
الاختيار السهل .. رسالة من بريد الجمعة عام 2002
يرضى الإنسان عن اختياراته في الحياة حين يتخذها بملء إرادته الحرة, وبعد أن يتفكر طويلا فيها ويتبصر كل تبعاتها ويقبل بها راضيا ومقتنعا بسلامة اختياراته وأفضليتها بالنسبة إليه.
عبد الوهاب مطاوع
قرأت
رسالة الاختيار الصعب للفتاة التي أحبت شابا امتحنته أقداره بالمرض اللعين ووقفت
إلى جواره في محنته, وارتبطت به وبدآ يستعدان للزواج فعلمت أن العلاج قد أثر على
قدرته على الإنجاب, واهتزت لذلك, لكنها واصلت المشوار معه إلى أن اقترب موعد
الزفاف.. فتملكتها الحيرة وتساءلت هل سيأتي يوم تندم فيه على اختيارها
والاستمرار معه والارتباط به.. أم لا.. وبداية فإني أقول إنه لم يكن اختيارا
صعبا, وإنما اختيار سهل لمن يقبل عن رضا بما تجريه عليه المقادير.
فأنا فتاة في الرابعة والعشرين من العمر, تخرجت في كلية
التجارة, وقد ارتبطت بإنسان على خلق ومتدين ابتلاه ربه هو أيضا بالمرض الذي يخاف
الناس من مجرد ذكر اسمه, وكان وقتها في سن صغيرة, وتلقى العلاج الرهيب لهذا
المرض, واعتقد الأطباء أنه قد شفي منه, فارتد إليه للأسف مرة أخرى بعد عشر
سنوات وهو يؤدي امتحانات البكالوريوس, فتحمل المرض القاسي وصبر على ألم لا يطيقه
البشر وراح يستعين عليه بالمسكنات إلى أن انتهى من امتحاناته, وبعد ذلك بدأ رحلة
العلاج من جديد وهي ليست رحلة علاج بالمعنى الصحيح وإنما رحلة عذاب مرير قد تجعل
الإنسان يفضل الموت على الحياة من شدة معاناته وألمه, وكنت أنا خلال هذه الفترة
زميلته في الجامعة وخير عون له على الصبر والاحتمال, ولن أطيل في الحديث عما
عانيته خلال هذه الفترة من خوف ولهفة وألم إذ ما أصعب أن يرى المرء إنسانا يتعذب
ولا يملك له شيئا, وما بالك إذا كان هذا الإنسان هو الحبيب الذي اختاره العقل
والقلب معا!
ولقد
علمت منه خلال مرحلة العلاج أن جلسات الإشعاع التي سيحصل عليها قد تؤدي إلى العقم
بنسبة 90%, ومع ذلك فلم يصبني الخبر بالصدمة, لأنني قد أردت حبيبي قبل كل شئ
آخر, وأرى فيه أنه أصمد وأطيب إنسان في الوجود, كما أنني قد أخفيت, هذا
الخبر عن كل من حولي في حين تألم هو كثيرا له من أجلي وصمم على أن أفكر طويلا في
الأمر قبل اتخاذ القرار بالاستمرار وهيهات أن أفعل, فلقد رضيت بما أرادته لي
الأقدار, وقبلته, كما أنني قد امتحنت نفسي بالنسبة لهذه النقطة عندما علمت أن
زوجة أخيه قد حملت بعد أسبوع واحد من الزواج, إذ وجدتني قد تلقيت الخبر بصدر رحب
ودعوت الله أن يعطينا مثل ما أعطاها.. أو يهبني الصبر على ما جرت به إرادته ويشد
من أزري, في حين تلقى حبيبي نفس الخبر بالبكاء تألما لحالي ولأنه ذكره بما يراه
حرمانا لي, وكنت أنا التي خففت عنه.. وأكدت له أنه أغلى شيء في الوجود بالنسبة
لي.
أقول
لك هذا يا سيدي.. وأرجو أن تعلم أنني الابنة الوحيدة لأبي وأمي وإنهما يتوقان
لأن يكون لهما أحفاد مني, لكنه ليس كل ما يتمنى المرء يدركه, والحق أنني أعتزم
أن أقول لهما: إن سبب عدم الإنجاب ــ إذا لم أنجب ــ إنما يرجعه إلي أنا,
لكيلا يقف حبيبي موقف الانكسار والحرج أمامهما, ولسوف أعيش معه بإذن الله على
المودة والرحمة وأستعين بالصلاة والإيمان بالله على تقبل كل شيء.
ولقد كتبت لك هذه الرسالة لأنني قد حزنت كثيرا لما وصلت إليه
الفتاة كاتبة رسالة الاختيار الصعب من تردد وحيرة يشيران إلى أن إصرارها على
استكمال المشوار مع فتاها المبتلى بأقداره لم يعد كما كان, وإنما قد اهتز كثيرا
بسبب الخوف من عدم الإنجاب.
وأريد أن أسأل هذه الفتاة: أليس من المحتمل أن ترزقي بأطفال
ولكن مصابين بالمرض فتقاسين الأمرين في علاجهم؟
وأليس من المحتمل على الناحية الأخرى أن يجيء الأبناء أصحاء
معافين لكنك قد لا تحسنين تربيتهم فيكونوا بالنسبة لك نقمة وليسوا نعمة؟ إلخ
إن الله سبحانه وتعالى لا يصيب مؤمنا في جانب إلا وعوضه من جانب
آخر وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.
فأكملي مشوارك معه لأنك لن تجدي زوجا يمتلئ قلبه بالحنان والعطف
ويحتاج إليك بسبب ظروفه مثله.
فإذا كنت ستشتكين من الفراغ بعد الزواج بسبب عدم وجود أبناء
فإنك تستطيعين شغل أوقات فراغك بكل ما هو مفيد, اخرجي إلى العمل.. التقي بزوجك
بعد انتهاء عمله ضميه إلى صدرك.. اذهبي إلى الأقارب, اذهبي إلى دار للأيتام..
إلى مستشفي خاص بعلاج الأطفال واستمعي إلى عذاب الأمهات, ولا تنظري فقط إلى
الجانب البهيج من الأطفال وإنما انظري أيضا إلى من يتعذبون بأبنائهم, واشكري ربك
علي أن وجدت الإنسان الذي يحبك بإخلاص في زمن عز فيه الحب الحقيقي.. واستغفري
الله واحمديه ألف مرة على نعمه الكثيرة وانظري إلى ما وهبه لك بسخاء ولا تنظري فقط
إلى ما منعه عنك وله في ذلك حكمة, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
يرضى الإنسان عن اختياراته في الحياة حين يتخذها بملء إرادته
الحرة, وبعد أن يتفكر طويلا فيها ويتبصر كل تبعاتها ويقبل بها راضيا ومقتنعا
بسلامة اختياراته وأفضليتها بالنسبة إليه, وأنت يا آنستي قد اخترت بلا
تردد
رفقة الحياة المعطرة بعبق الحب والرفق والعطف والحنان المتبادل.. ورأيت فيها
عوضا كافيا لك عما ينغص حياتك في المستقبل.. واستمسكت بهذا الاختيار عن اقتناع
مكين وإيمان عميق بضرورته لك.. وهتفت مع القطب الصوفي ابن عطاء الله السكندري:
اللهم أدخلنا رياض التفويض وجنات التسليم, واجعلنا من المفوضين لك لا من
المعترضين عليك .. وأشهدنا حسن اختيارك لنا حتى يكون ما تقتضيه فينا وتختاره لنا
أحب إلينا من ما اختارنا لأنفسنا ودخلت رياض التفويض وجنات التسليم حين فوضت أمرك
إلى ربك يقضي فيه كيف يشاء.. وسلمت بإرادته ومشيئته وتقبلت ما جرت به المقادير
بلا اعتراض, وتعاملت مع الموقف كله منذ البداية بروح الرضا وصدق الوفاء وعطاء
الأحباء وإخلاص الشركاء الذين يؤمنون بوحدة مصيرهم مع من اختاروهم لرفقة الحياة..
وهو اختيار لا يملك الإنسان إلا أن يحترمه لأنه اختيار نبيل يعلي قيم الوفاء
والإخلاص والرضا عما تحمله إلينا أمواج الحياة ويعكس أعماقا إيمانية جليلة في
شخصية من اختارته.. فعسى أن تحقق لك الأيام كل ما ترجينه لنفسك ولشريكك من سعادة
وأمان.. وعسى الله سبحانه وتعالى أن يفاجئك من حيث لا تدرين ولا تحتسبين بعطاء
إلهي غامر يكافئ عطاءك لمن تحبين وإخلاصك له.. والتزامك بالمثل العليا في هذا
الزمن الصعب.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد
الجمعة" عام 2002
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر