الصورة الجميلة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994
أقسى عقاب يوقعه الإنسان على نفسه أن يستسلم للضغوط والآلام والأفكار الحزينة، وأفضل ما يستعين به عليها الإيمان بالله، والاستمساك بإرادة الحياة، وتجاوز اللحظة المؤلمة.
عبد الوهاب مطاوع
أكتب إليك هذا الخطاب من
لندن، المدينة الجميلة كما يقولون عنها، لكنني لا أحس بجمالها، ولا أرى فيها إلا
مدينة كئيبة، فلست هنا للسياحة ولكن لأمر آخر، لن أدخل في تفاصيله الآن، وإنما
سأروي لك القصة من بدايتها.
أنا شاب عمري 16 سنة وبضعة
شهور، ومن عائلة مستورة والحمد لله، تتكون من أبي وأمي وشقيقي الأكبر وأنا، وأبي
طبيب بالقوات المسلحة، وهو طبيب ممتاز في علمه وعمله، لكن الظروف لم تتح له الفرصة
للشهرة لأنه مصاب بضعف نظر شديد، ثم منذ ثماني سنوات بدأ يشعر بعدم القدرة على
السير لفترة طويلة وبشيء من العرج أثناء المشي، وأشار عليه زملاؤه بإجراء التحاليل
والاشعات على قدمه، فاكتشف الأطباء إصابته بضيق في شريان القدم وتطلب علاجه سفره
إلى الخارج، وبعد محاولات مضنية تقرر سفره إلى لندن، وهناك تبين أن الأمر ليس
انسداد في الشريان الأورطى، وبدلا من توسيع شريان صغير تم قطع جزء كبير من الشريان
الأورطى، واستبدال شریان من البلاستيك به و استغرقت الجراحة سبع ساعات كاملة ،
عاشها أبي على جهاز القلب الصناعي،
وقدر الله له الحياة فعاش بعد الجراحة، ورتب حياته على أساس هذا الوضع الجديد،
وخرج إلى المعاش المبكر ، وهو في سن الأربعين، وتعرض بعد ذلك بسنوات لجلطة في
القلب ، كادت تودي بحياته مرة ثانية، لكنه نجا منها والحمد لله.. وإن لم ينج من
المعاناة الأخرى مع باقي أفراد الأسرة بعد ذلك .
فأمي أيضا مصابة بانزلاق
غضروفي، يحتم عليها ألا تعمل عملا شاقا، لكن نظرا لاعتمادنا الكلي عليها في طعامنا
وشرابنا وحياتنا، فهي مضطرة إلى القيام بكل العمل الشاق بنفسها، مع معاناتها من
ارتفاع شديد في ضغط العين . أما أخي الأكبر الشاب الذي يبلغ من العمر 19 عاما،
والذي يدرس بالسنة الأولى بكلية الطب، فقد لاحظنا عليه فجأة منذ ستة شهور، أن وزنه
ينقص بطريقة غريبة، مما يحتم عليه أن يتم حقنه بالأنسولين مرتين كل يوم، مع
الاستعداد لمواجهة مضاعفات المرض الأخرى شفاه الله.
وأصل بعد ذلك إلى
"العبد لله" وهو أنا، فمنذ أربعة أشهر ومع بداية امتحانات النصف الأول
في الصف الثانوي الأول، وفي ليلة امتحان مادة التاريخ، شعرت فجأة بألم قاس في
القلب، ورعشة شديدة مصحوبة بدوار غریب، حتى شعرت بأنها نهایتي، وقام أبي بقياس ضغط
دمي ففوجئ بارتفاع شديد فيه، مع زيادة عجيبة في ضربات القلب ، وأفتى الطبيب
النوبتجي في المستشفى، الذي نقلني إليه أبي على الفور، بأنها ربما تكون حالة توتر
وخوف من الامتحان، لكن أبي الطبيب لم يقتنع بذلك، وفي الصباح ذهبت إلى الامتحان
وأنا في غاية التعب، وضغطي لازال مرتفعا،
حتى لا أكاد أعرف ماذا أكتب في أوراق الإجابة .
وسلمنا أمرنا الله في الامتحان، مع مواظبتي على
أدائه كل يوم، وانشغلنا بالطواف على أطباء القلب والأمراض الباطنة والضغط مازال يواصل
الارتفاع، ولا يستجيب لأي دواء وانتهى الامتحان، وظهرت نتيجته وفوجئت بنجاحي فيه،
ونحن مازلنا مشغولين بالفحوص والتحاليل، ومحاولة السيطرة على الضغط المرتفع، الذي
كان يصل أحيانا إلى 220 على 120، بلا أية فائدة وحار الأطباء في تشخيص حالتي، وكل
طبيب نذهب إليه يشخصها تشخيصا مختلفا، إلى أن ذهبنا إلى طبيب ظن أبی أنه مخبول!
فقد قال إنه يشك في وجود ورم في الغدة فوق الكلوية، وكان استنكار أبي لهذا التشخيص
أنه حالة نادرة جدا، لا تزيد نسبتها على واحد في المليون في حالة إصابة إحدى
الغدتين بورم، وعلى واحد من بين كل خمسة ملايين، في حالة إصابة الغدتين معا في وقت
واحد.
لكن أبی كطبيب قرر من باب
تحصيل الحاصل إجراء التحاليل على الغدتين، لاستبعاد هذا التشخيص نهائيا من حساباته
، لكي يتفرغ لمتابعة الاحتمالات الأخرى، التي تؤدي إلى التشخيص الصحيح، وأجريت
التحاليل فعلا لإفراز الغدة ، فكشفت عن زيادة في الإفراز، ولم ننزعج لذلك فقد رجح
أبي أن يكون معمل التحاليل قد أخطأ في تحليله ، لكنه من باب الاطمئنان رتب لى
إجراء مسح ذري على الغدتين بالجهاز الوحيد المتوافر في مصر ، فإذا بالأشعة تكشف عن
وجود ورم بالغدتين معا وليس في غدة واحدة ! أي أنني لست الواحد في المليون فقط،
وإنما أيضا الواحد في "الخمسة ملايين" كذلك، الذي اختارته الأقدار لکي يصاب بهذا المرض النادر .. والحمد لله.
ولست أدري کیف تصاب الغدتان
في وقت واحد؟ وكل منهما بعيدة عن الأخرى، لكن هذه هي الحال، والأمر لله، وهذا
الورم هو الذي يجعل الغدة تزيد من إفرازاتها فترفع ضغط الدم إلى هذه الدرجة
الرهيبة، واستغرقتنا الصدمة المروعة حين عرفنا ذلك لفترة عصيبة، وازدادت حياتنا
التي تكدرت بمرض أبي ثم أمي ثم شقيقي الوحيد - «شفاهم الله جميعا» - كآبة وحزنا،
ثم أفقنا من الصدمة فبدأ أبي محاولاته المضنية لتسهيل سفري إلى لندن لإجراء عملية
إزالة للغدتين معا.
وبعد عذاب مرير جئنا إلى
لندن لكي أكرر رحلة أبي إليها منذ سنوات الإجراء جراحته الخطيرة، وقابلت الطبيب
المعالج وهو أعظم طبيب قابلته في حياتي، فبدأ في فحص الاشعات والتحاليل، ثم
سأل أبي عن التاريخ المرضى لأسرتي، فتبادلت مع أبي النظر الصامت والابتسامة
المريرة الساخرة، ثم راح أبي يقص عليه سجل أسرتنا الحافل مع أمراض الغدد، وأضاف
إليه العامل الوراثي في حالة أمي، حيث يعاني والدها "جدی" من حالة
متقدمة من السكر، وارتفاع ضغط العين إلى الحد الذي کاد بصره معه يتلاشى، وحيث تعاني
والدتها "جدتي" من ورم في الغدة النخامية، التي تتحكم في كل الغدد
الأخرى، إلى جانب السكر وارتفاع ضغط الدم، واستمع الطبيب الإنجليزي إلى أبي مندهشا
ومنزعجا، وفكر لحظات ثم قال إنه نظرا لهذا التاريخ المرضي الغريب للأسرة، فلابد من
أن يتأكد أولا من سلامة باقي غددي، قبل أن يفعل أي شيء آخر .. ثم أدخلني المستشفى
حيث أقيم الآن في غرفة صغيرة حتى ينتهي من إجراء تحاليله المختلفة، وأبحاثه التي
قد تستغرق أسابيع وأسابيع .
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
سيأتي يوم تجلس فيه إلى
«زوجتك»، التي ستلتقي بها ذات يوم بعد أن تنهي دراستك وتعمل بإذن الله، وإلى
أبنائك منها، وقد اقتربوا من سن الشباب، وبدأت مدارکهم تتفتح لخبرة الحياة
وتحدياتها، فتقدم لهم قصاصة جريدة قديمة، قد اصفرت من أثر الزمن ونشرت ذات يوم منذ
عاما - أو تزيد - قصة شاب صغير حزين امتحنته الأقدار وهو في السادسة عشرة من عمره،
بمحنة مرضية مؤلمة، وسافر إلى لندن خائفا متوجسا وعاش بها بضعة أسابيع غريبا في
بلاد غريبة، تساوره الوساوس والأحزان، ويمضي أيامه وحيدا ملولا مكتئبا، في غرفة
صغيرة بمستشفى بعید، لكن ربه قد أعانه على أمره فصمد للمحنة بشجاعة وتجاوزها
بسلام، بإيمانه بربه واستمساکه بالحياة و بالأمل في غد أفضل يستحقه ، فرجع من
غربته بعد أسابيع بدت له وقتها طويلة كلیل المعذبين، واستأنف حياته ودراسته في
أمان، وحقق نجاحه في الحياة ، حتى جمعته الأقدار بشريكة عمره الموعودة فكونا معا
أسرة صغيرة متحابة، وأنجبا أبناء متعاطفين متحابين كأبويهما.
ثم "تعترف" لأبنائك
في نهاية القصة، بأن هذا الشاب الوحيد الصغير كان أنت، وتطلب منهم أن يستعينوا على
تحديات الحياة وآلامها بما استعنت أنت به على محنتك، من الإيمان بالله وحسن الظن
به، والثقة المطمئنة في أن «أمر المؤمن كله خير»، كما جاء في الحديث الشريف، «إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» وتؤكد بعد ذلك
إيمانك الراسخ بأن الخير آت للجميع في نهاية الأمر، "وكل شتاء لابد صائر إلى
ربيع" كما يقول الشاعر الإنجليزي «ألفريد تنیسون» وتثبت لهم بتجربتك الشخصية
أن «ما كان حزنا مرة أصبح الآن سلاما» كما يقول لنا الشاعر طاغور.
سيأتي هذا اليوم بإذن الله،
وسوف تشهده، وتعيشه بكل تفاصيله الجميلة إن شاء الله، ولست أرجم بالغيب حين أقول
لك ذلك، ولا أتنبأ بالمستقبل وإنما استشرفه وأتطلع إليه بالأمل والدعاء والرجاء،
الذي لا يخيب في أرحم الراحمين، فتأمل يا صديقي دائما في مخيلتك هذه الصورة
الجميلة المدخرة لك في قدر الله إن شاء الله.
واستعن بها على هواجسك
ووحدتك ومللك في غرفتك الصغيرة البعيدة، ذلك أن أقسى عقاب يوقعه الإنسان على نفسه
أن يستسلم للضغوط والآلام والأفكار الحزينة، وأفضل ما يستعين به عليها هو الإيمان
بالله والاستمساك بإرادة الحياة، وتجاوز اللحظة المؤلمة إلى التفكير في الغد
الأفضل الذي يستحقه، وسوف تتحقق فيه آماله بإذن الله..
لقد سئل نيلسون مانديلا
زعيم جنوب إفريقيا، الذي ظل سجينا 28 عاما كاملة ، لم يفقد خلالها الأمل يوما في
الحياة، كيف احتمل سنوات السجن الكئيبة هذه؟ فأجاب : کنت كلما ضقت بوحدتي فيه
وتراءى لي شبح اليأس يهددنی، تخيلت يوم النصر الموعود، ولحظة خروجي منتصرا إلى
الحرية ، فأستعيد ثقتي بنفسي وغدي، وأثمل بالصورة الجميلة التي أنتظرها بصبر وأمل
فأنسى أحزانی !.
وهكذا ينبغي أن تفعل أنت
أيضا يا صدیقی، فتتجاوز اللحظة المؤلمة إلى الصورة الجميلة، التي تنتظرك حين يتحول
«الشتاء إلى ربيع»، وتعود إلى بلادك وأسرتك وأصدقائك سالما غانما معافى من كل سوء
بإذن الله.
غير أنك تعاني الآن الملل و
الوحدة في غربتك، ولك كل العذر في ذلك، فنحن لا نسعد أبدا في المنفى، ولا في غربة
النفس والقلب عن عالمنا الخاص، بل إن الإنسان ليستشعر أحيانا نوعا من الرعب الخفي،
حين يرى نفسه مقطوع الصلة بالعالم الذي أحبه واعتاد الحياة فيه . لهذا فإنني
أستأذنك في أن أعطى عنوان المستشفى ورقم حجرتك فيه لبعض الأصدقاء المقيمين في
لندن، لكي يزوروك ويخففوا عنك وحدتك ویرعوك خلال فترة العلاج، كما أستأذنك أيضا في
أن أعطيه لكل من يطلبه مني من أحباء الحياة، وأحباء بريد الجمعة، لكي يكتبوا لك
بعض الكلمات التي تشعرك بأنك لست وحدك في هذه المحنة الطارئة ، ولو أنك كنت قد
كتبت إلى أيضا برقم تليفون المستشفى لاتصلت بك على الفور لأطمئن عليك، وأشد من
أزرك، لكنه لن يمضي يوم أو يومان على أية حال، حتى أتوصل للرقم عن طريق هؤلاء
الأصدقاء المقيمين في لندن، وسوف أتصل بك لأحييك وأترقب أخبارك السعيدة بإذن الله
. كما سوف أعطى الرقم أيضا لمن يطلبه مني من الأحباء الذين سوف . يسعدهم كثيرا أن
يحيطوك بدفء مشاعرهم، وصادق دعواتهم، وأن يرجوا لك كل خير وسعادة في حياتك إن شاء
الله .
رابط رسالة نداء الحياة تعقيبا على هذه الرسالة
شارك في
إعداد النص / محمد عايدين
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر