تحية المساء .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2000

 تحية المساء .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2000

تحية المساء .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2000


 إنالغاية الشريفة ينبغي ألا يتخذ الإنسان للوصول إليها سوى الوسائل الشريفة وإلا أساء إلى نبل مقصده وإلى نفسه وإلى الآخرين .. عملا بقول الزعيم الهندى الروحي المهاتما غاندي :"لا تسلك إلى الهدف السليم إلا الطريق السليم".

عبد الوهاب مطاوع


أنا سيدة ابلغ من العمر 34 عاما..ولي قصة أريد أن أرويها لك وأن تُشاركني فيها ..فأنا أقرأ بريد الجمعة منذ أكثر من 10 سنوات .. وكثيراً ما فكرت في الكتابة إليك في مواقف عصيبة عديدة شهدتها حياتي .. إلى أن جاءت الآن اللحظة المناسبة .. ولأبدأ من البداية فأٌقول لك إنني نشأت بين أبوين طيبين وشقيق يكبرني بعامين ..أما أبي فإنه رجل جاد في حياته ..وشغل مناصب قيادية ويمزج بين الشدة والحنان في تعامله مع أفراد أسرته , وأما أمي فربة بيت جامعية تؤمن بزوجها في كل شيء ولا ترى رأياً مخالفاً لرأيه وقد تفرغت لأسرتها منذ ارتبطت بأبي ..ونعم الاثنان معاً بحياة زوجية موفقة .

 

وفي بداية مرحلة الدراسة الجامعية ..خفق قلبي لأول مرة لشاب من أبناء الجيران وارتبطت به عاطفياً ..وعانيت مرارة الإحساس بالذنب تجاه أبي وأمي لخيانتي لثقتهما فيّ , وأردت أن أتخلص من هذه المعاناة بعد تعمق الحب في نفسي فصارحت أمي بتعاهدي مع هذا الشاب على الزواج عقب التخرج , وطلبت منها أن تمهد لي عند أبي لكي يقبل بقراءة الفاتحة بين أسرتي وأسرة هذا الشاب ..لكي يصبح حبنا علنياً ومشروعاً ..فنتقابل تحت أعين أُسرتينا ..بدلاً من لقاءاتي المختلسة معه في الشوارع أو في بيوت الجيران المشتركين خلال زياراتي لصديقاتي بها .

ففوجئت بثورة أمي العارمة ضدي ورفضها القاطع لهذا الاختيار ..وتهديدها لي بفضح سري لدى أبي لكي يعاقبني عقاباً صارماً على فعلتي .. وانهرت وسألتها عن سبب هذه المعارضة الحادة فأجابتني بأن هذا الشاب وإن كان من أسرة طيبة إلا أنه من فرعها الفقير ولا يملك شيئاً ويعيش مع أمه على معاش أبيه ولن يستطيع حتى ولو انتظرته 10 سنوات كاملة أن يدبر إمكانات الزواج , وبكيت لأمي كثيراً ورجوتها أن تقف بجانبي بدلاً من أن تستعدي عليّ أبي , وصارحتها بأنني أحبه منذ سن السابعة عشرة وأنه متدين ومستقيم وطيب ويتحمل مسئوليته عن أمه ويعمل في الأجازة الصيفية ليوفر مصاريف دراسته .. وأنه ليس ذنبه أن أباه قد مات وهو في الخامسة عشرة ولم يعد له نصير في الحياة ..ولسوف يكافح ويسافر بمجرد تخرجه بعد شهور للعمل في الخارج ويبني مستقبله .. إلخ ..فلم يؤثر استعطافي لها شيئاً .

 

وتصاعدت الأمور بعد ذلك سريعاً وفوجئت بأبي الذي لم يضربني ذات يوم , ينهال عليّ بالضرب المبرح ويمنعني من الذهاب للجامعة بل ويأتي بنجار ليغلق نافذة غرفة نومي التي تطل على مسكن الشاب , ولم يكتف بذلك وإنما هدده بالضرب والإيذاء إذا لم يكف عن محاولة الاتصال بي ..

وبعد أيام سمح لي أبي بالخروج للجامعة ..وأنا خائفة ..والتقيت بهذا الشاب ..فصارحني بأنه مازال يتمسك بي ويعرف أنه لن تكون له حياة مع أي فتاة أخرى سواي ,لكنه لا يريد لي الأذى ولهذا فإنه سوف يقطع كل صلة له بي حرصاً عليّ , وسيظل في نفس الوقت مقيماً على حبي وسيظل نظره معلقاً دائماً بالنافذة المغلقة ليشعر بأنه معي في كل وقت ..وبكى في الشارع وهو يقول لي أنه يعذر أبي في هياجه عليه إذ ما يملك شاب يتيم فقير مثله لكي يقدمه لابنته ؟

وبكيت معه ..وأقسمت له أنه لن يمسني بشر سواه , وأنني سأظل أنتظره إلى أن يتغلب على ظروفه ويتقدم لي ولو بعد 10 سنوات , ورفضت كل محاولاته لإعفائي من هذا العهد ..وافترقنا وأنا أذكّره بعهدي له ..وأطلب منه أن يراقب نافذة غرفتي كل ليلة لكي يتلقى مني تحية المساء ..وهي إطفاء نورها وإضاءته ثلاث مرات متتالية .

 

وعدت إلى حياتي بعد ذلك وكففت تماماً عن الإشارة لموضوع هذا الفتى مع أمي واكتفيت بتسقط أخباره عن طريق صديقاتي من بنات الجيران حيث يزور إخوتهم ..ويعرفنه جميعاً ويحترمنه ..وواظبت على تحية المساء كل ليلة في موعدها .

وفي عامي الجامعي الأخير تقدم لي شاب ممتاز من أقارب أمي فرفضته بلا تفكير ..ورفضت مجرد الحديث في موضوعه , وثارت أمي عليّ واتهمتني بأنني مازلت على صلة بجارنا الشاب ..وأبلغت أبي بشكوكها فهاج من جديد وانهال عليّ ضرباً وركلاً حتى أُصبت بالإغماء ..وتوجه إلى بيت هذا الشاب وانهال عليه وعلى أمه سباً ولعناً وتمادى لأكثر من ذلك فصفعه صفعةً مدويةً أمام أمه ..وصرخت الأم باكية فهدّأ ابنها من روعها ولم يفقد أعصابه ولم يزده عن أن قال لأبي أنه يظلمه وإن الله سبحانه وتعالى يعلم أنه مظلوم ولهذا فهو يفوّض أمره إليه وحسبه الله ونعم الوكيل , كما أنه لن يخرج على حدود الأدب معه حتى ولو خلع حذاءه وضربه , فبُهت أبي وانصرف مضطرباً وروى لأمي كما عرفت فيما بعد ما حدث وقال لها إنه يشعر بالخوف من نظرة القهر والغلب في عين هذا الشاب بعد أن ضربه ..فانعقد لسانه وهرول خارجاً من مسكنه وهو يُشفق على نفسه من أن تدعو أمه عليه بسوء ..وانتهت هذه الأزمة في النهاية برفضي للخطيب المرشح لي ..وبعد عام آخر تكررت القصة بنفس تفاصيلها ورفضت خطيباً آخر بإصرار دون إبداء أية أسباب , وهاجت أمي وأبي من جديد وكررا نفس الاتهام لي بأنني مازت على علاقة بجاري الشاب ..وانهال أبي عليّ مرة أخرى ركلاً وصفعاً , وبالرغم من ندمه على ما فعل مع هذا الشاب في الأزمة السابقة فلقد كرر نفس المأساة وتوجه إلى بيته وانهال عليه وعلى أمه بالتهديد والوعيد ..وفقد السيطرة على نفسه مرة ثانية وصفع فتاي بقوة ..وهمّ بتكرار الصفع فأمسك الفتى بيده بقوة وقال له إنه قادر على الدفاع عن نفسه ورد الأذى بمثله لكنه لا يسمح لنفسه بذلك لأنه في مقام والده ..وإكراماً للجيرة التي لم يرعها هو ..إكراماً أيضاً لأنه والد الفتاة التي كان يتمنى من كل قلبه أن يتزوجها ..ورجع أبي من عنده واجماً ..وراح الفتى يكفكف دمع أمه وعيناه تدمعان حزناً وتأثراً .

 

وازددت إصراراً على موقفي .. وتخرجت في كليتي وعملت بمساعدة أبي في وظيفة إدارية في إحدى شركات الفنادق الكبرى ..ووجدت نفسي قد تخطيت الرابعة والعشرين وأعمل , ومن حقي أن أفكر في حياتي الخاصة ..فصارحت أمي بأنني لن أتزوج إلا من اختاره قلبي منذ سن السابعة عشرة وحرمت نفسي منه طوال السنوات الماضية التزاماً بوعدي لها ولأبي ..ورجوتها أن تستأذن أبي في استقبال جاري مع أسرته لطلب يدي ..خاصة وقد عمل بقرية سياحية بالغردقة ..وتحسنت ظروفه المادية بعض الشيء ..وأملت أن تكون الأعوام قد ألانت المواقف المتصلبة ..ففوجئت برفض أبي وإعلانه لي ولأمي أنه يفضل أن أصبح عانساً على أن يقبل زواجي من شاب تحدى إرادته !

وعبثاً حاولت إقناعه بأن أحداً منا لم يتحد إرادته وأننا قد قطعنا علاقتنا بالفعل منذ أكثر من 4 سنوات دون جدوى ! وضقت بهذا الموقف المتعنت ..فلجأت إلى عمي وطلبت منه أن يستضيفني عنده بعض الوقت ..وأن يتدخل بيني وبين أبي ..واستمع عمي إلى قصتي ووعدني بمحادثته ولكن بعد أن يلتقي بجاري أولاً ويتأكد من أخلاقياته وجديته , وزار عمي بيت جاري خلال إجازته الشهرية من عمله بالغردقة وجلس إليه وإلى أمه واستمع منهما لما فعله بهما والدي على مدى 3 سنوات وأكثر ..وتأثر بظروف هذا الشاب والتزامه الخلقي وبره بأمه وصبره على ما ناله من أبي ..ووعدني بمساندته والتقى بالفعل بأبي وصارحه بأنني أرغب هذا الشاب وأنه لا شيء يمنعني من الزواج منه ضد إرادته إلا رغبتي في ألا أخرج عن طاعته , وأنه من الحكمة أن يكون مرناً معي لكيلا يدفعني دفعاً لشق عصا الطاعة عليه , وزكّى فتاي عنده , وشاركه أخي الوحيد الذي كان قد حصل لتوّه على الماجستير في هذا المسعى وشهد لأخلاقياته واستقامته .

 

وبعد عذاب وعناء قبل أبي بزواجي من هذا الشاب قبول الكاره المضطر , وقيّد موافقته بأنه لن يجهزني للزواج ولن يشتري لي أي أثاث إلا بعد أن ينجح هذا الشاب في الحصول على شقة مستقلة عن مسكن أمه ..وأيدته أمي في موقفه المتحفظ بدعوى اختبار صدق نية فتاي تجاهي وأنه ليس طامعاً في مال أبي !

وتمت خطبتي له في أضيق الحدود وبحضور عمي فقط من أهل أبي , وبدا أبي خلال حفل الخطبة واجماً متحفظاً وكذلك أمي ..لكن فرحتي بالرغم من ذلك كانت طاغية .

وسعيت لدى مديري لنقل خطيبي من القرية السياحية التي يعمل بها في الغردقة إلى الشركة التي أعمل بها ..ووفقني الله في مسعاي بعد أن علم مديري بقصتنا القديمة وقابل خطيبي واقتنع به وبمؤهلاته .

ولم يسترح أبي لوجودنا في نفس المكان فطالب خطيبي بعقد القران على وجه السرعة ..وعقدنا قراننا في نفس الجو المتحفظ , وبعد القران بعدة أسابيع سألت نفسي عما يدعوني للانتظار أعواماً أخرى حتى يستطيع خطيبي توفير مسكن مستقل لنا , وفي مقدوري أن أُقيم معه في شقته القديمة وهي واسعة ومريحة وأمه سيدة طيبة وتحبني وتشفق عليّ مما تحملته من أجل ابنها ..واستأذنت أبي في ذلك على استحياء فقال لي في ضيق افعلي ما تشائين بنفسك ..فلقد يئست منك نهائياً !

 

وبالرغم من تصريحه لي بالانتقال إلى بيت زوجي إلا أنني كرهت كعادتي أن أفعل شيئاً لا يرضى عنه رضاءً تاماً ..وتمسكت بألا اخرج من بيتي إلا حين يأذن لي ذلك بنفس راضية , وحدثت أبي في الأمر ..فأعلن لي موافقته واشترى على وجه السرعة بعض الملابس والأدوات المنزلية ..وأدوات المطبخ ..والعطور ..إلخ ..كأنما قد عزّ عليه في اللحظة الأخيرة أن أُزفّ إلى عريسي بلا أي جهاز وكرر لي وعده بأن " حقي " محفوظ عنده وأنه سوف يؤثث لي المسكن الجديد حين نحصل عليه ..ولم أتمالك نفسي حين قال لي ذلك فارتميت على صدره وأنا أقبله وأشكره ودموعي تسيل وهو ينظر إليّ في حرج كأنما لا يصدق أنني مازلت أحبه بعد ما جرى بيننا , فقلت له وكيف لا أحبه بالرغم مما حدث وهو أبي ..وسندي وعزي ..ومرجعي الذي أرجع إليه في الملمات ولم يفعل ما فعل إلا حرصاً عليّ ؟

فدمّعت عيناه وأقسم ألا أنتقل إلى بيت زوجي إلا بعد حفل عشاء يقيمه لي في أحد الفنادق , وبعد أن أرتدي فستان الزفاف الأبيض ..ثم أعطى أمي مبلغاً من المال وطلب منها شراء فستان لي , وحدد يوم الخميس لحفل العشاء وارتداء فستان الزفاف , واجتمعنا 20 شخصاً في حفل عشاء بفندق كبير وارتدى خطيبي بدلته الجديدة ..وجلست إلى جواره ونحن نطير من السعادة , وفي آخر الليل توجهنا إلى مسكنه وبدأت حياتي الزوجية معه , ولن أطيل عليك أكثر من ذلك ..وإنما سأقول لك فقط إنني عشت ومازلت أعيش أجمل أيام حياتي مع زوجي الذي تحملت الضرب والإهانة من أجله ..وتحمل هو الإساءة والأذى من أجلي ولم تتغير مشاعر كل منا أو يفقد أمله في الآخر .

 

وعلى عكس كل ما قيل لي من تحذيرات طويلة من الحياة المشتركة مع والدة زوجي , فلقد وجدت معها راحتي وأماني ونعمت بعطفها عليّ وحبها لي وتقديرها لتمسكي بابنها ..فضلاً عن أنها سيدة طيبة وحكيمة ولا تتدخل فيما لا يعنيها وتراعي دائماً خصوصياتي .

ولقد أنجبت بعد حوالي عامين من زوجي طفلاً جميلاً لم يتردد زوجي في موافقتي على تسميته باسم أبي , وأنجبت بعد عامين آخرين طفلة رحبت بشدة بتسميتها على اسم والدته ..التي تحملت معظم عبء رعاية الوليد عني ..وأضافت رعاية المولودة الجديدة إلى مسئوليتها .

والحمد لله على كل شيء ..فابني الآن في الثامنة من عمره وأخته في السادسة وهما متعة أبي الأولى في الحياة الآن ..كذلك أمي , أما زوجي الذي كان مرفوضاً منهما من قبل فلقد أصبح أقرب الناس إليهما خاصة بعد سفر أخي الوحيد للخارج للحصول على الدكتوراه منذ عامين , وهو الذي يلبي مطالبهما ويقضي مصالحهما , ويعاملهما بحب واحترام .

 

وأما الشقة القديمة التي تزوجنا فيها فلقد أقنعت زوجي بأن ما ندخره للحصول على مسكن جديد ..فإن ابني وبنتي أحق به ..لأنني أشعر بالراحة فيها فضلاً عن قربها من مسكن أسرتي الذي يتيح لي زيارة أبي وأمي كل يوم .

ولقد سمعت بحماس تأييد أبي لرأيي هذا بالرغم من موقفه السابق من مسألة الشقة ..وهكذا فقد جددنا الشقة القديمة ببعض مدخراتنا حتى أصبحت كالعروس ..وغطينا الأرض بالسيراميك وجددنا الحمامين ..وأعدنا طلاء الجدران ..فإذا بأبي يقول لي إنه يعتبر ما حدث تنفيذاً لشرطه السابق علينا لكي يؤثث لي مسكني ..وإذا به يشتري لي أثاث 4 غرف ممتازة , وكان يوماً سعيداً يوم وقفت سيارة نقل الموبيليات الكبيرة أمام بيتنا ..وراح الحمالون ينزلون جهاز العروس التي تزوجت قبل عدة سنوات ..ويأخذون بدلاً منه الأثاث المتهالك , وازددت حباً لأبي وأمي وسعادةّ بزوجي وولديّ .

أما عن زوجي فنحن متفاهمان في كل شيء ..والحب القديم الذي جمع بيننا منذ الصبا ازداد عمقاً ورسوخاً ..وكلما اختلفنا حول أي خلاف عابر تذكر كل منا ما صبر عليه من أذى وحرمان من أجل شريكه فيذوب الخلاف ..ويعود الصفاء ، ولقد كتبت لك رسالتي هذه بعد أن انتهت كل المشاكل لكي أقول لك إنني قد قرأت في بريدك عدة رسائل لفتيات تحدين أهلهن وتمسكن بشبان أجمع الأهل على أنهم لا يصلحون لفتيانهم وأن عيوبهم ظاهرة ولا تخفى على العيان فشققن عصا الطاعة عليهم وتزوجن منهم , ثم لم تمض سنوات حتى صُدمن في شخصيات أزواجهن الذين هجرن الأهل من أجلهم , وتجرعن كؤوس الشقاء معهم ..ولُمن أنفسهن أنهن لم يستمعن لنصيحة الأهل في الوقت المناسب بعد أن خفّت حدة العاطفة وظهرت المشاكل والشخصيات الحقيقية ..كما قرأت تعليقاتك على هذه الحالات بأن هذا ما يحدث بالفعل في حالات كثيرة من حالات الزواج التي تشق فيها الفتيات عصا الطاعة على آبائهن وأمهاتهن ويتزوجن على الرغم من إرادتهم لكي يضعنهم أمام الأمر الواقع , ويخلفن المرارة والأسى في نفوسهم تجاه بناتهم اللاتي أحبوهن وطلبوا لهن السعادة والأمان ..وأن من واجب الفتيات والأبناء إذا اختلفت وجهات نظرهم مع رأي الأهل فيمن يرغبون في الارتباط بهم ..ألا ييأسوا أبداً من الأمل في نيل رضا الأهل عن اختياراتهم في الحياة ..وألا يقصروا في طلب قبولهم لشركائهم في الحياة حتى ولو لم يكونوا على اقتناع كامل بهم لكي يبدأ الأبناء حياتهم الجديدة مسلحين برضا الأهل وتمنياتهم لهم بالتوفيق والسعادة .

 

والحق أنني أؤيدك في ذلك وأؤكد لك بأنني أشعر بأن كل ما أصابني من توفيق في حياتي الزوجية وفي عملي إنما يرجع إلى إصراري ألا أخرج على طاعة أبي وأمي , وألا أتزوج من فتاي إلا بعد قبولهما له حتى ولو لم يكونا مقتنعين اقتناعاً كاملاً به , كما يرجع أيضاً إلى صبري على أبي سنوات طويلة إلى أن لان موقفه من زوجي وقبل به ..ثم رضي عنه , إلى جانب دعائي المتصل إلى الله سبحانه وتعالى أن يجمع شملنا أنا وفتاي في حياة مشروعة يرضى عنها الله ورسوله ..وكذلك دعاء فتاي وصلاته وصومه ..وتكفيني سعادتي الآن وأنا أرى زوجي وهو يخاطب أبي " بيا عمي " عن حب حقيقي واحترام , وسعادتي بكلمات أبي وأمي عنه وكيف أن الأيام قد أثبتت لهما أن الأصل الطيب والأخلاق الكريمة وحسن المعاملة أهم من كل مال الدنيا ..

كما كتبت لك أيضاً لكي تشكر عني أمي وأبي عن كل ما قدماه ويقدمانه لي حتى اليوم من حب ومساندة , واحترام لزوجي ووالدته .. وأرجو أن تتمسك برأيك دائماً في عدم تفضيل خروج الأبناء على طاعة الأهل ..والإصرار على أن يكافحوا للنهاية لنيل رضاهم ومباركتهم لاختياراتهم في الحياة كما فعلت أنا ..والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

 

كان الإمام ابن حزم الأندلسي يقول: "أسرع الأشياء نمواً أسرعها فناءً، و أبطئها حدوثا أبطئها نفادا وما دخل عسيرا لم يخرج يسيراً " !

وكان الكاتب الانجليزي الثائر توماس مان يقول : " إن ما نحصل عليه بثمن رخيص قد ننظر إليه بغير اهتمام كبير , أما ما نحصل عليه بالثمن الغالي فهو دائماً ما يستحق منا الاهتمام والتكريم " .

ولهذا فلا عجب يا سيدتي في أن تقبضي أنت وزوجك على الجمر لكي تحفظا عليكما سعادتكما وحبكما بعد أن كافحتما كفاحاً مريراً لتتويجه بالزواج وقبول الأهل ..وراحة الضمير لعدم خروجكما على طاعة الأبوين بالرغم من طول الصبر والانتظار .

والحق أنني أتفق معك تماماً في أن أحد أسباب توفيقك في حياتك الزوجية والعملية هو إصرارك على ألا تشقي عصا الطاعة على أبيك وألا تتزوجي ممن اختاره قلبك على غير إرادته ..بالرغم من طول الصبر وبالرغم أيضاً من إتاحة مثل هذا الاختيار أمامك خلال سنوات الانتظار .. فلا شك في أن السعادة التي يحققها المرء لنفسه علي حساب تعاسة أقرب الناس إليه و إيلامهم نفسيا و تمرده عليهم تكون دائما سعادة منقوصة، أو سعادة يكدرها إحساس أصحاب الضمائر بالذنب تجاه أعزائهم، و كثيرا ما تصطدم مثل هذه السعادة الناقصة بسوء التوفيق في الحياة، و يجهد المرء نفسه لكي يحاول فهم أسبابه فلا يقوده تفكيره غالبا إلا أنه محروم من مباركة الأهل لحياته و تمنياتهم الطيبة له.

 

على أني قد أُضيف إلى أسباب توفيقك في حياتك العائلية إلى جانب اعتصامك بالصبر إلى أن تنالي رضا أبويك عن اختيارك لشريك الحياة , سبباً آخر هو أن هذا الاختيار من الأصل لم يكن اختياراً متعارضاً مع أحكام العقل أو الدين , وإنما توافقت فيه أحكام القلب مع أحكام العقل , فالفتى لم يكن يعيبه في نظر أبويك سوى قلة إمكاناته المادية وظروفه الإنسانية كشاب يتيم لا سند له في الحياة , في حين تتوافر فيه على الجانب الآخر كل المؤهلات الأخرى التي ترشح الحياة المشتركة معه للنجاح والتوفيق من طيب العنصر وكرم الأخلاق والاستقامة الشخصية والتدين وحسن المعاملة , والقدرة على ضبط النفس والالتزام بالسلوك المهذب في أشد لحظات الانفعال ..ولقد تجلت فضائله هذه حين اعتدى عليه والدك أكثر من مرة , فكيف لا ترشحه هذه المؤهلات الأخلاقية إلى جانب حب كل منكما للآخر للسعادة والتوفيق معك ؟

 

لقد أعجبني في قصتك إصرارك الذي لم يضعف على ألا ترتبطي بفتاك إلا عن رضا من الأهل على اختيارك لحياتك ولو طال بك الصبر والانتظار سنوات وسنوات .

فكأنما كنتِ تعملين بنصيحة العقلاء في كل زمان ومكان ..والتي عبّر عنها زعيم الهند الروحي المهاتما غاندي بقوله :

" لا تسلك إلى الهدف السليم إلا الطريق السليم " . ولا غرابة في ذلك , لأن الغاية الشريفة ينبغي ألا يتخذ الإنسان للوصول إليها سوى الوسائل الشريفة وإلا أساء إلى نبل مقصده وإلى نفسه وإلى الآخرين .

 

كما أعجبني في قصتك أيضاً أن والدك قد غلّب في النهاية نداء الحكمة على نداء العناد وصلابة الرأي , فسلّم باختيارك بغير أن يدفعك دفعاً إلى شق عصا الطاعة عليه , وإن كان هذا التسليم قد تأخر طويلاً حتى عتبتُ عليه إيذاءه البدني لك أكثر من مرة , وعتبت عليه أكثر تهوره على فتاك الشاب الوحيد اليتيم المغلوب على أمره حتى ليمد إليه يده بالأذى ..فلا يفقد الآخر سيطرته على نفسه ولا يرد عليه الأذى بالمثل , غير أنه لا لوم ولا عتاب الآن وقد تغيرت المواقف ..وكلل الحب الشريف بالزواج الموفق , وانتصر الحب الأبوي آخر الأمر في قلب أبيك على عناده وتهوره السابقين وتكشف في النهاية عن أب يحرص على سعادة ابنته ويفيض قلبه بالحب والعطف عليها , وعن رجل يحترم كلمته لها فيفي لها بوعده الذي قطعه على نفسه ويؤدي إليها جهازها بعد سنوات من الزواج والإنجاب , ويسعد بسعادتها ويحنو على طفليها ويرى فيهما امتداداً له ويمحو من نفسه كل آثار المرارة السابقة تجاه زوجها ويعتبره ابنا ثانياً له ويبادله الابن الجديد حباً بحب واعتزازاً باعتزاز .

 

أما دعاؤك إلى ربك أن يجمع الله بينك وبين من أحببت في حياة مشروعة يرضى عنها الله سبحانه وتعالى ورسوله , فلقد استجاب له ربك وأنعم عليك برفقة من تحبين والتوفيق معه وإنجاب الذرية الصالحة منه , ورضا الأبوين عنك ومباركهما لحياتك وسعادتك وكيف لا يستجيب الله جل وعلا لدعاء القلوب المخلصة كقلبك ..وقلب فتاك وهو من قال عنه الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الشريف ما معناه : " من لم يسأل الله يغضب عليه " حتى لقد كان أحد الصالحين يردد دائماً في دعائه : " يا من تغضب على من لا يسألك لا تمنع عني ما قد سألتك " !

فهنيئاً لك يا سيدتي سعادتك وسلامك النفسي ورضاء أبويك عنك , وتذكري دائماً أن ما نحصل عليه بالعناء وبالثمن الغالي من أيامنا وليالينا ينبغي لنا دائماً أن نتمسك به ونذود عنه عوادي الأيام وتقلبات الأهواء ..وشكراً لك على رسالتك الجميلة .

رابط رسالة ثمن الاختيار تعقيبا على هذه الرسالة

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2000

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات