الاختيار الصعب .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2002

  الاختيار الصعب .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2002

الاختيار الصعب .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2002


إن السعادة هبة غالية من الله لا تتاح للإنسان في كل وقت‏ ..‏ والإنسان الذي يتخذ قراراته بملء إرادته وبعد أن يتبصر جيدا قراره ويدرس كل جوانبه ويقبل بتبعاته، هو فقط الإنسان الذي لا يحرقه الندم على اختياراته حتى ولو بدا في عيون الآخرين غير مصيب‏!‏

عبد الوهاب مطاوع


أنا شابة أبلغ من العمر 26 عاما ‏,‏ نشأت في أسرة متوسطة لأب موظف‏,‏ شعرت منذ طفولتي بعدم تفاهمه مع أمي وبالخلافات الكثيرة التي تقع بينهما‏,‏ وكانت أمي تحاول دائما ألا تظهر هذه الخلافات أمام أحد وأن تظهر أمام الناس دائما كأسرة سعيدة‏,‏ في حين أن أبي طيب القلب لكنه لا يظهر مشاعره لأحد‏,‏ وقليل الكلام ولا يحاول أن يقترب منا أو أن يعرف مشاكلنا‏,‏ وكنت أنا أكثر إخوتي تأثرا بهذا الوضع‏..‏ فكانت كل مشاكلي داخل نفسي لا أفصح بها لأبي ولا لأمي‏,‏ ولهذا السبب لم أحاول أن أستعين برأيهما فيما أستشيرك فيه الآن‏,‏ فلقد تخرجت في كليتي وعملت سريعا في أحد شركات القطاع الخاص,‏ وكان معي في نفس المكان أحد زملائي بالكلية‏..‏ وبدأت أشعر بالإعجاب تجاهه‏,‏ كما كان معنا أيضا بعض الزميلات من نفس الدفعة‏,‏ ولم يتقدم هو أية خطوة ناحيتي‏,‏ فقررت احتواء هذا الإعجاب والاكتفاء بالزمالة والصداقة‏,‏ إلى أن جاء يوم وشعر فيه هذا الزميل ببعض الآلام‏,‏ فقام بإجراء الفحوص اللازمة ثم أجرى بعض الأشعات‏..‏ فإذا بها تكشف عن إصابته بمرض خطير في الأمعاء‏ ..‏ وأصابنا الذهول جميعا‏..‏ فالإنسان يظن نفسه بعيدا عن المرض إلى أن يصيبه أو يصيب شخصا قريبا منه فيعرف أنه قريب منا جميعا‏..‏ وحين عرفنا ذلك قضينا يوما حزينا وبكينا كلنا إشفاقا على هذا الزميل‏,‏ وتوالت الأحداث بعد ذلك سريعا وأجريت له عملية جراحية ووقفنا جميعا إلي جانبه‏,‏ واعترفت لنفسي بأنني أحبه وكنت دائمة السؤال عنه وهو يقضي فترة النقاهة في بيته,‏ وبدأت أشعر كذلك باهتمامه بي بغير أن يصرح لي بشئ ربما لظروفه الصحية‏,‏ ثم بدأ مرحلة العلاج التالية للجراحة وساءت حالته النفسية بعض الشئ‏..‏ وبدأ يحصل على أجازات قصيرة خلال العلاج ثم يرجع للعمل إلى أن جاء يوم وصرح لي فيه بحبه وكنت سعيدة بذلك بالرغم من الظروف الصعبة المحيطة به‏,‏ واتفقنا على أنه بعد انتهاء مرحلة العلاج سيبحث عن عمل أفضل لكي نستطيع أن نرتبط رسميا‏..‏ وكنت أعرف أن الأمل ضعيف في هذا الارتباط نظرا لظروفه الصحية‏,‏ لكني استمسكت بهذا الأمل وبإيماني بأن المرض لا يختار أحدا بذاته وإنما يمكن أن يحل بأي إنسان‏,‏ ومضت فترة العلاج القاسية ‏..‏ وكان يضعف في بعض الأحيان وتسوء حالته النفسية لكنه كان يستعين بإيمانه بربه وبوجودي في حياته على الاحتمال‏,‏ وكانت هذه الفترة شديدة الصعوبة أيضا بالنسبة لي إذ كنت كلما سمعت عن إنسان هزمه نفس هذا المرض تنتابني حالات من البكاء الشديد والحزن‏,‏ ولم أكن أعرف ماذا أفعل‏,‏ هل أبتعد عنه وأتخلص من هذه الضغوط‏.‏ لكن كيف أقدر على ذلك وأنا أحبه‏..‏ وماذا سيحدث له إن تخليت عنه في هذه الظروف القاسية؟‏!..‏ لقد حسمت أمري وقررت ألا أتخلى عنه‏,‏ وفي هذه الفترة علمت أمي بطريق المصادفة بقصة ارتباطي به ورفضته‏..‏ وكذلك رفضه أبي بسبب ظروفه الصحية وكدت أكتب لك في هذه الفترة من حياتي لأناشدك أن تكتب كلمة تقول لهما فيها إنني من الممكن أن ارتبط بإنسان سليم ثم يمرض بعد الزواج‏..‏ ومن الممكن أيضا أن أرتبط بإنسان وأنا في كامل صحتي‏..‏ ثم يصيبني المرض فهل سأسعد إذا تخلي عني‏..‏؟‏!‏

إن الصحة والمرض بيد الله سبحانه وتعالي‏,‏ وقد ينتقم الله سبحانه وتعالي مني ويصيبني بنفس المرض إذا أنا تخليت عنه لهذا السبب‏,‏ ولقد اقتنع أهلي في النهاية وتمت قراءة الفاتحة‏..‏ وتحسنت ظروف خطيبي الصحية والعملية‏,‏ فانتقل للعمل في شركة كبري بالرغم من صعوبة الكشف الطبي اللازم للتعيين فيها‏,‏ واستمرت الخطبة عامين ولم تعد حالته الصحية تثير قلقي وهواجسي‏,‏ وكان يجري فحوصه الدورية بانتظام وتجئ النتائج جيدة‏,‏ كما كان حنونا معي وعوضني عن الكثير من الحنان الذي كنت أفتقده لدي أبي‏..‏ ثم أراد خطيبي أن يجري لنفسه تحليلا للتأكد من قدرته علي الإنجاب لأن العلاج الذي تلقاه قد يؤثر عليه‏,‏ وكنت أشك في ذلك أنا أيضا‏,‏ لكني طلبت منه أن يؤجل هذا التحليل لما بعد الزواج لكي لانفتح علي أنفسنا أبوابا جديدة للحيرة والقلق بعد أن دام ارتباطنا عامين‏,‏ فلم يقتنع خطيبي بذلك وأجري التحليل فإذا به يؤكد عدم قدرته علي الإنجاب‏,‏ ومع انه كان يتوقع ذلك وكنت 

أتوقعه أيضا إلا أن التوقع شئ وحدوثه بالفعل شئ آخر‏..‏ واتصل بي خطيبي وقال لي إنني الآن في موقف القوة ويجب أن أقرر إذا كنت سأستمر معه أم لا؟‏!.‏

واعترف لك أنني كنت أتوقع منه أن يبادرني هو بقرار الافتراق ويصر عليه فأكون أنا من ترفضه وتستمسك به للنهاية‏.‏
لهذا فلقد تضايقت قليلا ووقعت في حيرة ..‏ وترددت هل استمر معه وألا يحتمل أن أندم بعد عدة أعوام على استمراري معه‏.‏

غير أنني كتمت كل هذا الحوار داخلي كما كتمت هذه المشكلة عن أبي وأمي‏,‏ وانتهيت إلى اتخاذ قراري بالاستمرار معه لأنني لو كنت مكانه وتخلى هو عني كنت سأصدم صدمة قاسية‏,‏ ولأنني أعرف أيضا أن هذا شئ ليس بيد أحد‏,‏ كما أنني أيضا أثق في قدرة الله التي تعلو على كلام الأطباء وعلى كل شئ‏,‏ وبدأ خطيبي محاولة العلاج‏..‏ وهو يتطلب وقتا طويلا وصبرا‏,‏ وتم تحديد موعد الزفاف القريب‏,‏ وبالرغم من أنني قد اتخذت قراري إلا أنه تنتابني أحيانا حالات من القلق والحيرة وأسأل نفسي هل أنا على صواب فيما فعلت‏..‏ أم ترى أنني إنسانة حالمة وخيالية في عالم شديد الواقعية‏..‏ وماذا لو لم يأت العلاج بنتائجه المأمولة؟ هل سأستطيع مواصلة المشوار معه بدون أطفال؟
إن بعض الناس لم يرزقهم الله أطفالا وعاشوا في منتهى السعادة‏,‏ فهل سأكون مثلهم؟

إنني أحيانا أشعر بالسعادة لاقتراب الزفاف‏..‏ وأحيانا أقع فريسة للحيرة ولا أعرف ماذا أفعل ولهذا قررت أن أكتب إليك وأن أستشيرك‏:‏ هل أنا على الصواب فيما فعلت؟‏..‏
إنني بحاجة لمن يقول لي إنني على صواب لأعرف أن هذا ليس رأيي وحدي وإن كنت على خطأ وظلمت نفسي فسأحاول أن أؤجل الزفاف إلى أن يقضي الله أمرا‏..‏ وشكرا لك‏..‏

و لكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏

الإنسان يحتاج دائما إلي ما يؤكد له صحة اختياراته خاصة حين تكون مصيرية أو مثيرة للجدل والحيرة‏,‏ غير أنني قد لاحظت شيئا غريبا في قصتك يستحق التوقف أمامه والتفكر فيه طويلا‏.‏ فأنت لم تستسلمي للتردد كثيرا حين علمت بمرض فتاك الخطير‏..‏ ولم تنكصي عن الاستمساك به والوقوف إلى جانبه وهو يواجه محنته الصحية‏,‏ وإنما حسمت التردد الوقتي داخلك بالتسليم بأن الصحة والمرض بيد الله سبحانه وتعالى وحده‏,‏ وبأن المرض قد يصيب إنسانا في أي مرحلة من العمر‏..‏ ولهذا فلا مجال للتردد أمام الارتباط بشاب امتحنته أقداره بمحنة المرض‏.‏ لكنك على الجانب الآخر قد غلبتك الحيرة حتى بالرغم من قرارك بالاستمرار في ارتباطك بفتاك حين علمت بأن العلاج قد أثر على قدرته على الإنجاب‏,‏ وإنك قد لا تستطيعين الإنجاب منه بعد الزواج‏..‏ فهل يعني ذلك أن غريزة الأمومة أقوى لديك من كل الاحتياجات الإنسانية الأخرى؟
لقد اخترت ألا تتخلي عن فتاك بالرغم من حرج حالته الصحية وخطورة مرضه ولم تتوقفي لتتساءلي هل أنت على خطأ أم علي صواب في هذا القرار وأقنعت والديك بفتاك حتى قبلاه‏..‏ لكنك احتجت لمن يدعم لديك اختيارك للاستمرار في الارتباط به حين علمت باحتمال ألا تنجبي منه أطفالا بعد الزواج؟ وتساءلت هل ستندمين على هذا الاختيار أم سيعوضك الحب والسعادة والتفاهم عما تفتقدين في حياتك المستقبلية‏,‏ ولا معنى لذلك سوى أن اقتناعك بهذا الاختيار قد اهتز بعنف أمام احتمال الحرمان من الأمومة والإنجاب‏,‏ بأكثر مما تأثرت بحرج الحالة الصحية لمن اخترت الارتباط به‏.‏
ولا معني له أيضا سوى أن تصميمك على الارتباط بمن أحببت ووقفت إلى جانبه في أصعب الظروف التي واجهته لم يعد بنفس القوة التي كان عليها من قبل‏.‏

ويتطلب ذلك منك أن تكوني صادقة مع نفسك قبل أي إنسان آخر وأن تتخذي قرارك وفقا لاقتناعك أنت وإيمانك بما تفعلين بحياتك‏,‏ وليس تحرجا من أحد ولا كراهة للظهور بمظهر من تتخلى عن شريكها في شدته‏.‏
فأنت تواجهين اختيارا صعبا ومصيريا في حياتك‏..‏ ولابد من أن يكون إيمانك بهذا الاختيار طاغيا وغير قابل للتردد أمامه أو المراجعة‏..‏

ذلك أن قوة الإيمان بصواب هذا الاختيار هي التي ستحميه من آثار التردد والحيرة والندم‏.‏
وعلماء النفس يقولون لنا إن الحياة مزيج من مجالات واحتياجات إنسانية متعددة منها العاطفة والعقل والعلاقات الأسرية وبيئة العمل والعلاقات الاجتماعية‏.‏ إلخ‏.‏

‏..‏ وأن الإنسان قد يطغى عليه في بعض فترات حياته احتياج أو مجال من هذه المجالات فيستغرق فيه على حساب تجاهل المجالات الأخرى‏,‏ لكن ذلك لا يدوم إلى الأبد وإنما كثيرا ما تهدأ فورة الشعور بهذا الاحتياج‏,‏ وتبرز الاحتياجات الأخرى إلى السطح وتفرض نفسها عليه بعد أن يكون قد أشبع احتياجا إنسانيا واحدا لديه لفترة مؤقتة على حساب احتياجات قد تكون أكثر أهمية منه على المدى البعيد‏,‏ فاحسمي أمرك وقلبي الأمر على كل وجوهه‏..‏ وادرسي كل الاحتمالات‏,‏ وتذكري كذلك أن السعادة هبة غالية من الله لا تتاح للإنسان في كل وقت‏..‏ وأن الإنسان الذي يتخذ قراراته بملء إرادته وبعد أن يتبصر جيدا قراره ويدرس كل جوانبه ويقبل بتبعاته‏,‏ هو فقط الإنسان الذي لا يحرقه الندم على اختياراته حتى ولو بدا في عيون الآخرين غير مصيب‏!‏

 رابط رسالة الاختيار السهل تعقيبا على هذه الرسالة


رابط رسالة القرار الصائب تعقيبا على هذه الرسالة

 نشرت في جريدة الأهرام باب بريد الجمعة سنة 2002

راجعها واعدها للنشر / نيفين علي
Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات