الأحلام الموءودة ! .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1991

الأحلام الموءودة ! .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1991 

 الأحلام الموءودة ! .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1991

 ضحية أخرى تضاف إلى قائمة ضحايا المأزق الإنساني الذي ينتج عنه كثير من المآسي الشخصية وهو مأزق تعارض وسائل سعادة البشر حين يرتضي البعض لنفسه أن يختار سعادته بغير اعتبار لما يترتب على اختياره ذاك من شقاء الآخرين

عبد الوهاب مطاوع


قرأت رسالة الجنيه الذهبي التي تروي فيها فتاة صغيرة السن أنها أحبت رئيسها في العمل الذي يكبرها بأكثر من 25 سنة رغم أنه متزوج ولديه ولدان وتزوجته مما أثار عليها سخط زملائها في العمل واضطرها للاستقالة ثم بدأ زوجها يتحاشى الخروج معها أو اصطحابها في الزيارات العائلية تجنبًا لما أسمته "حديث العيون" الصامت والرافض لهذا الزواج .. وقد أثارت هذه الرسالة شجوني فأردت أن أروي لك أنا أيضًا قصتي.

 

 فأنا فتاة أبلغ الآن من العمر 24 سنة لكن لي تجربة أعمق مع الحياة ، فمنذ 5 سنوات تزوجت وأنا في التاسعة عشرة من إنسان طيب اخترته عن اقتناع بالرغم من أنه لا يحمل أية شهادة دراسية ويعمل بالتجارة .. ولقد عارضني الجميع في اختياري له بحجة أنه غير متعلم وأنا طالبة جامعية فتمسكت به وصممت على الارتباط به بل وقررت ترك دراستي الجامعية حتى لا أكون أفضل منه في شيء وتركتها بالفعل وتزوجنا سريعًا وعشت معه حياة سعيدة بكل معنى الكلمة وواجهت بعض المتاعب التي حاولت أن تخلقها بيننا إحدى قريباته فصبرت عليها وتحملت وصممت على ألا تنتصر عليَّ هذه السيدة أو تهزم حبنا ومضى عام وثلاثة شهور من زواجنا ونحن في سعادة تامة نستمتع بالحب والتفاهم ودفء المشاعر والإخلاص .. ثم ذات يوم وقع زوجي الشاب وهو يقف في محله على الأرض .. فأسرعوا إليه ليعينوه على الوقوف فوجدوه يتنفس بصعوبة وأسرع بعض الحاضرين لاستدعاء طبيب لإسعافه من هذه الأزمة الطارئة التي يمكن أن يتعرض لها أي إنسان بسبب إرهاق العمل فإذا به يلفظ أنفاسه بين أيديهم بلا مقدمات ولا مرض ولا أي شيء وإذا بحلمي السعيد ينهار فجأة أمام عيني وأنا أكاد أجن من الذهول والصدمة ولا أصدق ما حدث .

 

وبعد ثلاثة أيام فقط من هذا اليوم الأسود بدأ أهله الذين كنت على علاقة طيبة بهم وأحبهم ويحبونني يلمحون لي بضرورة مغادرة الشقة .. وكأني قاتلته ولست زوجته التي أحبته وأحبها من كل قلبه لكن قاتل الله الميراث والخوف على الشقة الذي بدد سريعًا المودة السابقة ولست في حاجة لأن أقول لك أني تركت لهم الشقة الجميلة لأني لا أستطيع أن أواصل الحياة بها وكل شيء فيها يذكرني بزوجي الراحل رغم أن أهلي عارضوني في ذلك فتركتها لهم وغادرت عش أحلامي الموءودة قبل مرور 40 يومًا على رحيل زوجي وسلمتها لشقيقه .. ونلت ما يقضي لي به الشرع من ميراث وعدت إلى بيت أسرتي أرملة في الثانية والعشرين من عمرها وعشت أيامي حزينة وحيدة وتعرضت لأزمات صحية عديدة طفت معها على عيادات الأطباء طلبًا للعلاج .. ووجدت في الصلاة وقراءة القرآن راحتي وملاذي ومضت الأيام والشهور وأنا لا أستطيع نسيان ما جرى وأسأل نفسي في حسرة وبلا جدوى لو أني على الأقل أنجبت طفلاً منه أعيش له ويجدد ذكراه دائمًا في قلبي .. ألم يكن ذلك يخفف من وحدتي ، وأشفقت عليَّ صديقة مخلصة ذات يوم فنصحتني بأن أطوي هذه الصفحة الحزينة من حياتي وأن أستعين بالزواج من جديد والإنجاب على نسيانها مؤكدة لي أني سأتزوج إن آجلاً أو عاجلاً ، وما دام الأمر كذلك فليكن ذلك عاجلاً لأخرج سريعًا من دائرة الأحزان قبل أن تورثني اكتئابًا مستديمًا .

 

وتقدم لي كثيرون لم أجد فيهم ما أريده من سلوى ، ثم تقدم لي إنسان أحسست أنه يستطيع أن يعوضني عن سوء حظي في الحياة بالرغم من أنه أرمل يكبرني في السن وله ثلاثة أبناء بلغ اثنان منهما المرحلة الثانوية .

 ومرة أخرى عارضني أهلي في زواجي منه بسبب فارق السن والأبناء الثلاثة بل واتهمني البعض بأني وافقت عليه لأنه ميسور الحال ، مع أن ظروفي المادية مقبولة كما أني ورثت من زوجي الأول ، لكني قبلت به لأنه صنع الكثير ليقنعني بالزواج منه ورسم لي أحلامًا جميلة عن المستقبل وأكد لي أن أبناءه يحتاجون إليَّ .. وبكى أمامي وهو يؤكد لي أنه حتى لو قُضي أجله فإنه يريدني من بعده إلى جانب أبنائه ، فسألت نفسي وماذا يساوي فارق السن وقد تزوجت الصغير المعافى من كل مرض فإذا به يموت فجأة ويتركني ، وانتهيت إلى القرار بالزواج منه .. وأكدت لنفسي ولغيري أني سأحب أبناءه وسوف يحبونني لأني لا أحمل للناس إلا الحب ، وتزوجنا سريعًا وبدأت حياتي الجديدة معه بحنين جارف إلى السعادة وإلى تعويض ما فاتني منها وأحببت أبناءه الثلاثة وأحبوني بالفعل .. ثم بدأ زوجي بعد شهرين فقط من الزواج يتغيَّب كثيرًا عن البيت ولا يعود إليه إلا في موعد النوم .. وكلما سألته عن سر غيابه الدائم تعلل بالعمل ، فوجدت نفسي مرة أخرى لا عمل لي إلا رعاية أبنائه الثلاثة في غياب زوجي وحاولت أن أشغل وحدتي بإشباع عاطفة الأمومة فرغبت إليه في أن أنجب طفلاً وصُدمت برفضه الإنجاب وطلبه مني أن أكتفي باعتبار أبنائه أبنائي ، ثم بدأت الإشاعات تترامى إليَّ أنه على علاقة بسيدة موظفة وبدأت أتتبع هذه الأخبار فعرفت أنه على علاقة بها منذ 10 سنوات ومن قبل أن ترحل زوجته الأولى وأنها رحمها الله كانت تعرف ذلك ولا تملك له شيئًا لمرضها الدائم وخوفها من أبنائها.

 

 وتعجبت من نفسي كيف خُدعت فيه وفي الآخرين الذين شهدوا له بالاستقامة عندما تقدم لي وعندما واجهتهم بما عرفت قالوا لي أنهم كانوا يعرفون بالأمر لكنهم أملوا أن ينصلح حاله بزواجه مني ! ولم أطق صبرًا على ما عرفت وواجهته بعنف فأنكر وصمم على أنه برئ وأقسم على ذلك فصدقته وحاولت أن أطرد الوساوس من صدري لكن الحال لم يتغير كثيرًا فبعد أيام قليلة عاد إلى الانصراف عني نهائيًا والتغيب طوال اليوم عن البيت .. واشتعلت النيران في قلبي فتقصيت أخباره وعرفت أنه عاد للالتقاء بها من جديد وتتبعته ذات يوم ورأيته بعيني في بيتها .. وواجهته مواجهة صاخبة وفجرت الموقف معه .. فهل تعرف ماذا كان جوابه ؟

 

لقد صمم على طلاقي أنا الزوجة الشابة الجميلة ابنة الأسرة الكريمة التي صنع الكثير ليقنعها بزواجه وطلقني بالفعل ثم تزوج من الأخرى التي لا أريد أن أقول كلمة سوء عنها حتى لا يحاسبني الله بها رغم أنها تكبرني بـ 15 سنة ولم يأبه لاستنكار كل أفراد أسرته لهذا الزواج ومقاطعتهم له وعدت إلى بيت أسرتي مرة ثانية مهزومة وحزينة .. مطلقة في الرابعة والعشرين . وذات تجربة حافلة مع الحياة ومع البشر .. تزوجت الصغير فغدر به الزمان .. وتزوجت الناضج الكبير فعصف بسعادتي ضعف البشر .. وأريد أن أسألك لماذا تزوجني وهو يحب الأخرى ولماذا لم يتزوجها قبلي ويعفيني من هذه التجربة المريرة . ولماذا يقبل البعض ومنهم كاتبة رسالة الجنيه الذهبي أن يقيموا سعادتهم على أنقاض سعادة الآخرين بغير اعتبار لما يفعلونه بهم وبلا أي ذنب لهم ؟

 

·       ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

تعامل الزوجة مع ضعف زوجها البشري يتطلب يا سيدتي قدرًا كبيرًا من الحكمة والحذر .. ويبدو بكل أسف أن صغر سنك وبراءة مشاعرك لم يتيحا لك التعامل بهما مع قصة زوجك المخجلة . فبعض الأزواج المتورطين في علاقات مشينة حين تنفجر العاصفة وتقع المواجهات الصاخبة فتهتك الأسرار وتجعل منها مادة علنية للحديث والمناقشة ، لا يجدون سبيلاً أمامهم إلى إصلاح الأخطاء إلا بإضفاء المشروعية على العلاقة المشينة وتحويلها إلى زواج بدلاً من الرجوع عنها وقطعها .. ومنطقهم في ذلك أنه مادام كل شيء قد عُرف وأصبح أمرًا ذائعًا فلقد وقع ما كانوا يخشون منه ويتجنبونه بكل الطرق ولا مفر إذًا من علاج الخطأ بالزواج إما تورطًا وإضفاءً لطابع الاحترام على العلاقة السابقة ، وإما ميلاً مع الهوى القديم الذي أزاحت عنه المواجهة الصاخبة عبء التكتم والتستر وأعانته على التعبير عن نفسه ، فضلاً عما يلقيه فضح الأسرار من مسئولية أدبية جديدة على الرجل تطالبه بحفظ كرامة الأخرى في مجتمعها والتكفير عما عرّضها له بالزواج ، لهذا فإننا نطالب دائمًا الزوجات بأن يحافظن على شعرة معاوية بينهن وبين الأزواج المستهترين وأن يلتزمن بقدر الإمكان بتجنب إثارة الفضائح حولهم لكيلا يدفعهم ذلك إلى تحدي الجميع والمضي في طريقهم إلى النهاية مع تمسكهن بالرفض النفسي الدائم لسلوكهم ، والالتزام بسياسة النفس الطويل معهم لاستعادتهم وإعانتهم على الرجوع عن الخطأ ولو بالتظاهر بتصديقهم أحيانًا إلى أن يعودوا لرشدهم وللطريق القويم .

 

ويبدو أن كل ذلك لم يتحقق في قصتك يا سيدتي لهذا فلقد جاء الانفجار السريع وجاء التحدي الصارخ من جانبه بتحويل القصة السرية إلى زواج علني يرفضه الأهل والأصدقاء لكنك على أية حال ضحية جديدة لسوء الحظ الذي عرضك لهاتين التجربتين الأليمتين ولم يتعد عمرك بعد الرابعة والعشرين ، كما أنك بكل تأكيد ضحية أخرى تضاف إلى قائمة ضحايا المأزق الإنساني الذي ينتج عنه كثير من المآسي الشخصية وهو مأزق تعارض وسائل سعادة البشر حين يرتضي البعض لنفسه أن يختار سعادته بغير اعتبار لما يترتب على اختياره ذاك من شقاء الآخرين ، وإن كان كثيرون يرفضون هذا السبيل ويترددون كثيرًا في اختيار سعادتهم الشخصية على حساب سعادة الآخرين ولو شقوا بذلك ولا يؤمنون بمنطق صديقة الكاتب الفرنسي العظيم فيكتور هوجو التي لامها البعض على علاقتها به على حساب تعاسة زوجها فقالت : "لو كان للإنسان أن يشتري سعادته لأنفقت حياتي منذ زمن طويل .. ولما توقفت عند أي اعتبار آخر" ويرون دائمًا أن السعادة المثلى هي التي يخلو الإنسان معها دائمًا من وخز الضمير ويتحصن فيها بعدم إيلام الآخرين ، ويحاول دائمًا ألا تتعارض وسائل سعادته الخاصة مع وسائل الآخرين المشروعة .

 

أما لماذا لم يتزوجها زوجك قبلك ويعفيك من هذا الإيلام بعدما تعرضت له من محنة سابقة ؟ فلأنه يا سيدتي رغم ارتباطه العاطفي القديم بها لم يكن مقتنعًا بها ولا قادرًا على مواجهة أبنائه ومجتمعه بالزواج منها .. لكن هتك الأسرار والمواجهة الصاخبة قد ورطاه في الزواج منها أو سهَّلا له على الأقل إعلان ما كان يتهيَّب أن يعرفه الآخرين .

 

والله عليم بما في الصدور .. أما أنتِ يا سيدتي فليس أمامكِ إلا أن تطوي أيضًا هذه الصفحة المحزنة من حياتك .. وتستعيني بالأيام والصبر والصلاة على مداواة هذا الجرح الجديد .. ولسوف يعينك شبابك على سرعة شفائه لأن جراح الشباب سريعة الالتئام ولأن الحياة رغم آلامها السابقة مازالت عريضة وممتدة أمامك ولابد أن تعوضك الحياة ذات يوم عما لقيتِ من تصاريف القدر .. وغدر الإنسان .

 رابط رسالة الجنيه الذهبي

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" يناير عام 1991

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات