الحب الزائف .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2000
أنا شاب أبلغ من
العمر 35 عاما .. أحمل مؤهلا عاليا وأعمل عملا حرا يتطلب مني السفر من مدينتي التي
أقيم بها إلى عاصمة المحافظة .. وأنا أصغر أخوتي حيث أن لي 5 شقيقات .. وقد نشأت
يتيما إذ مات أبي وأنا في السابعة من عمري .. وأحوالي المادية معقولة ولدي مسكن
جيد به كل الكماليات وأنا إنسان ملتزم وأحفظ نصف القرآن الكريم وأحافظ على ديني
قدر المستطاع .. والمشكلة التي أكتب إليك بشأنها ليست مع زوجة أو أبناء أو أخوة أو
أخوات وإنما مع أمي!
نعم أمي فهي تحبني
بطريقة مرضية مخيفة وترفض مجرد الحديث في أي مشروع لزواجي, فإذا أخطأت إحدى
شقيقاتي .. وكلهن متزوجات وحدثتني أمامها في أمر زواجي, فيا ويلي منها بعد انصراف
أختي وعودتها إلى بيتها إذ ما أن تنصرف حتى تنهال علي أمي بأقذع الشتائم وتكشف
رأسها وتدعو علي بكل مصائب الحياة وتهددني بغضب قلبها علي إلى يوم القيامة إذا
تزوجت قبل أن تودع هي الدنيا!.. ومنطقها في ذلك هي أنها قد ربتني يتيما وتحملت عبء
رعايتي وحيدة ورعتني وعلمتني فكيف إذن تأخذني منها "على الجاهز" ـ امرأة
أخرى ؟ ولست في حاجة لأن أحكي لك عن الجهود التي بذلتها شقيقاتي وأقاربي وبذلتها
أنا معها لكي تقبل بفكرة زواجي وتطلق سراحي فأتزوج قبل أن يتقدم بي العمر أكثر من
ذلك, فلقد كانت في كل مرة تتظاهر تحت ضغط الأهل والشقيقات عليها بالموافقة.. فما
أن تظهر لي فتاة مناسبة وأشرع في السعي لخطبتها حتى تهبط على أمي كل أمراض الدنيا
ويصبح لا هم لي إلا الذهاب معها إلي طبيب والعودة من عند طبيب آخر.. وإجراء
التحاليل والإشعاعات ونظل على هذا الحال شهرا كاملا أنفق فيه ما أكون قد جمعته من
المدخرات خلال شهور من العمل الشاق.
فما أن يفشل مشروع
الخطبة أو يتعثر أو انصرف عنه حتى تتقدم صحة أمي خلال أيام.. وترجع دماء العافية
إلى وجهها وتتحسن نتائج التحاليل والإشعاعات بقدرة قادر! وبعد أن تكررت نفس القصة
أكثر من مرة بنفس تفاصيلها نصحتني إحدى شقيقاتي بأن أتقدم لإحدى زميلاتي في العمل
وأخطبها من أهلها في السر أي بغير علم أمي ثم أحافظ على سرية الخطبة إلى يوم عقد
القرآن وعندها تجد أمي نفسها أمام الأمر الواقع وعملت بالنصيحة وخطبت زميلة لي
تصغرني بخمس سنوات ووافق أهلها مشكورين على تكتم الخطبة حتى يوم القران. وقبل عقده
بأيام علمت أمي بالخبر فلم تقل شيئا في البداية لكنه ما أن اقترب يوم القران حتى
سقطت مريضة كالعادة وعانت من أزمة صحية خطيرة ظننت معها أنها في النزع الأخير
وتعذر عقد القران بالطبع.. وحددنا له موعدا آخر فما أن جاء حتى حدث نفس الشيء
وتأجل مرة ثانية وثالثة.. إلى أن اعتذر أهل خطيبتي عن عدم إتمام المشروع وأعادوا
لي الشبكة والهدايا وشعرت بالأسى لنفسي.. وزاد من حزني أنني رأيت أمي تكاد ترقص
طربا بإرجاع الشبكة لي!
لقد نصحني صديق لي
باستشارة طبيب نفسي في حالة أمي, فسافرت إلى القاهرة بالفعل واستشرت طبيبا متخصصا
فنصحني بألا أمانع في زواج أمي إذا رغبت في الزواج لأنها ربما تشعر بالغيرة علي
وأبلغت شقيقاتي بما قاله الطبيب فاعترضن جميعا على فكرة زواجها لكبر سنها حيث أنها
تجاوزت الخامسة والستين. ومازال الحال كما هو عليه.. ومازلت محروما من حقي في
الزواج وإلا مرضت أمي وأشهدت السماء والأرض علي غضب قلبها علي إلي يوم الدين فماذا
أفعل يا سيدي ؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
لا شك في أنها تشعر تجاهك بنوع من الغيرة المرضية يدفعها إلى الرغبة في الاستئثار بك لنفسها دون غيرها من البشر.. وفي رأي عالم النفس الأمريكي كولز أن الأم التي تتصف بمثل هذه الغيرة المرضية على ابنها هي أم مصابة بوسواس قهري قد يدفعها ذات يوم إلى ارتكاب عمل شائن بعيد عن الحكمة والعدل وقد يوشك في بعض الأحيان أن يقترب من دائرة الإجرام.. وهي في النهاية مريضة وليست شريرة بطبعها وحالة شاذة بين الأمهات لكنها قد تظهر لدى الأمهات الوحيدات اللاتي عكفن على تربية ابن وحيد أو ابنه وحيدة بعد ترملهن أو طلاقهن، أكثر مما تظهر عند غيرهن من الأمهات اللاتي عشن حياة زوجية طبيعية تقاسمن خلالها مسئولية تربية الأبناء مع أزواجهن.
وفي مثل هذه الحالة
الشاذة فان الأم تشعر أن ابنها هو كل عالمها فتغالي في الاهتمام بأمره وعنايتها
بشخصه وتغار عليه من كل نظرة، ولا ترضى منه ببعض اهتمامه.. أو بعض وقته وإنما
تريده كاملا لنفسها كل الوقت, ولما كان انصراف مشاعره إلى امرأة أخرى وزواجه منها
سوف يتعارض بالضرورة مع هذه الرغبة المتوحشة في الانفراد به دون العالمين فلابد
إذن من أن تسعى ولو بالحيلة إلى تدمير كل علاقة عاطفية جادة له مع أية فتاة.. وكل
شروع للارتباط النهائي بها.. وفي سبيل ذلك قد تستعين بالحيلة والدهاء والابتزاز
النفسي والعاطفي للابن لتحقيق هدفها.
ومثل هذه الأم يري البروفسور كولز أنها تكون
عادة واسعة الحيلة وماهرة في التأثير على ابنها تأثيرا يفرق بينه وبين شريكته في
الحياة وكثيرا ما تلجأ إلى الكذب وتفسير الحقائق تفسيرا مغرضا وقد تصاب بسبب
الغيرة القاتلة التي تنهشها على ابنها ممن ارتبط أو يعتزم الارتباط بها, بأمراض شتى
فيجد الابن نفسه موزعا بين نارين: البر بأمه أو العدل مع شريكته, ولا عجب في مرضها
بهذه الأمراض الحقيقية لأن الخوف من فقد الابن في مفهومها بزواجه من أخرى .. يؤثر
بالفعل على جهازها العصبي وعلى جسمها .
وأنت يا صديقي الابن
الوحيد بالرغم من وجود شقيقات لك لأم وحيدة ربتك طفلا بعد ترملها وبالغت في
الاهتمام بأمرك حتى خيل إليها أن من حقها امتلاكك والاستئثار بك وحدها إلي آخر
أيام حياتها, وهي علاقة مركبة ومعقدة وتحمل من الأنانية وحب التملك أكثر مما تحمل
من الحب الحقيقي السليم الذي يسعد صاحبه بسعادة من يحبه وليس بحرمانه من السعادة
وحقه الطبيعي في الحياة وهي قد تمرض بالفعل.. أو تستدعي المرض بعقلها الباطن كلما
استشعرت خطر ضياعك من يدها.. كما أنها تبتزك عاطفيا بالتهديد بغضبها عليك إذا
أقدمت على خيانة حبها الأناني الزائف لك وتزوجت من أية فتاة.. وفي مجتمعاتنا
الشرقية فإننا نجفل عن حق من غضب الأمهات والآباء ونخشى معه غضب السماء علينا
ونتوقع له أوخم العواقب علي حياتنا.. وكل ذلك صحيح لكن الدين يقول لنا في نفس الوقت
أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.. وإصرار والدتك علي حرمانك من حقك العادل في
الزواج واعفاف نفسك يعطل سنة الله في خلقه وقد يوردك إذا استمر الحال علي ما هو
عليه موارد الرذيلة. إذن فلا طاعة لها في معصية ربك.. ولا خوف عليك من غضبها عند
رب العالمين لأنه إنما يتقبل الله من المتقين, وليس من المخالفين لشرعه والمعطلين
لسنته والحاثين من حيث لا يدرون على الرذيلة.
فأبحث لنفسك عن فتاة محاربة مناضلة قوية الشكيمة
لديها الاستعداد لأن تتحمل الحرب الضارية التي شنتها عليها أمك في البداية..
والمؤامرات التي سوف تحيك خيوطها ضدها وتحاول بها إظهارها أمامك في أسوأ صورة..
وتحمل أنت نوبات مرضها الاحتجاجي على زواجك, إلي أن ينطفيء لهب الغيرة رويدا رويدا
في قلبها وتسلم بالأمر الواقع فتتقبل حقيقة أنك إلى جوار كونك ابنها المحبوب, فأنت
أيضا شاب له احتياجات نفسية وعاطفية لا تلبيها له إلا زوجة.. بغير أن ينتقص ذلك من
قدر أمه لديه ولا من حبه لها أو دورها في حياته.. فأما نصيحة الطبيب النفسي لك ما
لا تعارض في زواجها إذا رغبت في الزواج فأنني أؤيده فيها خاصة مع ما أشرت إليه في
رسالتك وحذفته منها عند النشر.. كما أنه ليس من المستبعد أن تفكر هي في هذه الخطوة
كعمل انتقامي لخيانتك لها بالزواج.. لكن تصوري أنها لن تمضي في الشوط إلى نهايته
وأنها سوف تكتفي بالتهديد به كمحاولة يائسة وأخيرة لمنعك من الزواج والأمر لله من
قبل ومن بعد في بعض أحوال النفس البشرية المتشابكة التي تستعصي أحيانا علي الفهم
والإدراك.
رابط رسالة الخروج من الشرنقة لكاتب الرسالة بعد 4 سنوات
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر