الفوز الحقيقي .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999

 

الفوز الحقيقي .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999

الفوز الحقيقي .. رسالة من بريد الجمعة عام 1999

الحق أنه ليست هناك امرأة أو رجل لا يرغب في إسعاد نفسه وشريكه في الحياة وأبنائه اللهم إلا إذا كان شخصا غير سوي لكننا قد نضل الطريق إلى هذه السعادة ، وقد نتبع من الأساليب والأفكار والأعمال ما يبعدنا عنها بدلا من أن يقربنا منها .وهناك حكمة عربية قديمة تقول "لا يأبى الكرامة إلا لئيم" .. بمعنى أنه يندر ألا يستجيب إنسان كريم لحسن معاملة آخر له وحرصه عليه ورعايته لحقوقه إلا بمثل ذلك كله من جانبه اللهم إلا إذا كان "لئيما" ، أي غير سوي !

عبد الوهاب مطاوع


أنا سيدة في الثامنة والعشرين من عمري .. أبكتني رسالة نداء البراءة ، للصبي الصغير الذي يبلغ من العمر 15 عاما، وكتب رسالته إليك يناشدك التدخل لدى أمه وأبيه لإعادة جمع شملهما تحت سقف واحد من جديد بعد أن انفصلا بالطلاق ويعدك ويعد والديه إذا رجعا لسابق عهدهما بأن "يذاكر" هو وشقيقه الأصغر دروسهما جيدا ويحصلا على درجات أكبر ، ولقد دفعتني هذه الرسالة المؤلمة التي أرجو أن تنجح في تحريك مشاعر أم الصبي وتدفعها للعودة إلى زوجها السابق وولديها ، لأن أكتب لك عن تجربتي الشخصية في الزواج والتي كادت أن تصل بي وبأطفالي الثلاثة إلى مثل هذا المصير، لولا أن هداني الله إلى الخير والحق.

 

فلقد تزوجت منذ تسع سنوات ، وكان عمري حين تزوجت ۱۹ عاما وكان زوجي من سكان المنطقة التي نقيم بها وله مكانته العلمية المرموقة ، ويكبرني بعشر سنوات ، وقد اختارته أمي من بين كثيرين كانوا يتوددون إليها بهدف الفوز بی ، فبدأت أمي تحدثني ليل نهار عن مميزاته من دین وأخلاق وأدب ووسامة ومرکز علمی الخ ، وشاركتها صديقاتي الإعجاب به ، فقبلت الارتباط به وأنا في الثامنة عشرة من عمري لكي تعلم صديقاتي أنني "الفائزة" دائما بسبب جمالي الظاهر وخفة ظلي .. ولقد كان هذا الغرور يملؤني بغير أن يشعر به سواي ، وبعد عام من الخطبة تزوجنا ، ولم يكن الزواج بالنسبة لي في وقتها سوى ملابس جديدة وحرية في الخروج والنزهات إلخ ، وبعد رحلة شهر العسل رجعنا إلى بيتنا ففوجی، بي زوجي أحضر حقيبتي استعدادا للذهاب إلى بيت أمي لقضاء فترة لديها ، فطلب زوجي مني بهدوء أن أؤجل ذلك إلى وقت آخر ، فإذا بي انفجر صياحا وهياجا وأقيم الدنيا ولا أقعدها ، لمجرد عدم امتثاله لرغبتي في أن أرجع إلى بيت أمي بعد شهر العسل.

 

 ومن ذلك اليوم مضت حياتي معه في الطريق الخاطيء .. إذ كان يغار علي بطريقة جنونية . وأنا أحاربه في كل شيء بشراسة شديدة .

ومضت سبع سنوات على زواجي أكملت خلالها دراستي الجامعية وأنجبت ثلاثة أطفال ، وأنا في صراع شبه متصل مع زوجي، وأنكر على أمي ضغطها علي للزواج منه وأتحدث بذلك أمامه مما ولد لديه انطباعا راسخا بكراهيتي له ، وهو يحاول من ناحيته إلزامي بأشياء كثيرة .. وأنا أعارض في البداية بشدة تم استسلم مضطربة وكارهة في النهاية فالزمني ارتداء الملابس المحتشمة ، ولم يكن ذلك سهلا علي ، وأنا البنت الشقية المتبرجة التي كانت تسعد بتذلل الأولاد من أجل مجرد الحديث إليها ، ومضت سنوات وأنا في هذه الحرب المتصلة مع زوجي ومن حين لآخر أغضب وأهجر بيت الزوجية إلى بيت أبي ، ثم أرجع بلا شروط ، وأشكو دائما مما يفعله معي زوجي من تدقيق في كل شيء ، ومنعي من فتح الأبواب والنوافذ ونشر الغسيل بسبب غيرته الجنونية ،ومن ملاحظته لنظراتی ونحن نسير في الطريق ومحاولته أن يعرف لمن تتجه هذه النظرات ، حتى لأرفع صوتي عليه ونحن في الطريق وإلى جانب اعتمادي سياسة الرد عليه في كل شيء على أساس المساواة بيننا ! حتى صار جميع أفراد عائلتي أعداء له مما سمعوه مني عنه ، وحتى بدأت أشعر بأنه لم يبق إلا أن يلجمني زوجی بلجام لأكون كالسائمة التي يسحبها وراءه بلا اعتراض.

 

 وفي غمار ذلك نسيت له كل شيء من حب وإخلاص وعطاء ولم أعد أذكر شيئا إلا معاناتي معه وصدامي المستمر به .. إلى أن كان يوم منذ عامين اشتد بي فيه الضيق والاكتئاب ووجدت في المسجد الذي أتردد عليه سيدة متدينة تتحدث بحرارة عن حق الرجل على زوجته ، وواجب الزوجة في طاعته فيما لا معصية فيه للخالق فوجدت نفسي أشكو لها من زوجي وحياتي معه ، ورغبتي في الانفصال عنه والتفرغ لتربية أطفالي الثلاثة وحدي ، ونيتي في إلا أتزوج بعد ذلك ابدا ، فابتسمت السيدة المتدينة في عطف ثم راحت تحدثني حديثا طويلا عن أهمية الوفاق الزوجي وفهم الزوجة لشخصية زوجها ، وماذا فعلت زوجة القاضي شریح التي سالت زوجها ليلة زواجهما عن طباعه ورغباته وعاداته لكي تراعيها ، وكيف سألته عمن يريدها أن تتحدث إليه ومن لا يريدها أن تفعل ذلك معه ، ثم احترمت رغباته وطباعه فعاشت معه في وئام ، وحدثتني عن نصائح الأعرابية لابنتها ليلة زفافها ومن بينها العبارة المشهورة : كوني له أمة يكن لك عبدا .

 

وخرجت من المسجد وقد أدار حديث هذه السيدة رأسي ، ورحت أفكر فيه طويلا وبعد بضعة أيام من التفكير المستمر في ذلك قررت أن أجرب العمل به واحكم على صدقه بالتجربة ، فبدأت بعدم الرد على زوجي في كل كبيرة وصغيرة ، كما كنت أفعل معه متصورة أن هذه هي المساواة بين المرأة والرجل ، وتجنبت ملاحاته ومشاكلته في كل شیء ، فاكتشفت أن عدة أيام قد مضت بدون أن يحترق دمي وأعصابي بسبب توافه الأمور ، ثم استجبت لرغباته دون معارضة لمجرد المعارضة والجدل ، كما كنت أفعل كل مرة ثم استجيب في النهاية لما يطلبه وأنا كارهة فاكتشفت أنه لا يطلب مني ما يستحق الحرب ، لرفضه وإنكاره .. وإنما هي مجرد أمور بسيطة من طبيعة الحياة العائلية فوجدتني أتخلى بعد ذلك تدريجيا عن زینتی خارج البيت وهي التي كنت أحرص عليها بالرغم من الحجاب الذي الزمني به منذ بداية الزواج ، ووجدتني بدلا من ذلك أتفنن في زینتی داخل البيت ، حتى أصبحت ارتدي أحدث خطوط الموضة والأزياء ولكن لزوجي وحده دون غيره من البشر ، فإذا بي أجد زوجي الذي كنت أشكو لطوب الأرض من أنه جاف الطبع وقوى الشكيمة ، يتحول إلى "خطيبي" الرقيق الناعم الذي ارتبطت به قبل سبع سنوات والذي ظننت أنه قد تبدل بعد الزفاف إلى شخص أخر ، وكلما وجدت نتيجة إيجابية لكل تغير جديد في سلوكي معه ازددت عزما على المضي إلى آخر الشوط في التغيير ، والإصلاح إلى أن وجدت زوجي وقد أصبح "عبدا" لى ، ولست أجد في ذلك حرجا لأنني أنا أيضا قد أصبحت أمة له ، فتعجبت له ، وتعجبت أكثر لنفسي وأنا التي تمنيت ذات يوم الموت على الحياة معه .

 

وإني أنظر الآن إلى السنوات السبع الأول من زواجي بألم وإنكار وأتمنى لو استطعت أن أشطبها نهائيا من حياتي .. فلقد بدأت حياتي الزوجية الصحيحة منذ عامين فقط حين أخلصت النية لله سبحانه وتعالى في إصلاح بيتي وإتباع تعاليم ديني في معاملة زوجی ، والحفاظ على سعادة أطفالي ، وحين أدركت أن قوامة الرجل على المرأة ليست كما يقول العلماء قوامة تشريف وإنما قوامة تكليف ، واقتنعت بأن طاعة الزوجة ليست امتهانا لكرامة المرأة ، وإنما جزء من طاعتها لربها ، ومن حرصها على استقرار حياتها ونجاحها واستمرارها لأن السفينة التي يتنازع قيادتها اثنان يئول مصيرها إلى الغرق ، وأني لأعجب الآن أكثر كيف تطيع المرأة رئيسها في العمل وإلا نالت عقابه الإداري ، ولا تطيع زوجها مع أن عقاب ربها اشد ، ومع أن لزوجها عليها من الحقوق ما ليس لرئيس العمل بعضه أو شيء منه.

 



ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

هذا هو الفوز المبین حقا يا سيدتي لأنه فوز بالسعادة الحقيقية ، وراحة القلب والضمير واستقرار الحياة الزوجية ، ونشأة الأبناء في حياة عائلية موفقة ترفرف عليهم فيها ظلال الحب والعطف والأمان .

لقد كنت تعتبرین نفسك "الفائزة" دوما من بين صديقاتك لأنك تجمعين بين الجمال وخفة الظل ، ويتذلل إليك الشبان الصغار من أجل الفوز بالحديث إليك ، ولأنك فزت بمن نال إعجاب الصديقات والجارات دونهن وأنت في الثامنة عشرة من عمرك ، لكن كل ذلك لم يكن من الفوز الحقيقي في شيء . وإنما تحقق لك ذلك حقا حين أدركت حقائق الحياة وفهمتها على وجهها الصحيح .. وعرفت أن السعادة هي الغاية الثمينة التي تستحق أن يشقى الإنسان حقا لبلوغها ، فإن لم يبلغ شاطئها كان كل ما حققه من نجاح وفوز على الجبهات الأخرى ، لا قيمة له دونها . فنهضت بإرادة قوية ونية خالصة لله سبحانه وتعالى لإنقاذ حياتك العائلية من الانهيار والحفاظ عليها ودفع الخطر عنها حماية لأطفالك الثلاثة ولنفسك التي تتوق للسعادة وزوجك الذي اختارك دون الأخريات .

 

والإنسان يستطيع دائما إذا أراد أن يراجع حياته وأفكاره ومعتقداته الراسخة التي تنعكس على أساليب تعامله مع الحياة والآخرين ، وأن ينبذ منها ما تثبت له تجربة السنين فشلها في بلوغ الغاية التي يستهدفها وأن يعدل أفكاره بما يسمح له بإتباع أساليب مختلفة في التعامل مع الحياة عسی أن تقربه من غايته .. وتحميه من أشواك الطريق وهذا هو أهم الفروق بين الإنسان الذكي القابل للتطور وغيرهم من البشر الجامدين على أفكارهم وأساليبهم بالرغم من فشلها المروع في تحقيق أهدافهم في الحياة.

وهذا هو أيضا علم الحياة ، الذي قال عنه الأديب الفرنسي البير كامي أنه أصعب من كل العلوم والفنون .

ولقد كان قاسم أمين يقول : إن أقل مراتب العلم ما يتعلمه الإنسان من الكتب والأساتذة ، وأعظمها ما يتعلمه من تجاربه الشخصية مع الأشياء والناس .

 

فإذا كنت تبحثين عن سر السعادة الذي تكشف لك فجأة منذ عامين في لحظة تنوير كتلك التي هبطت ذات يوم سحيق على الحکیم بوذا وهو يجلس تحت شجرة المعرفة ، فلعلي أستطيع أن أوجزه لك في عبارة مختصرة هي العودة إلى إتباع تعاليم الدين وقيمه ومعانيه السامية وأوامره ونواهيه في حياتك الشخصية ، وعن اقتناع صادق نابع من النفس هذه المرة وليس مفروضا عليها من خارجها ، فلقد كنت ترتدين الحجاب لكنك كنت تضيقين به في قرارة نفسك ولولا إلزام زوجك لك به لما ارتديته ، ولهذا فإنه لم يغير الكثير من جوهرك وأفكارك وإن كان قد غير من مظهرك ، أما حين راجعت أفكارك السابقة وقررت نبذ الخاطيء منها .. واقتنعت حقا وصدقا بما أرشدتك إليه تلك السيدة المتدينة من حقوق الزوج وواجباته ، فلقد وجدت في نفسك شجاعة الاعتراف بالخطأ ونقد الذات ، ووجدت لديك النية الخالصة لنبذ الأفكار الخاطئة التي أثبتت لك تجربة الأيام فشلها في تحقيق السعادة لك ولأسرتك وإتباع أساليب مختلفة في التعامل مع حياتك الشخصية .

 

فإذا أضيف إلى ذلك فارق خبرة السنين وفارق النضج في الشخصية بعد سبع سنوات من هذا الزواج المبكر في سن التاسعة عشرة ، فلقد كان عدلا أن تزدادی فهما للحياة وقدرة على التعامل الصحيح معها .

والحق أنه ليست هناك امرأة أو رجل لا يرغب في إسعاد نفسه وشريكه في الحياة وأبنائه اللهم إلا إذا كان شخصا غير سوي لكننا قد نضل الطريق إلى هذه السعادة ، وقد نتبع من الأساليب والأفكار والأعمال ما يبعدنا عنها بدلا من أن يقربنا منها .

والنهج الذي اتبعته مع زوجك يثبت لنا من جديد صدق الحكمة العربية القديمة التي تقول "لا يأبى الكرامة إلا لئيم" .. بمعنى أنه يندر ألا يستجيب إنسان كريم لحسن معاملة آخر له وحرصه عليه ورعايته لحقوقه إلا بمثل ذلك كله من جانبه اللهم إلا إذا كان "لئيما" ، أي غير سوي !

 

ولقد ذكرني لقاؤك بتلك السيدة الفاضلة في المسجد وأثر حديثها المخلص لك في تصحيح بعض مفاهيمك السابقة بما قرأته ذات يوم للمفكر الكبير رجاء جارودی من قوله : إنني أبحث في الآخر عما ينقصني لكي أصبح أكثر إنسانية !

فلقد وجدت لدى تلك السيدة ما كان ينقصك لكي تصبحي أكثر فهما للعلاقة الزوجية وحقوق الزوجة وواجباتها ، وصادف ذلك لديك عقلا متفتحا لقبول الجديد الصالح من الأفكار ونية خالصة للعمل بهديها ، فكان لك ما حققت من سعادة ووفاق ، وكان لك ما يحق لك أن تفخري به عن جدارة هذه المرة بين الصديقات وهو الفهم الصحيح للحياة !

رابط رسالة نداء البراءة

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1999

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات