القرار الحكيم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

القرار الحكيم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

القرار الحكيم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993

 

أنا سيدة في التاسعة والثلاثين من عمري نشأت يتمية الأبوين منذ طفولتي فذقت مرارة اليتم والاحساس بالوحدة مع شقيقين رحل عنهما أبواهما وأكبرهما لم يبلغ بعد سن الشباب .. وقد واصلت تعليمي حتى تخرجت في إحدي الكليات الجامعية .. ثم جاءني فتى الأحلام الذي تنتظره كل فتاة يطلب يدي من شقيقي الأكبر بغير سابق معرفة سوى أن رآني وسمع عني ماحببه في التقدم إلي .. وكان العريس شابا يشغل وظيفة مرموقة ويقيم في محافظة أخرى غير التي أعيش في إحدى مدنها , فتحرى عنه شقيقاي وجاءت التحريات في صالحه , وتم الزواج وانتقلت من بيت أسرتي إلى بيت الزوجية الجديد في مدينته فوجدت نفسي أنتقل من وحدة سابقة إلى "غربة" جديدة في مدينة لا أعرف فيها أحدا , ووضعت كل أملي في أن يعوضني زوجي عن وحدتي ويتمي وافتقادي للأهل .

ومضت الشهور الأولى طيبة هادئة وحملت وأنجبت أول أطفالي فلم تمض فترة قصيرة حتى بدأت أسمع عن خيانات زوجي المتكررة لي فتكدر صفو حياتي وبكيت كثيرا .. ورجوته ألا يخذلني بعد أن أصبح أبا لطفلي , وكل أهلي في مدينته التي لا أهل ولا أقارب لي فيها , فلم يتغير شئ من سلوكه وتكررت الخيانات واستمرت وأنجبت طفلين آخرين وهو ماض في طريقه العابث الذي اختاره لنفسه .. ولا يتستر بما يفعل .. وكلما نصحته وتوسلت إليه أن يرعى الله في وفي أولاده وألا يحرق قلبي ويطعنني في كرامتي ومشاعري كإمرأة وزوجة بما يفعل .. يتحداني ولا ينفي ما سمعت .. ولا يعتذر ولا حتى يعدني بأن يكف عما يفعل , فانهار باكية وتظلم الحياة أمامي .. وأتساءل ماذا أفعل .. ولمن ألجأ وقد باعدت المسافة بيني وبين شقيقيّ وانشغلا عني بحياتهما وأولادهما .. ولم يعد أمامي إلا الصبر والتحمل وتكتم فضائح زوجي حتى لا يعلم بها أشقاؤه .. فالتزمت الصمت ولم أشك منه لأمه التي كانت تحبني رحمها الله ولا لأشقائه , وتعلقت بالأمل في أن تنزل به هداية الله ويرعى حقوقي كزوجة وأم وحافظت على وفائي له ورعيت ربي في بيتي وأولادي , وساعدته بمالي الذي ورثته عن أبي وبإيراد قطعة الأرض التي أملكها حين أراد أن يزيد دخله ويقيم مشروعا تجاريا إلى جانب وظيفته , فقدمت له كل ما أملكه من نقود وذهب .. فبدده خلال سنوات قليلة في مشروعات خاسرة , وفي انشغاله عنها بعلاقاته الآثمة .. كأن الله سبحانه وتعالى قد حرمه من التوفيق في كل مشروعاته عقابا له على خياناته وآثامه .. ومع ذلك فلقد استمرت الحياة بيننا وانطويت على أحزاني ووجهت كل اهتمامي لأطفالي وحاولت أن أتعزى بهم عن كرامتي الجريحة ومعاناتي مع زوجي.

 

 وواصل زوجي حياته كما أرادها لنفسه غير عابئ بي ولا بمشاعري .. ثم ركب سيارته ذات يوم متوجها إلى مشروعه الخاسر فتعرض لحادث تصادم بشع , ولم تنجح محاولات انقاذه , ومات وتركني وراءه أرملة في السادسة والثلاثين من عمري أرعى ثلاثة أطفال صغار وبعد زواج دام 11 عاما فقط , وكانت ذكرياته التعيسة أكثر من ذكرياته الهانئة . واهتززت أمام الصدمة المفاجئة , ثم استسلمت لأقداري بعد أسابيع وحاولت أن استجمع ارادتي لمواصلة المشوار مع أطفالي الذين تمنيت لهم رغم كل متاعبي مع زوجي ألا يعرفوا اليتم كما عرفته .. وتصورت أنني سأستطيع بقدر من الصبر والتماسك أن أواجه الحياة بعد رحيل زوجي بمعاشه وبإيراد قطعة الأرض التي أملكها .. وبحصيلة تصفية مشروع زوجي الذي وضعت فيه كل مدخراتي , وسوف يتبقي منه قدر لا بأس به من المال أضعة لأولادي في البنك واستعين بعائده على مطالبهم .. فلم تمض أيام حتى تفتحت أمامي أبواب الجحيم من كل جانب , فلقد كنت أتصور أن زوجي قد تركني وراءه أرملة جريحة المشاعر والكرامة فقط , فإذا بي أصدم بأنه قد تركني أيضا وسط بحر من الديون ومطالبات الدائنين .. واستدعاءات النيابة التي لم أدخل بابها من قبل .. وانهرت وأنا أرى المستقبل يزداد ظلاما في عيني , وبعت السيارة والأرض وكل ما ورثته عن أبي .. ولم تنته الديون التي لا أعرف عنها شيئا ولم يشر إليها زوجي معي من قبل .. ولم يبق إلا معاشه الذي لم ينج أيضا من اقتطاع جزء منه لتسديد الديون .

ومضت الأيام ثقيلة خائفة , لا يطلع علي الصباح فيها إلا بمشكلة جديدة وهم جديد أبكي له حتى تجف دموعي .. ثم أفكر كيف أواجهه وزادت وحدتي مع أطفالي الصغار بعد أن انشغل عني شقيقاي بحياتهما .. وانقطع أشقاء زوجي عن السؤال عن أطفالي وهم من كانوا يزوروننا في حياة شقيقهم , لأن زوجاتهم سامحهن الله يخشين عليهم مني مع أني لم أسئ لأحد منهم .. ولست بخاطفة أزواج وهيهات أن أكون كذلك وأنا التي ذقت المر من مثيلاتهن .. وأحرقن كبدي في حياة زوجي , ويحترق قلبي وأنا أرى الآن بعضا من عبث زوجي معهن وهن ناعمات لاهيات بلا مشاكل مادية ولا معاناة مع أزواجهن بعد أن أفسدن أيامي بالعذاب والألم , وأعاني كل يوم من المشاكل والهموم .

لقد مضت الآن ثلاث سنوات على وفاة زوجي , وتزايدت المشاكل حولي .. وأصبح لا يمر علي يوم بدون أن أبكي لفترة طويلة .. وكلما ضاق صدري بما أعانيه من مشاكل ومتاعب تسيطر علي فكرة غريبة تشغلني ليل نهار .. هى أني أعاني من رغبة قوية في أن أنتقم من زوجي الخائن جزاء ما صنع بي في حياته وبعد رحيله .. ولم يترك لي إلا الديون والمشاكل وذكرى الخيانة السوداء .

إنني أكاد أجن حتى أنني في أوقات كثيرة أتمنى لو ذهبت إلى قبره وأخرجته منه وقطعته بالسكين قطعة قطعة .. ففى صدري نار مما فعل بي .. ومما تركه لي من مشاكل بعد وفاته , وأريد أن أسأله لماذا ترك لي وحدي كل هذه المصائب والهموم .. ولم يترك لصديقاته سوى ذكريات المتعة الآثمة ؟!

إنني أفكر ليل نهار كيف أنتقم لنفسي من زوجي .. وأخيرا توصلت إلى أن أشفي غليلي منه بالانتقام منه في أولاده ! لقد قررت أن أطلعهم على حقيقة أبيهم .. وعلى خياناته وعبثه وسلوكه الشائن الذي جر علينا كل هذه الكوارث لكي يعرفوا أن كل ما نعانيه من مشاكل هو المسئول عنه .. ولكي يصبوا عليه لعناتهم كلما عجزت أمهم عن تلبية مطلب من مطالب حياتهم في المستقبل او انخفض مستوى معيشتهم عما كان يجب أن يعيشوا في مثل ظروفهم بما كان لي من أرض ونقود .

أريد أن أفعل ذلك من كل قلبي وأريد أن أحكي قصة 11 عاما من زواجي بأبيهم الذي كانت حياته معي كلها غشا وخداعا ولم يترك لي حبا أستعين به على تربية أولاده من بعده .. فما رأيك في هذا القرار ؟

جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com

 

ولــكـــاتـــبة هـــذه الرسالـــة أقـــول:

 

رأيي أنه قرار "صائب" جدا يا سيدتي .. ولكن بشرط أن تتأكدي بدقة من "الجهة" التي تريدين الانتقام منها .. هل هي زوجك الذي انتقل للعالم الآخر ولم يعد يضيره أو يفيده شئ في الدنيا .. أم هم أولادك الأبرياء الصغار الذين لا يزيد أكبرهم على العاشرة من عمره في تقديري ؟ .. فإذا كنت تريدين الانتقام من زوجك فلن يضيره انتقامك في شئ .. وليس هذا "جدلا" هو طريق الانتقام ! .. أما إذا كنت تريدين الانتقام من أبنائك فافعلي "على بركة الله " .. فهذا هو الطريق حقا الذي يحقق لك هدف الانتقام ! .. لأنك حين تطلعينهم على حقيقة أبيهم فسوف تحكمين عليهم جميعا بالتشوة النفسي وترشحينهم "لباقة" لا بأس بها من الأمراض النفسية التي قد تتطور في المستقبل إلى أمراض مستعصية .. "وتهدين" بذلك إلى نفسك أولا ثم إلى المجتمع أبناء مهيئين تماما للانحراف وللتنكر للأب والأم والعم والأخ ولكل القيم الدينية والأخلاقية العليا .. ولا عجب في ذلك إذ كيف يرعون حرمة أحد وقد اهتز مثال الأب بكل ما يحمله من قيم ومعان سامية في مخيلتهم منذ الصغر , ورضعوا من ثدي أمهم كراهية الأب والحقد على الموتى قبل الأحياء .. صافية ؟!

 

يا سيدتي أنت في حالة عصبية ونفسية قاسية .. بسبب وحدتك ومرارتك ومعاناتك مع مشاكل حياتك .. لهذا فإني ألتمس لك بعض العذر في هذا التفكير اللا إنساني المخالف لكل القيم والأعراف الصحيحة , والحق أنني لا أخذه مأخذ جديا لأنه لا يعدو انفجارا مؤقتا للسخط المكتوم حين تضيق النفوس بما تعاني , فإن كنت قد نشرت رسالتك رغم ذلك فلأنها تطلعنا على جانب جديد من أغوار النفس البشرية التي لا نهاية لغرائبها , يصور عمق المرارة التي تحسها الزوجة الطعينة في كرامتها ومشاعرها بالخيانات المتكررة وبالاصرار عليها والتحدي بها بلا احتشام أو تستر , إلى جانب معاناتها مع هموم الحياة التي خلفها وراءه زوج لم يرع حرمة زوجته وأولاده ورشحهم من بعده للشقاء .

أما ما أؤيدك فيه بحق فهو هذه العبارة الفريدة التي تقولين فيها "ولم يترك لي حبا استعين به على تربية أولاده من بعده " .. فهى عبارة بليغة وحكيمة فعلا , فالحب الصادق يعين المرء حقا على احتمال الحياة ومشاكلها في حياة شريك العمر وبعد رحيله .. ولا شك أنك لو كنت الآن تحملين لزوجك الراحل ذكرى جميلة لعشرتكما السابقة وحبا باقيا في الوجدان لأعانك ذلك نفسيا على مواجهة الصعاب والمشاكل التي ورثتها عنه .. ولوجدت فيه بعض العزاء مما تعانين من عناء .. ولأرضعت أبناءك حب أبيهم واحترام ذكراه .. وهذا على أية حال هو ما أنصحك بأن تفعليه مهما كانت تجربتك مع أبيهم تعيسة ومؤلمة .. ليس فقط صدوعا لتعاليم ديننا الذي ينهانا عن أن نذكر مساؤي الراحلين .. أو نحمل لهم حقدا وهم في رحاب ربهم العادل الذي لا تميل موازينه .. وإنما أيضا لأن ذلك سوف يحمي أبناءك من النتائج النفسية الوخيمة لكراهية الأب ويعينك على تنشئتهم تنشئة سوية تغرس فيهم القيم والمثاليات الصحيحة , فضلا عن أن أداءك لهذا الواجب الأخلاقي يحقق صالحك أنت  في المدى البعيد لأن الأبناء الذين لم تهتز قيمهم الدينية والخلقية هم الذين سيرعون حقوقك في المستقبل ويعوضونك عما لاقيت من عناء في تربيتهم .. كما أنك من ناحية أخرى تحتاجين إلى أن تطهري قلبك من الحقد على زوجك الراحل والتفكير في الانتقام منه , لكي ينجو جهازك العصبي من الآثار الضارة لمعايشة هذه الاحاسيس المدمرة .. فاحساس الحقد والرغبة في الانتقام سوف يستهلك من طاقتك النفسية ما أنت في أشد الحاجة إليه لكي تحشديه لمواجهة مشاكلك والتغلب عليها . وخير وسيلة "للانتقام" ممن أساءوا إلينا سواء رحلوا عن الحياة أم بقوا هو أن نبخل عليهم بلحظة واحدة من سلامنا النفسي نبددها في التفكير فيهم أو الرغبة في الانتقام منهم , وأن نتوجه نحن بكل طاقاتنا إلى تحقيق أهدافنا في الحياة , فيكيدون هم لنا كيدا بما فعلوا , ونكيد نحن لهم كيدا أشد بالانصراف عنهم إلى تحقيق أهدافنا وتقدمنا في الحياة وهذا هو عقابهم الحقيقي الذي يستحقونه منا .. أن ندعهم لأحقادهم تنهش قلوبهم وندخر نحن طاقتنا النفسية والصحية لما يحقق لنا السعادة والأمان والاطمئنان , ولن يضيع حقنا هدرا في الأرض أو في السماء وسوف تتولى عنا العدالة الالهية مهمة الانتقام لنا منهم بأشد مما نستطيعه أو نقدر عليه .. فإن كانوا في دار البقاء فحسابهم مع ربهم المنتقم الجبار , وإن كانوا بين الأحياء فلابد أن يصطدموا ذات يوم قريب بمن هو أشد منهم ظلما وعدوانا , فيتحقق ما يقوله لنا الامام مالك بن أنس من أنه "قد ينتقم الله من ظالم بظالم ثم ينتقم من كليهما" .. فإن لم نر ثأر الله فيهم في الدنيا , ففي السماء موعدهم وما كانوا يأفكون .. وفي هذا الشأن فإنه يعجبني كثيرا موقف الفيلسوف الألماني نيتشه حين يقول "ليس بين الأحياء ولا بين الأموات من أكون على غير وفاق معه " .. بمعني أن نعتبر من يسيئون إلينا ويظلموننا وكأنهم ليسوا من الأحياء ولا من الأموات وكأنهم ذرة من ذرات الفضاء الواسع السحيق التي لا ندري بها ولا نفكر فيها بالخير أو بالشر .. فاعيني نفسك يا سيدتي على تحمل مسئولياتك باعفاء صحتك وأعصابك وحالتك النفسية من هذه الأفكار السوداء , وسوف تصمدين لكل متاعبك وتتغلبين عليها بعون من ربك وبأمل لا يخيب في عدالته وحسن جزائه للصابرين .. وشكرا لك.

 

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" أكتوبر 1993

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات