

لا لوم عليك يا سيدتي في وفائك لزوجك وحرصك على زيارته أسبوعيا في سجنه مع ما تتكبدين في ذلك من معاناة نفسية ومادية مريرة.. فالأصل هو ألا يعاقب الجاني على جريمته مرتين، ولقد أخطأ زوجك في حق المجتمع فعاقبه على جريمته بالسجن، وهو عقاب قاس وكاف في حد ذاته ، فإذا كنا لا نلوم من تتخلى عن زوجها إذا أخطأ في حق مجتمعه وأسرته ودخل السجن، ونرى في حصولها على الطلاق منه للضرر حقا لها تقدره وفقا لظروفها، ولها أن تستخدمه أو تتنازل عنه .. فكيف نستطيع أن نلوم زوجة على وفائها لزوجها ووالد أطفالها الأربعة، بغض النظر عن خطيئته في حق مجتمعه وأسرته؟

 

إن كل إنسان يتصرف بهدي من أخلاقياته ومثالياته هو وليس بأخلاقيات الآخرين وأفكارهم كما يقول لنا علماء السلوك، فإذا كنت قد أقمت على وفائك لزوجك ووالد أطفالك - بل وعلى حبك له أيضا كما فهمت من رسالتك، ورغم ما فعل بك وبأسرته - فلا لوم ولا عتاب .. فكل إنسان )ينفق مما عنده) یا سیدتی كما يقول لنا السيد المسيح عليه السلام، ولقد رأيت أنت أنه ليس من الرحمة أن تنبذيه أو تتخلى عنه في محنته القاسية، حتى ولو لم يكن جديرا بهذا العطاء؛ لأن بينك وبينه صلة يصعب فصمها هم الأطفال الأربعة الذين ينتظرون عودة الأب الغائب من غيبته .. فمن ذا يستطيع لومك على ذلك؟

أما حديثك عن لا مبالاته وعدم إحساسه بالندم على ما فعل، فلست أستطيع الجزم بحقيقته.. لأن نفسية السجين تختلف كثيرا عن نفسية من يتنسم نسیم الحرية، وهو غالبا - خاصة إذا كان شخصية سوية - يشعر بالندم في أعماق سريرته على ما فعل، ويلعن اللحظة التي استسلم فيها لضعفه وانتهى به أمره إلى السجن .. والسجن دائما تجربة شديدة القسوة والمرارة إلى حد أنه لا يستطيع أحد أن يحكم عليها سوى من كابدها بنفسه، لكنه من ناحية أخرى يرى أنه يدفع ثمن جريمته باهظا.. فماذا ينتظر منه الآخرون أكثر من ذلك؟! ولماذا يتوقعون منه في كل لقاء معه أن يذرف الدمع ويبدي الندم بالكلمات والألفاظ وقد بكي في بداية المحنة طويلا حتى جفت مآقيه، ولن يغير بكاؤه الآن، ولا إظهار ندمه، من واقعه الحزين شيئا .. فضلا عن أن المجتمع السجن نفسه تقاليده التي تستنكر الضعف والتخاذل، وإنكار الجريمة وادعاء البراءة وإظهار الندم باعتباره ضعفا. ولهذا كله فإني أرجح أن ما تتصورينه فيه من لا مبالاة وعدم إحساس بالندم، إنما هو غالبا تبلد أو جمود في المشاعر بتأثير الإقامة الطويلة في السجن واعتياد الأمر الواقع، وليس دليلا على عدم الندم. وحتى انحصار مطالبه في الأشياء المادية لا يعني ذلك أيضا، لأنها من ضرورات الحياة في السجن وليست ترفا ولا تعبيرا عن اللامبالاة كما تتصورين.

 

والأشخاص الأسوياء من غير محترفي الإجرام ولا من أصحاب الشخصية السيكوباتية المنحرفة التي تختلط لديها الحدود بين الخطأ والصواب بشكل مرضي ولا يردعها رادع عما ترغب أو ترى فيه صالحها.. الأشخاص الأسوياء هؤلاء لا يخرجون من السجن في كل مكان بالعالم إلا بدرس واحد، هو أنه ينبغي عليهم ألا يرجعوا إليه مرة أخرى مهما كانت الظروف والمغريات!

ولست أتصور أن زوجك شخصية سيكوباتية، وإنما أتصور أنه واحد من أصحاب الضعف البشري والحس الضعيف بحرمة المال العام، ومال الغير، الذين يمكن أن تجرفهم تطلعاتهم الحقيرة إلى هاوية الخطيئة .. وأمثال هؤلاء تكفي هراوة السجن الثقيلة غالبا التطهير رؤوسهم من هذه التطلعات والأوهام.. ويكفي ما تعانيه أسرهم وأبناؤهم وهم شخصيا خلال المحنة لإقناعهم بعد فوات الأوان بأن الإنسان الرحيم بأسرته حقا هو الإنسان الذي يشفق عليها من أن تطعم من حرام مهما كانت مغرياته .. وأنه لا شيء في الحياة يعدل إحساس الأمان ورضا الضمير والسلام الذي يشعر به الإنسان الشريف مهما كانت ظروفه قاسية .. فكل شيء فيما خلا رضاء ضمير الإنسان واستشعاره الذاتي للكرامة الإنسانية التي لا يستطيع أن يحس بها وهو يقرب الحرام .. باطل وتافه .. وأتفه من التفاهة .

 

وخير دليل على ذلك هو ما تقولينه أنت يا سيدتي من أنك لم تستشعري فرقا محسوسا بين حياتك قبل أن يقرب زوجك المال الحرام وبعد أن ارتوى منه، سوى في أشياء شديدة التفاهة ويمكن الاستغناء عنها بمنتهى السهولة، وحتى لو لم تكن كذلك فهي لا تستحق أيضا أن يلوث الإنسان الشريف يده ونفسه وروحه بها. ومن أجمل ما قرأت من تعبیرات أدبية، تعبير يتحدث فيه الأديب الروسي العظيم تشيكوف عن شخص شريف فيقول عنه : (لقد كان أكثر اعتزازا بنفسه من أن يكون مختلسا أو لصتا رغم شدة فقره)!

 

فهل تأمل البعض هذا التعبير الفريد؟.. إنه يقول لنا بإيجاز معجز : إن من يعتز بنفسه حقا وصدقا وبأسرته وأبنائه وإخوته وذويه، وهو من يربأ بنفسه عن الخطأ مهما كانت شدة احتياجه إليه، وليس العكس .. ولست أتحدث هنا عن عقاب السماء ولا عن سوء المصير، فهذه كلها أمور معروفة، و(السكوت عن المعلوم بلاغة) كما تقول الحكمة القديمة .. لكني أتحدث فقط عن تقدير الإنسان لنفسه ورؤيته لمدى جدارتها بأن تكون بين الشرفاء أو تكون بين غيرهم  واستبشاعك أنت يا سيدتي لما فعل زوجك هو أيضا جزء من ضوابط الحياة وقوانينها التي تكفل لها الاستقرار والاستمرار، وعالم الاجتماع الشهير إميل دوركايم يقول لنا: إن أي موقف إدانة يتخذه المجتمع ضد من ينحرف من أفراده، إنما يهدف إلى منح الطمأنينة الباقي أفراد هذا المجتمع الذين يهمهم المحافظة على استقرارها

بمعنى أنك ستفزعين يا سيدتي إذا علمت مثلا أن أحدا قد قتل أمه .. لكن المؤكد أنك كنت ستفزعين أكثر إذا وجدت المجتمع المحيط بهذه الجريمة لا يدينها ولا يستنكرها ولا ينبذ مرتكبها، فلعل زوجك يكون قد استوعب درس تجربته هذه .. واستوعب مغزی استنكار حتى أقرب الناس منه لها.. ولعلك لا تلومين أحدا على حرمان أطفالك من أبيهم، وعلى ما تعانين من مهانة عند التعامل مع جنود السجن وزوجات المجرمين، سوی من لم يكن أكثر اعتزازا بنفسه وبکم من أن يجنبكم هذا الهوان .. ولا لوم عليك في النهاية فيما تختارين لحياتك معه في المستقبل إذا لم يتأكد لديك صدق ندمه وصدق نیته على أن يبدأ معك ومع أبنائه ومع الحياة صفحة جديدة بيضاء .

رابط رسالة خلف الأبواب تعقيبا على هذه الرسالة


                      ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1995

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات