الشقيقة الصغرى .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993
أنا سيدة أبلغ من العمر 45 سنة خريجة إحدى كليات القمة ومتزوجة من زميل لي في العمل ويشغل كل منا منصبا مرموقا فيه .. وقد نشأت في أسرة كبيرة العدد وعشنا حياة أقل من المتوسط لكنه بكفاح أبي وإصراره تمكنا جميعا من أن نتعلم وحصل معظمنا على مؤهلات عالية وتزوجنا .. ونظرا لكثرة عدد الأبناء وانشغال أبي وأمي بالكفاح لتدبير احتياجاتنا فقد كان لا يعبران كثيرا عن مشاعرهما تجاه أبنائهما , فنشأت محرومة إلى حد ما من الحنان الأسري وتمنيت أن أهيئ لأولادي حين أتزوج حياة يتمتعون فيها بالحب والحنان ولا يعانون خلالها من الحرمان العاطفي أو المادي , ورزقنا الله ببنتين أصبحتا منذ مجيئهما إلى الدنيا محور حياتنا , وحرمت نفسي أنا وزوجي من كل شئ حتى نوفر لهما إحتياجاتهما من مأكل وملبس وتعليم ومظهر حتى لا تشعرا بأي نقص وتنشأ صديقتين متحابتين متفاهمتين تستند كل منهما على الأخرى في الحياة خاصة وأن فارق السن بينهما ضئيل .
وقد تدرجت الابنتان في التعليم حتى التحقت الكبرى بإحدى كليات القمة ووصلت الصغرى إلى المرحلة الثانوية , والمشكلة يا سيدي أنهما قد نشأتا في مناخ واحد وعاملناهما معا معاملة واحدة بالحب والحنان والتفاهم , ورغم ذلك فلكل منهما شخصية مختلفة عن الأخرى , فالكبرى رقيقة إلى حد ما وحنون ووهبها الله سعة الصدر وحلاوة اللسان , أما الصغرى فهي جافة وسليطة اللسان إلى حد ما , وهذه المشكلة رغم ما يبدو من بساطتها تؤرقني لأني أخشى أن تنشأ الأختان متنافرتين بسبب إيذاء الصغرى لأختها الكبيرة وجرحها دائما لمشاعرها كما أخاف أن يتحول هذا التنافر إلى كراهية بينهما يتعذر علاجها أو التخلص منها في المستقبل.
إنني وزوجي يعتصرنا الألم ونحن نرى ابنتنا التي نضحي بالضروريات لإسعادها تخطئ في حقنا وترفع صوتها علينا وتزجرنا وأخاف إذا تمادت في سلوكها هذا أن يغضب قلبي وقلب أبيها عليها فتكون من الخاسرين , لقد كنت إبنة مهذبة وحنونا وبارة بأبويها حتى توفيا رحمهما الله وأريد لابنتي أن تكون كذلك .. فبماذا تنصحني بأن أتعامل معها .. هل أعاملها بالقسوة وأحاسبها على كل خطأ أم استمر في معاملتي الحالية لها بالحنان وأغفر لها أخطائها وأسامحها أنا وأختها وأبوها فيما تخطئ فيه في حقنا كما نفعل الآن.
كما أرجو أن تكتب لها كلمة تبين لها فيها كيف تكون معاملة الأبوين وكيف تكون معاملة الأخت بالحب والعطف والاحترام , وشكرا لك .
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولــكــاتـــبة هـــذه الـــرســـالـــة أقــــول :
لا أنصحك بأن تعامليها بالقسوة , أو بالتجاوز المستمر عن أخطائها كما تفعلين الآن .. وإنما بأن تعامليها بالعدل ! والعدل يفرض عليك يا سيدتي أن تواجهي تصرفاتها بما يتلاءم معها من جزاء منصف , فإن أحسنت التصرف وإلتزمت آداب التعامل مع أبويها فلها العطف والحنان واحترام رغباتها ولها الصفاء والابتسام والاحترام , وإن تعدت حدود ربها في معاملة أبويها فلها العقاب والمقاطعة والتجهم والنبذ لفترة تتناسب مع جرمها .. والحرمان من بعض الحقوق المادية لفترة ملائمة .. ولها خلال ذلك كله التشجيع لأية بادرة تأتي من ناحيتها للرجوع عن أخطائها .. والاعتذار عنها .. ولها بعد ذلك وقبله الحب والفهم اللذان يساعدانها على التخلص من الجفاء وحدة اللسان.
إن اختلاف شخصيات الأبناء رغم نشأتهم في منبت واحد ومعاملتهم معاملة متماثلة أمر وارد وطبيعي , لأن سمات الشخصية تحددها عوامل عديدة ومركبة بعضها وراثي قد ينتقل لأحد الأبناء دون الآخر , وبعضها مكتسب من مؤثرات البيئة والحياة والتجربة الشخصية في سن الطفولة ويختلف تفاعل كل ابن معها، فتختلف سمات شخصيته تبعا لذلك .. لهذا فلا بأس بهذا الاختلاف لأنه من صفة الحياة , لكن المهم دائما هو أن يبقى هناك قاسم مشترك بين شخصيات الأبناء يتشاركون فيه , ويختلفون فيما عداه من سمات .. ومن أهم ملامح هذا القاسم المشترك هو الحب العائلي الذي يجمع الأبناء بأبويهما وإخواتهما , والإدراك الرشيد بأنه لن يكون له في الحياة من سند أقرب إليه من أبويه وإخوته . والتعاطف الصادق بين الجميع .
وإبنتك في تصوري تعاني من متاعب سن المراهقة , وهي سن لا جمال لها ومشحونة دائما بالمشاعر المتناقضة والأوهام والوساوس والتقلبات المزاجية من الرضا إلى السخط , ومن الإبتهاج إلى الاكتئاب بغير أسباب معلومة .
ومن مشاكلها أن الإبنة أو الابن فيها يحس غالبا بتناقض مزعج له بين ما يعتقده من أنه قد بلغ مبلغ الرشد وينبغي معاملته كفرد رشيد مهم من أفراد الأسرة , وبين ما يلمسه أو يتصوره من إستمرار معاملة الأبوين له كطفل .. أو كفرد "قليل الأهمية" بالقياس إلى إخوته الكبار , فيدفعه هذا الاحساس المزعج لتأكيد شخصيته ومحاولة فرضها على الأسرة .. بالجفاء أو الحدة .. أو التمرد.
وقد يتعمق هذا التناقض حين يصطدم الابن بالحقيقة البديهية التي يعجز عن فهمها فتزيد من أزمته , وهي أن الأبوين لابد أن يكونا بالضرورة أكثر ميلا وإحتراما لمن يقدم لهما الحنان والحب من أبنائهما ولمن لا يتحفظ في إبداء مشاعره الودية تجاههما .. ولمن لا يمثل لهما مشكلة مزعجة كل حين .
فالأبوان وإن كانا لا يفرقان بين أبنائهما فيما يحملان لهما من الحب والعطف إلا أنهما في النهاية بشر .. والنفس الإنسانية تميل بطبعها لمن تستشعر حبه لها ولا يبخل عليها بالتعبير لها عن هذا الحب .
والحقيقة التي يجب أن تعيها ابنتك هي أنها لكي تنال ما تناله أختها الكبرى من الحب والاحترام , لابد أن تقدم هي أيضا الحب والاحترام لأبويها ولأختها , وأن تحترم مشاعر الجميع وألا تبدو في نظرهم دائما الطرف المزعج الساخط أو الشاكي أو المطالب بالمزيد دون خطوة واحدة من جانبه تجاه من حوله يشعرهما بها بحبه واحترامه .
وفهم كل ذلك سوف يساعدك يا سيدتي على معاملتها بما يبدد أوهامها التي تدفعها أحيانا لهذه التصرفات الخاطئة .. كما سيساعدك على أن تؤكدي لها حبك في نفس الوقت الذي لا تتهاوني فيه مع أخطائها وتجاوزاتها .
ذلك أن التراجع الدائم أمام أخطائها يضر بها هي قبل غيرها وينمي فيها نزعة الجفاء والعدوانية واستسهال الاساءة للآخرين مما يرشحها في المستقبل للشقاء .. والتعاسة في حياتها الخاصة .
لهذا لابد أن تعرف ابنتك بالنصيحة وبالعقاب أيضا أن زجر الأبوين وإرتفاع صوتها عليهما خطيئة ترتج لها السماء , وسوف يحاسبها عليها ربها أشد الحساب إن لم تكفر عنها بالإعتذار والاستغفار .. ولن تدرك هولها إلا حين تتزوج وتنجب .. ويحق عليها القول المأثور :"من عق أبويه عقه ولده".
فإذا ابنتك أرادت أن تتجنب التعاسة في حياتها الخاصة , وسوء المصير في الآخرة , فلتلتزم بحدود ربها في معاملة أبويها وأختها ولتلتزم باحترام مشاعر أختها وإحترامها حتى لا تفقد سندها الوحيد في الحياة بعد أبويها وتحرم نفسها من سلام النفس وراحة الضمير معظم أيام حياتها.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" نوفمبر 1993
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر