ابتسامة الغروب ! .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1991
قرأت رسالة " الدعاء
" المفزعة التي يتحدث فيها كاتبها عن زوجته الراحلة حديثا بشعا ويدعو ربه –
غفر الله له – أن يضيِّق عليها قبرها .. الخ.
وأريد أن اروي له ولك قصتي .
ففي مثل هذا الشهر منذ 7
سنوات تعرفت على فتاة شابة في مناسبة هامة في حياتها هي يوم حصولها على دبلوم
المعلمات .. وبعد أسبوع بالضبط كنت قد خطبتها وعقدت قراني عليها وعدت إلى الدولة
العربية التي اعمل بها لاستكمال سنوات الإعارة .. ومضى عام على القران تراسلنا
خلاله وتبادلنا أجمل مشاعر الحب والوفاء ثم عدت في الأجازة في الشهر الذي تعرفت
عليها فيه منذ عام وتم الزفاف, وتحول الحلم السعيد الخاطف إلى حقيقة جميلة .. وفي
اليوم التالي مباشرة جاء الأهل ليهنئونا .. وراحت حبيبتي تتحرك سعيدة ومزهوة بحبنا
وسعادتنا فإذا بها تسقط فجأة مغميا عليها بينهم فاضطرب البيت بمن فيه وأسرع أهلها
فنقلوها إلى غرفتها .. وأفاقت من غيبوبتها بعد فترة قصيرة لكنها ظلت نائمة بعدها
في فراشها ولا تستطيع أن تستقبل أحدا .. وعرفت منها أنها تعاني من مرض يسبب لها
هذه الغيبوبة على فترات متباعدة وأنها تشكو منه منذ عامين .. فعاهدتها ألا يكون
لهذا المرض أي تأثير على حياتنا الزوجية وقلت لها عبارة ظلت ترددها فيما بعد عنِّي
.. وهي أن السليم قد يمرض والمريض قد يشفى بإذن الله .. كما كررت عليها أيضا نصيحة
الأم العربية لابنتها المقبلة على الزواج وهي : كوني له أرضاً يكن لك سماء ..
وكوني له أمة يكن لك عبدا وكوني له شمسا يكن لك قمراً .
فكانت هي شمس حياتي منذ أول
لحظة جمعتنا فيها الحياة معا وبدأنا رحلة العلاج الشاقة ..وعرفت أن زوجتي الشابة
الملائكية تعاني من بؤرة صَرَعية في الجهة اليمنى من المخ تفقدها وعيها من حين إلى
آخر لمدة دقائق لكنها تبقى بعد كل نوبة نائمة لفترة طويلة .
وحملت زوجتي الجميلة بثمرة
حبنا وأراد الله سبحانه وتعالى أن يحفظ عليها جنينها فلم تأتها النوبات خلال فترة
حملها إلا متباعدة ولم تصادفها لحكمة أرادها إلا وهي جالسة أو نائمة فلم تسقط على
الأرض مرة واحدة طوال فترة الحمل ثم وضعت مولودها وبدأت النوبات تتوالى عليها
بكثرة كأنما أراد الله لها أن تنطلق من عقالها بعد أن حبسها عنها معظم فترات الحمل
فجاءت شقيقتها لتقيم معنا وترعى الطفل الوليد الذي حُرم من الرضاع من أمه حرصا
عليه كما أمرنا الأطباء .
وظلت أختها مقيمة معنا حتى
تم فطام الوليد ثم أصبحت شقيقاتها تتناوبن زيارتنا مرة كل أسبوع فتقوم إحداهن بغسل
الملابس وطهي الطعام الذي يكفينا خلاله وسعدتُ بذلك لأني أخشى عليها الوقوف في
المطبخ حتى لا تفاجئها النوبة فتسقط على البوتاجاز المشتعل أو خلال قيامها بعمل من
أعماله .
وكنت أقوم بشئون البيت
والمطبخ بقدر ما تسمح به معرفتي ووقتي فأصنع طعام الإفطار لنا في الصباح وأترك
طعاما للطفل حتى لا تضطر زوجتي للذهاب للمطبخ في غيابي وأنهض في الليل للقيام بما
يحتاج له الطفل وتعجز أمه عن القيام به .. ولا أدع لها عملا تؤديه إلا تسخين
الطعام للغداء والعشاء وأنا واقف بجوارها ثم نقوم معا بإعداد المائدة ونجلس لنتناول
الطعام سعيدين ضاحكين متعاطفين, وفي أحيان كثيرة كنت أسهر على غسل الأواني
عقب نومها وبعد أن أغلق النوافذ حتى لا يراني أحد من الجيران أفعل ذلك .. وكنت
أقوم بكل ذلك راضيا وصابرا وقد تناسيتُ حقوقي الزوجية إلى أن يأذن الله بالشفاء.
ثم مضت بنا الأيام ونحن على هذا الحال راضييْن
بما أرادته لنا الأقدار .. وفي كل جمعة نقرأ بريدك لنتخفف به ونتعزى بما فيه من
هموم الآخرين ونقول في كل أسبوع وربما في صوت واحد أن الحمد لله أن حياتنا لا تعرف
هذه المشاكل .
إلى أن جاء العام الماضي
وزادت النوبات الصرعية وحار الأطباء في أمرها وأجروا أشعة بالكمبيوتر فإذا بها
تكشف عن ورم في المخ ولابد من إجراء جراحة سريعة وخطيرة ومكلفة ماديا .
وبفضل الله ثم مساعدة الأهل
والأصدقاء تم إدخالها معهد ناصر وإجراء الجراحة لها على يد أستاذ عظيم ورافقتُها
في المستشفى قبل وبعد الجراحة أرعاها وأخدمها وأسهر على راحتها وأحلم معها باليوم
الذي نعود فيه إلى عشنا الصغير ونستأنف حياتنا الوادعة الهادئة معا وبعد شهر عدت
بها إلى بيتي كأنما هي عروس تُزف إلى زوجها لأول مرة ..لكن رحلة العلاج استمرت
وأضيفت لها جلسات كهربائية يومية على المخ .. وجاءت شقيقتها مرة أخرى لتقيم معنا
وتذهب معها إلى المعهد حين أعود أنا من العمل لأجلس مع الطفل ..وانتهت الجلسات
وتنفسنا الصعداء ..لكنه لم تمر سوى 6 شهور فقط إلا وعاد الورم اللعين مرة ثانية
إلى المخ وفي نفس المكان ..وعدنا إلى نفس الجراح الكبير وقام بإجراء الجراحة للمرة
الثانية ونجحت مرة أخرى والحمد لله وعادت الفرحة إلى قلبي وكانت أمها هي التي
ترافقها هذه المرة في المستشفى وأذهب لزيارتها كل يوم ..فلا تأكل حتى آتيها
وأطعمها بنفسي ولا تتناول شرابا إلا من يدي وقد ازدادت رقة وملائكية وجمالا ..
وبعد أيام فاجأتها غيبوبة تامة طويلة فتم نقلها إلى العناية المركزة ولم تعد تشعر
بشيء أو يوقظها شيء إلا حين أقتربُ منها وتحس بلفح أنفاسي على وجهها فتفتح عينيها
وتنظر إلي نظرة طويلة تحمل ظل ابتسامة خجولة كأنما تقول لي بها أحبك وأشفق عليك
مما عانيته معي لكن لا ذنب لي فيما حدث ..ثم تغمض عينيها مرة أخرى وتغرق في الصمت
الذي يحيط بها .. وكنت أناجيها ..وأهمس لها وأؤكد لها أني أحبها ولست نادما على
يوم واحد عشته معها وأدعو لها ربها ولا أغادر موقفي بجانبها إلا بإلحاح من الأطباء.
وفي اليوم الرابع من غيبوبتها الطويلة جئت إليها
وانحنيت عليها وأحسَّت هي بلفح أنفاسي ففتحت عينيها ولكن لنظرة قصيرة تحمل ظل
ابتسامة متعجلة ثم أغمضتهما على الفور وكان الوقت عند الغروب فتشائمت وأحسست بقرب
الفراق ..ولم تمض فترة قصيرة إلا وكانت نفسها الوادعة المطمئنة قد عادت إلى بارئها
في صمت وهدوء .
وبدأت المراسم الحزينة
ووقفت على إعدادها للرحيل كما أوصتني بذلك وتأملتها وهي تنام هادئة مطمئنة فإذا
بوجهها أكثر جمالا مما رأيته يوم القران وليلة الزفاف وكل أيامي معها ..وقد اكتسى
بجلال ملائكي أعجز عن وصفه وأحاطت به هالة من نور شفيف فجلست إلى جوارها أقرأ لها
سورتي يس وتبارك .
ثم تجمع الأهل والأصحاب
لوداعها فشاركت في حملها إلى رحلتها الأخيرة على كتفي وأنا أردد لا إله إلا الله
..لا باقي إلا وجهك اللهم فارحمها واعف عنها واغفر لها وأفسح لها في قبرها واجعله
روضة من رياض الجنة ...وجاف الأرض عن جنبيها اللهم اجمع بيني وبينها وصِلْ ما
انقطع بيننا في رحابك يوم يكون اللقاء ..اللهم تقبل منها وعوضها عن كل ما لم
يمهلها العمر للاستمتاع به في جنتك يا أرحم الراحمين .
وظللت أردد لها هذا الدعاء
حتى ووريت الثرى ..وعدت إلى بيتي الخالي ..ومازلت أردده لها كل يوم .. وقد مضت
أيام على رحيلها وانطوت صفحتها القصيرة قبل أن تبلغ الثلاثين من عمرها وقد لاحظت
في غمرة أشجاني أنها قد رحلت عن الحياة وعني في نفس اليوم الذي عقد فيه قراننا منذ
7 سنوات وفي نفس اليوم الذي تم فيه زفافنا منذ 6 سنوات ..فادع لي ربك بالصبر
والاحتمال ..وادعه لابني الذي يبلغ من العمر الآن 5 سنوات ويحسب ببراءة الأطفال أن
أمه في سفر قصير ينتظر عودتها منه بلهفة .
أما أنا فدعائي لك وللجميع
هو : اللهم لا تفرق بين حبيبين من بعدي اللهم فاجعل لمن ليس له حبيب حبيباً يحب
الحياة من أجله ويحس معه بجمالها ..ربنا وتقبل دعاء .. والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته ..
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
مما يعزي المرء عن بعض
أحزانه استشعاره الرضا عن نفسه لأنه لم يخذل أحدا .. ولم يتسخط على قدر اختاره له
الله ..ولم يخن نفسه ولا واجبه الإنساني تجاه من تطلع إلى وفائه فكان له من
الأوفياء وكان للآخرين في محنتهم حيث يجب أن يكونوا له هم في شدائد الحياة .
ولاشك أنك يا سيدي تحس ببعض
هذا الرضا عن النفس الآن إذْ كنت خير شريك لمن أحببت ولمن جمعت بينك وبينها الحياة
خلال هذه الرحلة القصيرة التي لم تطل أكثر مما يطول شفق الغروب ..ولا بد أن زوجتك
الراحلة كانت ملائكية الروح والطبع وتستحق وفاءك وإخلاصك لأن " المرء مع من
أحب " كما جاء في الحديث الشريف أي تجمعهما غالباً شمائل وخصال متشابهة ونظرة
متقاربة للحياة .
لقد قال أحد الشعراء يوما
" ولا يبعث الأحزان مثل التذكر " .. وهذا صحيح ولكن أي نوع من الأحزان ؟
أهي الأحزان التي تُقْسي القلب وتصبغه بالسواد وتضع بينه وبين البشر السدود فلا
يتمنى لأحد خيرا ولا يرق لآلام أحد ؟ إن كانت كذلك لحق لنا أن نستجيب لنصيحة عمر
بن الخطاب حين قال : لا تستفزوا الدموع بالتذكر، أما إذا كانت من الأحزان التي
ترقق المشاعر والقلوب وتكسبها رفاهية وشفافية تئن معها لآلام الغير .. وتتمنى لو
استطاعت أن تخفف عن الآخرين بعض ما قاسته هي وعانت منه ؟ فلا بأس بالتذكر من حين
لآخر .. بلا مغالاة وبلا استغراق فيها يحجب عنا رؤية ضوء الشمس حين تشرق من جديد
بعد ظلام الأحزان ..
ولا شك أن أحزانك من هذا
النوع الذي يضيف إلى الحياة ولا يخصم منها وليس أدل على ذلك من أمنيتك الصادقة
للجميع بألا يُحرموا ممن يحبون بعد أن قاسيت لوعة الحرمان ممن تحب وهي أحزان لا
يملك المرء إلا أن يقف أمامها حانيَ الرأس داعيا لك ولكل المحزونين بأن يجفف الله
دموعهم ويعينهم على أمرهم بقلب صبور ونفس متطلعة إلى رحمته وإلى موعدها مع السعادة
بعد الشقاء .
فليتقبل الله دعاءك للآخرين
ودعاء الآخرين لك ولطفلك البريء ..وليعوضك الله عن آلامك خيرا كثيرا وشكرا لك على
رسالتك النبيلة .
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر