نهر الحنان .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988
بدأت قصتي حين
كنت طالبة في كلية التجارة في التاسعة عشرة من عمري .. فتاة جميلة ومرحة وطيبة
وتحلم بالمستقبل السعيد، ففي هذه المرحلة من العمر تقدم لخطبتي طبيب شاب، فرفضت في
البداية، لكن أبي أقنعني بقبول الخطبة فوافقت، ثم لم ألبث أن ارتحت إلى خطيبي لما
لمسته فيه من تهذیب ورقة في المعاملة، وبدأت فترة الخطبة، فشهدت خلافات كثيرة بين
أبي وخطيبي حول المسائل المادية، حتى جاء يوم عيد ميلادي وجاء خطيبي ليصحبني
لنحتفل معا بالمناسبة السعيدة، فشاءت الظروف أن يتجدد الحديث بينه وبين أبي حول
المسائل المالية ثم تطور الحديث إلى جدال عنيف فخرج خطيبي ثائرا منفعلا، فاستأذنت
أبي في اللحاق به لأهدئه وخرجت مهرولة وراءه فلحقت به عند السيارة، وركبت بجواره
وطلبت منه أن ينسى ما حدث، وأن نذهب إلى الكازينو الذي اختاره من قبل لنحتفل فيه
بعید میلادي كأن شيئا لم يكن، لكنه ظل على ثورته يقود السيارة ويقذفني بالكلام
الجارح، وهو في قمة الانفعال ويرتجف من العصبية والانفعال، وأنا أبكي والسيارة
تمضي بنا في شوارع القاهرة المزدحمة، حتى أفقت فجأة على صوت ارتطام شديد في
السيارة من الجانب الذي أجلس فيه، ولم أشعر بعد ذلك بشيء إلا وأنا راقدة فوق سرير
في أحد المستشفيات، وعرفت بعد أيام أن السيارة قد اصطدمت بسبب عدم تركيز خطيبي
بأتوبيس عام، وأن جروح خطيبي سطحية أما جروحي أنا فكانت جرحا غائرا في جبهتي،
وجرحا كبيرا في كتفي، ثم وهو الأهم جرح داخلي عميق أو تهشم بمعنى أصح استدعى تدخلا
جراحيا.. وانتهى بأن أصبحت عقيما غير قادرة على الحمل والإنجاب، وتماثلت للشفاء
بعد فترة وخرجت من المستشفى حزينة يائسة ومع ذلك فقد رفضت أن يذكر أحد خطيبي بسوء
أمامي، أو أن يعتبره مسئولا عما حدث لي، فما جرى قد جرى ولا راد لقضاء الله .. ولا
فائدة من اتهام خطيبي وهو في النهاية حصني وملاذي الذي سأقاسمه الحياة بخيرها
وشرها.
وحرصت على ألا
أشعره بأي شيء من ذلك، لكني لاحظت أن زياراته لي قد تباعدت وأنه يجيئني فيجلس
صامتا بالساعات، كأنه لا يجد ما يقوله لي .. فأدركت أنه قد أعاد حساباته، وقررت أن
أعفيه من وعوده لي، فلم ينتظر سامحه الله أن تأتي المبادرة مني وفاجأني بخطاب
يعتذر فيه عن عدم إتمام مشروعنا وصدمت صدمة أليمة، وثار أهلي لكني قررت مواجهة
الموقف بشجاعة.
وبعد فترة
قصيرة من الاحتجاب ومراجعة النفس تأهبت للعودة لممارسة حياتي، فعدلت تسريحة شعري
بحيث أسدل بعض خصلاته على جبهتي لإخفاء جرحها، وتكفلت ملابسي المحتشمة دائما
بإخفاء الجرح في كتفي، وخلعت الدبلة وعدت إلى كليتي فواصلت الدراسة حتى تخرجت
وعملت، ومضت سنوات العمر متشابهة بطيئة توفي خلالها أبي وتزوجت شقيقتي وأشقائي،
وخلا لي البيت فعشت فيه وحيدة حزينة لا أمل لي في زواج ولا في إنجاب، وكلما تقدم
لي شاب عارضا علي حبه ورغبته في الزواج مني صارحته بحقيقة ظروفي، فيشكرني على صراحتي، ثم يذهب من حيث
أتي ولا يعود ..حتى بلغت الثامنة والعشرين من العمر وأنا على هذه الحال.
وذات يوم ضقت
بوحدتي في مسكني، فقررت أن أمضي أجازتي السنوية في بيت شقيقتي المتزوجة في الريف،
وهو بيت صغير جميل أجد فيه راحتي، وأجد في مداعبة ابنتها الصغيرة ورعايتها سلواي و
متعتي، وأمضيت أياما مع أسرة شقيقتي، ثم جاءها ذات يوم صديق حميم لزوجها ليودع طفليه الصغيرين
عندها لاضطراره للسفر في رحلة عمل قصيرة وبسبب مرض المربية، وانصرف الصديق بعد أن
اطمأن على طفله وطفلته، ووجدت نفسي اقترب منهما وأداعبهما وأقص عليهما الحكايات
وأشاركهما ألعابهما البريئة، و أتولى شئونهما حتى أودعهما الفراش في المساء، وتكرر
ذلك في اليوم التالي و عرفت من شقيقتي قصته، فهو أرمل في الثلاثينات من عمره، رحلت
زوجته عن الحياة بعد عشرة لم تكن طيبة، ولم ترع خلالها حقوق ربها في زوجها
وولديها، فكان رحيلها نهاية لعذابه معها، وبداية لوحدته ومعاناته مع طفليه
اليتيمين .. ففهمت لماذا خفق قلبي عندما رأيته، ولماذا غزا هذان الطفلان المحرومان
قلبي منذ اللحظة الأولى، وعاد الصديق ليسترد طفليه فحزنت لذهابهما وتمنيت لو
رأيتهما مرة أخرى، ومرت أيام وتكررت زيارات الصديق، ثم فوجئت به يطلب مني الزواج،
وقبل أن أجيبه بالرفض أو القبول فوجئت به يصدمني بقوله إن زواجنا سيكون إذا وافقت "زواجا
أبيض" أي زواجا على الورق فقط، لأنه وبصراحة بالغة قد كره الزواج وكره النساء
مما عاناه من غدر زوجته الراحلة، ومن طعناتها له، وأنه سيتزوج من أجل طفليه اللذين
يريد لهما أما صالحة وحياة مستقرة، لا سيما بعد أن لاحظ ارتياحهما لي وارتياحي
لهما.
وبقدر ما فرحت
بعرضه بقدر ما حزنت له إذ لماذا يتخيل أني سأقبل هذا الزواج الناقص؟ وأنا مازلت فتاة جميلة لم تتزوج
بعد إلا إذا كان يعتبرني عانسا سوف تقبل بأي شيء.
وأمضيت ليلة
كئيبة وأنا أفكر في عرضه وكدت أرفضه، لولا أن تمثلت لي صورة الطفلين البريئين
فهدأت أفكاري وقررت قبول الزواج منه.
وفي اليوم التالي أعلنت للجميع موافقتي، وكانت
حجتي لإقناع إخوتي به إنني لا أستطيع أن أواصل حياتي وحيدة في مسكن واسع بلا رفيق
ولا أنيس إلى الأبد، وفكرت في أن أخبره عن آثار الحادث، لكني تذكرت ماذا جره علي
ذلك من قبل لي فجبنت عن إبلاغه به، وأعفيت ضميري من اللوم بأن زوجي لا يريدني سوى
أم لطفليه، وتم عقد القران وانتقلت إلى بيت زوجي، وبدأت أيامي فيه سعيدة ازداد
فيها تعلقي بالطفلين، وشكرت الله على زواجي من هذا الرجل الطيب الكريم، وشيئا
فشيئا وجدت حبه يتسلل إلى قلبي وينمو داخله رغم زواجي الأبيض منه، ورغم بعض رواسب
الشكوك القديمة في نفسه من أثر معاناته مع زوجته الراحلة والتي كانت تطفو أحيانا
في معاملته لي، فتثير بعض الخلافات والمشادات الصغيرة، ورغم احترامي له فقد اضطررت
يوما لأن الفت نظره إلى أنه لیست كل النساء متشابهات، وأنني لن أكون يوما كزوجته
السابقة، فرأيت نظرة الألم في عينيه، فندمت وبكيت واعتذرت له، لكنه انصرف عني حزينا،
فتعلمت من يومها أن احتمل الألم وأن أدعه يفرغ معي همومه وآلامه السابقة إلى أن
يستريح ويسترد ثقته بالحياة والبشر.
وحدث بعد ذلك حادث صغير ساعد على ذلك.
ففي إحدى هذه الأزمات العابرة نشب جدال عنيف
بيننا فراح يهزني بقوة وأنا أبكي بحرقة ثم توقف فجأة ليسألني عن جرح جبهتي، فقد
تراجعت خصلات شعري عن جبهتي وهو يهزني، فرآه وتوقف ليسألني عنه بهدوء، فرويت له عن حادث التصادم وعن الجرح
الآخر بكتفي، وحاولت إخباره عن آثار الحادث الأخرى على عقمي فلم أستطع فسكتت ثورته
فجأة، وتحول إلى إنسان رقيق طيب كعادته واصطحبني معه إلى سهرة في الخارج، وبدأ
يصطحبني معه كثيرا إلى سهرات وتوقفت قسوته وازدادت رقته وطيبته وازداد حبي له
وتعلقي به.
وبعد شهور من
زواجي مرضت طفلتنا الصغيرة، فنقلتها لفراشي لأرعاها خلال الليل، وعاد زوجي من
الخارج ففتح غرفة الأولاد ليطل عليهما كما تعود كل ليلة، فلم يجد ابنته فيها فجاء
إلى غرفتي منزعجا، فوجدني ساهرة عليها أغير لها كمادات الماء المثلج وأداعبها، فرق
قلبه لي ولها وجلس معنا وقتا طويلا يحدثنا ثم انصرف وهو يحذرني من انتقال العدوى
لي.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
يا سيدتي إن الأمر أهون كثيرا مما تتصورين، ولن يهدد حياتك ولن يفقدك زوجك إن شاء الله، فزوجك ليس راغبا في أعماقه في إنجاب المزيد من الأطفال، لكنه رجل عادل أدرك بعد أن تزوجك وأحسنت معاشرته، وامتصاص معاناته ورعاية طفليه، أنه قد ظلمك بما فرضه عليك من شروط قاسية قبل الزواج، ورأى أن من واجبه وقد تفجر حبك في قلبه ولمس حبك له وإخلاصك أن يعفيك من هذه الشروط الظالمة، وأن يعفي ضميره من وزر حرمانك من الإنجاب مراعاة لظروفه هو وحده .. وهكذا أعلن رغبته في أن ينجب طفلا يوثق الروابط بينكما، لكنه في الحقيقة لا يريده ولا يحتاج إليه، ولن يضيره بكل تأكيد أن يتنازل عنه، وقد منحته الحياة زهرتين جميلتين تنموان تحت رعايتك وتتمتعان بأمومتك، ولا أبالغ إذا قلت إن هذا هو الوضع الأمثل بالنسبة له ولطفليه، لكنه لا يريد أن يظلمك ولا أن يحرمك مما يتصوره حقا لك لتتواصل الحياة بينكما وتتعمق جذورها. فإذا ما صارحته الآن بحقيقة الأمر فلسوف يرحب به في أعماقه، وسوف يزداد تمسكا بك، لأن ضميره سوف يطمئن إلى أن طفليه لن ينافسهما في قلبك ورعايتك أحد، وأن أسرته لن تعرف بعض المشاكل التي تنشأ أحيانا بسبب التفرقة في المعاملة بين الأبناء في مثل هذه الظروف.
إذن فمن هذه
الناحية فلا خوف على سعادتك، لكنك قد أخطأت بلا شك في إحجامك عن إبلاغه بالأمر قبل
الزواج، لأن المصارحة هي أساس الثقة دائما، ولأنك لم تدركي الفارق الجوهري بين
ظروفه وبين ظروف من تقدموا لك من قبل، فلم تتنبهي إلى أن هذا السر الذي تخفينه هو
بالنسبة له من المميزات وليس من العيوب، لكني ألتمس لك العذر على أية حال، وأتصور
أيضا أن زوجك العادل سوف يلتمسه لك وسوف يفهم دوافعه.. ويعرف أنك أخفيته أصلا رغبة
فيه وأملا في الارتباط به ، ولأن أقصر الطرق إلى الأهداف الشريفة هي الخطوط
المستقيمة .. لهذا فإني أنصحك بأن تصارحيه الآن بنفسك وحتى قبل أن يقرأ هذه
الرسالة .. ولا تخشي شيئا يا سيدتي، فكلاكما يحتاج إلى صاحبه بنفس القدر وبنفس
الرغبة، وقد عبرتما معا مرحلة التجارب والمعاناة والشكوك، وتفجر ينبوع الحب صافيا
في قلبيكما.
وفي مثل هذه الظروف لا يهدم الإنسان خلية النحل التي يجني منها العسل، لسبب مثل هذا، وإنما يحفظها ويرعاها ويعفو عما سلف، لكي تتواصل الحياة ويستمر في جني رحيق الحب معك، ولا شك أنك تستحقين كل ذلك وأكثر، فلقد صبرت على زوجك وتحملت الكثير معه حتى تفجر الينبوع في قلبه ورعیت الله في حقوق طفليه، واستسلمت لأقدارك راضية مستكينة ولم ينضب أبدا نهر الحنان في أعماقك تجاهه، وتجاه طفليه، حتى وأنت تتعرضين لبعض انفعالاته ومراراته القديمة.. لذلك فمن العدل ألا يتخلى عنك زوجك مهما جرى، وأن تهدأ مخاوفك.. وأن تنعمي بالسعادة مع أسرتك الصغيرة إلى الأبد إن شاء الله.
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر