نداء الحياة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994
حسن الظن بالله من شعب الإيمان والله - سبحانه وتعالى - لم يخلق
الإنسان ليشقی، بل ليسعد بحياته، ويعمر الأرض، ويستمتع بما أحله الله، ويعبده،
ويشكره على نعمائه.
قال تعالى: "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " .
قرأت
رسالة "الصورة الجميلة"، للشاب الصغير ابن الستة عشر عاما المريض بمرض
نادر ، والذي يعاني الغربة والوحدة في غرفته بالمستشفى في لندن ، انتظارا للجراحة،
فانهمرت دموعي تأثرا بحالته وإشفاقا عليه، وظللت أدعو الله أن يمن عليه بالشفاء،
وأن يعيده لبلده وأهله وأصدقائه فيه سالما غائما، كما تمنى لنفسه في ختام رسالته،
ولقد أعجبني ردك المتفائل عليه یا سیدي، "ووعدك" له بأن تكون محنته
المرضية هذه مجرد ذکری، يتذكرها بعد عشرين عاما ويرويها لأبنائه، وهم حوله ويسترجع
ذكرياتها مستفيدا من دروسها.
والحق
أننا نحتاج إلى مثل هذا الرد المتفائل في بعض الأحيان، لكي نستمسك بالحياة ونعيش
من أجل شيء نحيا له.
فأنا
سيدة أبلغ من العمر 37 عاما، ومتزوجة منذ 11 عاما وقد رزقني الله بثلاثة أطفال -
بنتين في العاشرة والثامنة وولد في السادسة - الآن - من عمره - ومنذ يوم ولادة
ابني الصغير أصبت بجلطة في القلب، ودخلت العناية المركزة، وقضيت أياما عصيبة،
ونجوت من هذه المحنة المرضية بأعجوبة ، وتماثلت للشفاء ثم تكررت بعد ذلك، وفي آخر
أزمة صحية مررت بأزمة قلبية حادة، مع انسداد سطحي في الشريان التاجي، ولازمت
الفراش 60 يوما، کنت أموت ويصرخ أطفالي الصغار حولي، ويبكون، ويقفون حول فراشي،
ومعهم زوجي الحنون الصبور العطوف، خائفين من أن يفقدوني في أية لحظة، والحمد لله
رب العالمين، بفضل دعوات البشر الطيبين، وابتهالهم إلى الله سبحانه وتعالى، أكرمني
ربي ومّن علي بالشفاء، صحيح أنني لا أستطيع حتى الآن القيام بالواجبات المنزلية
تجاه أسرتي الصغيرة الحبيبة، لكن الحمد لله كثيرا على ما وصلت إليه صحتی، فأبی
أيضا مريض بالقلب وعمي كذلك، وقد كانت لي أخت شابة عمرها 26 عاما، وكانت مخطوبة
وتستعد لزفافها فاختارها الله إلى جواره بمرض القلب أيضا رحمها الله ومتعها
بشبابها الذي حرمت منه في الجنة إن شاء الله.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
شكرا لك
يا سيدتي على كلماتك الطيبة، وتمنياتك الصادقة لهذا الشاب الصغير، التي تستحقين
مثلها من الجميع بكل تأكيد، وأود أن أطمئنك - وقراء بريد الجمعة أيضا - إلى أنه قد
غادر المستشفى، وعاد إلى بلاده بغير إجراء الجراحة المنتظرة، حيث رأى الطبيب
البريطاني إرجاء التدخل الجراحي في حالته لمدة ستة شهور، وسوف يرجع إلى لندن في
الموعد الجديد، ويجري له الطبيب الجراحة ويعود إلى بلده وأهله وأحبائه سالما غانما
إن شاء الله، وقد أذن والده الطبيب مشكورا - كما أنبأني بذلك أخيرا صديق له -
بإعطاء عنوانه في القاهرة لمن يريده من قراء البريد.
وأرجو
ممن حصلوا على عنوانه في المستشفى من قبل، معاودة الاتصال لإعطائهم عنوانه في
القاهرة، ليكتبوا له إذا رغبوا في ذلك، والحق أن أحباء الحياة وبريد الجمعة، قد
انهالت علي اتصالاتهم ورسائلهم من مصر ومن خارجها طوال الأيام الماضية، منذ نشر
رسالته ، وأعطينا كثيرين منهم عنوان المستشفى وكتبوا إليه عليه، كما اتصل آخرون
يطلبون رقم تليفون المستشفى للاتصال به فيه، فشكرا لهم جميعا على مشاعرهم الكريمة،
وشكرا لك أنت يا سيدتي على رغبتك النبيلة في التخفيف عنه .
أما عن
ردي المتواضع على رسالته، فالحق أنني لا أعتبره تفاؤلا بقدر ما أعتبره نوعا من حسن
الظن بالله، والأمل الدائم في رحمته، فحسن الظن بالله من شعب الإيمان یا سیدتی ، کما ينبئنا
ذلك الحديث الشريف، والإنسان في حاجة دائما لجرعة ضرورية من التفاؤل وتوقع الخير
والتعلق دائما بالأمل في غد أفضل، لكي تعينه على مخاوفه وهواجسه شبه الغريزية من
المجهول، ومن المستقبل وما تحمله له صفحاته المخبوءة. والمتشائمون لا يصنعون
التقدم، ولا ينالون السعادة الحقيقية أبدا، حتى ولو توافرت لهم كل أسبابها، إذ
تشغلهم مخاوفهم وترقبهم لزوال الأسباب عن الاستمتاع بها والشكر عليها، وإذا كان
الفيلسوف الألماني المتفائل «ليبنتز» يقول في نظريته في التفاؤل ما معناه : إن «كل
شیء على ما يرام.. وهذا العالم هو أفضل عالم يحتمل أن يكون موجودا في الكون»: فلست
أحلق معه في سماوات التفاؤل العلا إلى هذا الحد، كما إنني أيضا لا أغوص مع المفكر
الفرنسي فولتير، في هاوية التشاؤم، حين يقول معقبا على نظرية ليبنتز : «إذا كانت
هذه هي خیر دنیا ... فما حال العوالم الأخرى».
ولا أيضا
مع الفيلسوف الألماني هايني حين قال : «إن الإنسانية مريضة وليست الدنيا إلا مستشفى
كبير».
وإنما
أؤمن فقط مع غيري، بأن أمر المؤمن كله خير كما يقول لنا الحديث الشريف، «إن أصابته
سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له»، وأؤمن أيضا بخيرية
الحياة والناس في غالبيتهم العظمى، وبأن الله سبحانه وتعالى لم يخلق الإنسان ليشقی
بل ليسعد بحياته، ويعمر الأرض، ويستمتع بكل ما أحله الله، ويعبد ربه ويشكره على
نعمائه ، كما يقول لنا أيضا التنزيل الحكيم (ما أنزلنا عليك
القرآن
لتشقى) صدق الله العظيم، وما أصدق المفكر الفرنسي مونتسكيو حين يقول لنا: «إن كل
شيء في الحياة مرتب بقصد توفير السعادة للإنسان»، وإن آلام الحياة شيء عارض يعترض
طريق سعادة الإنسان الذي كرمه ربه ونفخ فيه من روحه، وهيأ له أسباب السعادة في
الدارين . والثقة بالله وإحسان الظن به في النهاية ، يدفعان الإنسان للتمسك
بالحياة، ويعينان جسمه على محاربة أسباب الفناء ، وكلما ازداد ما يربط الإنسان
بحياته قويت فيه إرادة الحياة، وازداد صموده للأحزان والآلام، والأطباء يلاحظون أن
المرضى الذين تقوی لديهم إرادة الحياة ، ويميلون للتفاؤل والاستبشار، أكثر مقاومة
للمرض من غيرهم من المتشائمين والمتخاذلين والمنسحبين من الحياة .
لهذا كله فسوف تجتازين أزمتك الصحية أنت أيضا یا سیدتي بسلام، وستعود إليك قواك التي أوهنها المرض، وستعودين للقيام بأعمالك المنزلية لأسرتك الصغيرة الحبيبة، التي تحتاج إليك، فنداء الحياة يجذبك بقوة لاسترداد صحتك ، وروحك الطيبة المتفائلة بقوة ستعينك على مقاومة أسباب المرض، والوصول إلى بر الأمان بإذن الله.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد
الجمعة" عام 1994
شارك في إعداد النص / محمد عايدين
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر