ثمن الاختيار .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2000

 ثمن الاختيار .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2000

ثمن الاختيار .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2000

 

إننا لا نتعامل مع الأبوين بمبدأ المعاملة بالمثل الذى قد نتعامل به فى الحياة مع الغرباء، وإنما نتعامل معهم بما أمرنا به الله سبحانه وتعالى من إحسان صحبتهما والرفق بهما.

عبد الوهاب مطاوع


أكتب إليك بعد أن قرأت رسالة تحية المساء للسيدة الشابة التي روت قصة زواجها عن من أحبته منذ كان عمرها‏ 17‏ عاما‏..‏ ورفضه والدها بعنف، واعتدى عليه بالضرب مرتين وعلى ابنته أكثر من مرة‏،‏ فلم تتنازل عن حبها‏..‏ وأصرت على ألا تخرج على طاعة أبيها وألا تتزوج من فتاها إلا برضا أبويها ولو طال بها الانتظار إلى مالا نهاية حتى لان الأب في النهاية وقبل بمن اختارته بعد ست سنوات وسعدت بحياتها ونعمت بحب زوجها ورضا أبويها بالرغم من كل ما جرى ‏..‏
فلقد ذكرتني هذه الرسالة الممتعة بقصتي .. فأنا شاب في السابعة والثلاثين من العمر نشأت في احدى مدن الجنوب في أسرة متوسطة بين ثلاثة من الإخوة وفي كنف أب شديد القسوة في معاملة أبنائه ويطيع الجميع أوامره عن رضا أو رغما عنهم‏..‏ ولقد بدأت مشكلتي معه في سن مبكرة إذ كان لا يطيق أن يخالف أحد أبنائه أمرا له‏..‏ وكان من أوامره لنا أن نرجع من المدرسة للبيت مباشرة وألا نخرج منه بعد العودة أيا كان السبب، وكانت مشكلتي إنني أحب ممارسة الرياضة‏، فكنت أخرج من المدرسة إلى مركز الشباب في مدينتنا لممارسة بعض الألعاب‏، وأرجع إلى البيت فيكون عقابي الضرب الشديد المبرح والحرمان من المصروف‏ .. وفي بعض الأحيان الطرد فأذهب إلى بيت جدتي وأقيم فيه بضعة أيام وتستدعي جدتي ابنها أي والدي وتعاتبه على طرده لي فيسمح في النهاية بعودتي للبيت‏..‏ وتمضي حياتي هادئة بعض الوقت ثم لا يلبث نداء الرياضة أن يغلبني فتتكرر القصة بكل تفاصيلها من جديد وشيئا فشيئا وجدت نفسي منبوذا من أبي وأمي التي تتضامن معه في كل شيء سواء أكان على حق أم علي باطل‏ ..‏ ومنبوذا كذلك من إخوتي ربما لأنهم اعتبروني متمردا‏..‏ وربما لأنهم جاملوا أبي بالتضامن معه في نبذي‏..‏ المهم أن الأيام قد مضت بنا وأنا أشعر أنني القط الأسود الذي ينفر منه أفراد الأسرة لكنهم لا يحرمونه بالرغم من ذلك من قوت يومه الضروري‏!‏


وحصل شقيقاي على الثانوية العامة‏،‏ فجاء لهما أبي باستمارات مكتب التنسيق وكتب بنفسه الرغبات التي أرادها هو لابنيه وكانت في كليات محددة بالقاهرة لأنه كان يخطط لانتقال الأسرة كلها إليها بعد حصولي على الثانوية العامة خلال عامين‏..‏ وامتثل الابنان لرغبة الأب بحماس حقيقي أو ظاهري لا أعلم‏..‏ فاستأجر لهما شقة مناسبة في القاهرة وأغدق عليهما بالنقود والملابس والهدايا‏، وانتظما في دراستيهما وأصبحا نجمي الأسرة اللذين يعودان في الأجازات فيستقبلان بحفاوة كبيرة‏..‏ وتمد لهما الموائد الحافلة احتفالا بقدومهما‏..‏
وبعد عامين حصلت على الثانوية العامة‏..‏ وجاءني أبي باستمارة مكتب التنسيق وكتب فيها الرغبات التي رآها كالعادة وأخذتها منه لتقديمها للمكتب لكني تجاسرت على خطوة رهيبة هي تغيير هذه الرغبات بما يتفق مع ميولي الدراسية وقدمتها للمكتب دون أن يعلم بما فعلت‏..‏ وجاء ترشيحي لكلية جامعية في الجنوب فانفجر بركان الغضب من جانب أبي‏..‏ وحاول إثنائي عن رغبتي بكل وسيلة لكني تمسكت بها في أدب وإصرار في نفس الوقت‏..‏ فكانت النتيجة أن حرمني من الملابس والهدايا التي احضرها لإخوتي عند الالتحاق بالجامعة‏,‏ وتنبأ لي بالفشل المؤكد .. فلم اعترض على شيء ولم أهتم أيضا بما حرمت منه لأنه كان ثمنا متوقعا لاختياري أن أدرس ما أريد وليس ما يريده أبي لي‏.

 وأمضيت سنوات الدراسة متفوقا بالرغم من قلة ما كان أبي يرسله إلي من مصروف بالمقارنة بما يعطيه لأخوتي‏، وتخرجت في كليتي وأديت الخدمة  العسكرية بسلام وقام أبي بتوزيع بعض ماله على أخوتي ليشقوا طريقهم في الحياة فحصل أخي الأكبر على نصيبه وسافر للعمل بإحدى الدول العربية كما كان يحلم لنفسه‏، وحصل أخي الذي يليه على نصيبه وتزوج به وأقام مع زوجته بإحدى المحافظات حيث يعمل .‏.‏ وتزوجت أختي وأنفق أبي على زواجها بسخاء كبير‏..‏ ولم يبق سواي الذي لم يحصل على شيء ..وبدأت حياتي بالعمل في القطاع الخاص لكي ابني نفسي‏..‏ وبعد فترة من العمل اخترت شريكة حياتي من أسرة طيبة متوسطة الحال‏..‏ وفاتحت أبي برغبتي فاعترض عليها كالعادة‏،‏ وأرادني أن أتزوج من ابنة أخته‏، وتمسكت باختياري فكان قراره هو أن أتحمل وحدي تبعات ذلك وتحملت بالفعل تبعات اختياري كما تحملت دائما أقداري‏، وأثار شجوني أن صاحب العمل الذي أعمل معه كان أكثر حنانا بي من أبي في هذا الموقف الذي يحتاج فيه الشاب دائما إلى أبيه ومساندته له‏.


وتزوجت زواجا بسيطا لا يتناسب مع ظروف أبي العائلية والمادية‏..‏ وأقمت في شقة صغيرة في حي عشوائي وأثثتها بأثاث قليل ورخيص‏،‏ وسعدت بالرغم من ذلك بزوجتي وحياتي المتقشفة ولم أقصر في زيارة أبي وأمي وأداء واجبي تجاههما‏،‏ وبعد عام من الزواج أنجبنا طفلة جميلة‏..‏ وأهدى إلينا بعض الأهل والأصدقاء هدايا ذهبية صغيرة احتفاء بالمولودة‏..‏ وبعد شهور مرضت الطفلة بنزلة معوية حادة والتهاب رئوي‏،‏ ولم تسمح لي إمكاناتي المحدودة بالإنفاق على علاجها كما ينبغي فتوجهت إلى أبي وطلبت منه في حياء أن يساعدني في نفقات العلاج‏..‏ فرفض قائلا أنه ليس قادرا على المساعدة .. وشعرت بمرارة شديدة وخجل أشد ورجعت من عنده مكسور القلب‏..‏ فأخذت زوجتي والطفلة وتوجهت إلى مستشفى أبو الريش للأطفال‏..‏ وقلت لنفسي أنه لم تتسع لطفلتي رحمة أبي فلقد تتسع لها رحمة أطباء هذا المستشفى الجامعي‏..‏ وتم إدخال الطفلة للمستشفى على الفور لكن حالتها كانت متأخرة بسبب نقص العلاج في الفترة السابقة فتدهورت صحتها  سريعا وتوفيت إلى رحمة الله بالمستشفى‏.‏

 

وماتت أول فرحة لي ولزوجتي‏، وحزنت على هذه الطفلة البريئة وحزنت زوجتي حزنا مريرا مؤلما‏..‏ وبالرغم من ذلك لم انقطع عن أبي وأمي لكن الإحساس المؤلم بأن هذه الطفلة قد قتلت بسبب قلة النقود اللازمة للعلاج راح يقض علي مضجعي‏..‏ واستعنت بالصبر والصلاة والأمل في رحمة ارحم الراحمين‏..‏ وبعد عام آخر أنجبنا طفلا آخر خفف أحزاننا على الوليدة الراحلة‏، وفرحنا به كثيرا‏..‏ وبعد ولادته بشهور استدعيت للقوات المسلحة وكنت قد عينت في وظيفة حكومية‏..‏ ولم يكن معي مليما من النقود ما يكفي للسفر إلى حيث وحدتي العسكرية ولا ما أتركه لزوجتي خلال غيابي‏ ..‏ فتوجهت لأبي وطلبت منه قرضا صغيرا ترده إليه زوجتي أول الشهر حين تقبض مرتبي في غيابي‏ .. ومنحني القرض وأعطيت بعض النقود لزوجتي وسافرت إلى وحدتي وجاء أول الشهر وتسلمت زوجتي مرتبي وفي نفس اليوم أصيب المولود الجديد بنزلة معوية شديدة وخشيت زوجتي أن تتكرر مأساة الطفلة الأولى فحملت الطفل لتذهب به إلى الطبيب فإذا برسول من عند أبي يطلب منها سداد القرض الذي اقترضته منه على الفور فتوجهت بالطفل المريض إلى بيت أبي ودفعت الدين‏، واتجهت إلى المستشفى وفحص الأطباء الطفل ووصفوا له العلاج لكن النقود كانت قد تبخرت ولم يعد لديها ما تشتري به الدواء فتذكرت زوجتي الحلي الذهبية الصغيرة التي أهديت للطفلة الأولى والتي تحتفظ بها كذكري غالية لها‏..‏ فباعتها دامعة‏ لتنفق ثمنها على علاج طفلنا‏..‏ واستجاب الله لدعائها فشفي الطفل ونجا من الخطر ورجعت من الاستدعاء فروت لي ما حدث‏..‏ بكل تفاصيله فتندت عيناي بالدمع‏..‏ وتساءلت بيني وبين نفسي ولماذا يا أبي هذه القسوة معي وحدي من بين كل أخوتي‏..‏ وقبلت طفلي وشكرت ربي كثيرا أنه حماه مما كان يتهدده‏.


وواصلت حياتي وعملي راضيا‏..‏ وصابرا‏..‏ وفي كل حين أزور أبي وأمي وأرعى شئونهما وألبي طلباتهما‏..‏ ولا أعاتبهما في  شيء‏..‏ ووفقني الله بعد قليل للعمل في القطاع الخاص في الفترة المسائية بعد انتهاء عملي الحكومي‏..‏ فانتعشت أحوالي المادية بعض الشيء‏..‏ وبدأ جفاف حياتنا يترطب ببعض الخير‏،‏ فإذا بأبي يمرض مرضا شديدا ويصاب بنزيف من دوالي المريء وبالسكر والكبد‏..‏ وإذا بي أبدأ معه رحلة العلاج الطويلة بين المستشفيات وفي البيت وأقيم معه بالمستشفيات أياما كثيرة بين إجراء التحاليل‏، وبين الرعاية المركزة والعلاج وأنفق أبي على علاجه معظم مدخراته‏..‏ ولم يجد سواي إلى جواره اعتني به وألازمه في المستشفيات وزيارة الأطباء وفي البيت في حين اكتفى إخوتي بزيارات متباعدة وبالسؤال بالتليفون‏، ونتيجة لذلك فقدت عملي المسائي لعجزي عن ترك والدي‏..‏ ولم أحفل بذلك بالرغم من حاجتي إلى دخلي منه‏..‏ وتفرغت لأبي ونسيت كل ما كان من أمره معي‏..‏ وكيف لا أنسى وهو أبي سواء كان رحيما بي أو قاسيا علي.

 

 لقد توقفت في رسالة السيدة الشابة تحية المساء أمام المشهد الذي ارتمت فيه على صدر أبيها تقبله وتحتضنه وتشكره حين وافق في النهاية على زواجها ممن اختارته‏..‏ فبدت الدهشة على وجهه كأنه لا يصدق أن ابنته مازالت تحبه بالرغم من كل ما فعله بها ومعارضته لزواجها طوال ست سنوات‏..‏ وتذكرت أنني رأيت نفس هذه الدهشة المختلطة بالخجل على وجه أبي وأنا اخدمه في مرضه وأدعو له بالشفاء وأقول له إننا لا نساوي شيئا بدونه‏..‏ ولقد كنت صادقا فيما شعرت به وعبرت عنه‏..‏ وكان هو يشعر بشيء من الاستحياء مني‏، والحمد لله فإني لم أقصر في واجبي تجاهه ورحل عن الحياة وهو راض عني تماما‏، ولقد حزنت على وفاته كثيرا‏..‏ وشعرت لدهشتي بأنني قد أصبحت بلا سند في الحياة‏..‏ مع أنه لم يساعدني في حياتي.

 والمشكلة الآن هي أن زوجتي تطالبني بالسفر للعمل بالخارج لتحسين أحوالنا التي لم تتغير كثيرا‏، وتأتيني من حين لآخر بفرص العمل في الخارج عن طريق بعض أقاربها لكن والدتي قد أصبحت وحيدة الآن وليس إلى جوارها أحد من أبنائها سواي ولا يقوم بشئونها غيري وأخوتي كلهم بعيدون بالسفر للخارج أو إلى محافظة أخرى ‏..‏ وأنا في حيرة من أمري إذ أنني لو سافرت للخارج فلن يرعى أمي ولن يسأل عنها أحد‏..‏ وزوجتي تطالبني بأن أعمل ما في صالحي وصالح أسرتي كما يفعل أخوتي لمصلحتهم بالرغم من كل ما أعطاه لهم أبي وأمي دوني‏،‏ وتقول لي إنهم جميعا يعيشون حياة مريحة ومن حقي وحق أسرتي الصغيرة أن نتطلع لبعض الرخاء‏..‏ وأنا حائر بين إرضاء أمي وربي وبين حق زوجتي وأولادي في العيش الكريم بعد صبر طويل معي على حياة التقشف والجفاف‏..‏ فبماذا تشير علي خاصة أن زوجتي من قراء بابك وتقتنع بآرائك‏.‏

ولكاتب هذه الرسالة أقول‏:‏

لا عجب في أن تبر أباك وتقف إلى جواره في مرضه وضعفه وشيخوخته بالرغم من كل ما كان من أمره معك في السنوات الماضية فالشاعر العربي يقول‏:‏
أفعال كل امريء تنبيء بعنصره
والعين تغنيك عن أن تطلب الأثرا
كما إننا لا نتعامل مع الأبوين بمبدأ المعاملة بالمثل الذي قد نتعامل به في الحياة مع الغرباء‏,‏ وإنما نتعامل معهم بما أمرنا به الله سبحانه وتعالى من إحسان صحبتهما والرفق بهما لو جاهدانا علي أن نعبد غيره‏.‏
فإن كان في رسالتك ما يستحق التأمل أكثر فهو أن يكون أقل الأبناء نيلا لعطاء الأب ونهلا من نبع حنوه وحنانه هو أرفقهم به وبأمه وأكثرهم حرصا على أداء واجبه الديني والإنساني تجاههما‏..‏ غير انه لا عجب في ذلك مرة أخرى لأننا لا نعطي أبوينا على قدر المغنم منهما‏..‏ وإنما بقدر ما تمليه علينا فطرتنا السليمة ووجداننا الديني وضميرنا الأخلاقي‏.‏


ولا شك في أن والدك قد اخطأ في حقك خطأ جسيما حين حرمك من حقك المشروع في ماله‏..‏ ولم يسو بينك وبين إخوتك في العطاء‏,‏ وحين أشعرك بالنبذ طوال صباك ومطلع شبابك‏..‏ وأيضا حين رغب في فرض إرادته عليك في نوع الدراسة واختيار شريكة الحياة بغير أن يتيح لك أي مجال للمناقشة والاقتناع بما يراه هو من وجهة نظره خيرا لك‏..‏ فأما قبضة ليده عن مساعدتك حين كنت في أشد الحاجة إلى عونه لك لعلاج طفلتك الأولى ‏..‏ فليس مما يغتفر لأي أب بل لأي إنسان في الوجود قادر على العون في مثل هذه الظروف المؤلمة‏.‏
لقد أمرنا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه أن نعدل بين أبنائنا ولو في القبل‏..‏ وبأن نعين أبناءنا على البر بنا بالرفق بهم والعدل معهم   .. فبررت أنت بأبيك بالرغم من انه لم يعنك كثيرا على ذلك بالعدل معك‏,‏ ومن كان هذا شأنه مع أبيه الذي حرمه لا يستطيع في ظني ان يتخلي عن أمه الوحيدة التي يرعاها في شيخوختها ويقوم بكل شئونها لكي يجري وراء أمل غير مؤكد في العمل بالخارج‏.‏


ولا غرابة في ذلك ممن كان ابنا بارا بأبيه الذي قسا عليه لا يستطيع إلا أن يكون كذلك ابنا عطوفا رحيما بأمه التي لم تسهم في معاناته سوى بالعجز عن دفع الأذى عنه لضعفها أمام الأب القوي المسيطر‏.‏ وفي تقديري أن عروض العمل في الخارج لا تتزاحم عليك الآن بالصورة التي توحي بها كلمات زوجتك لك وإنما هو مجرد أمل أو حلم يراودها عند المقارنة بين حظك في الحياة وحظوظ أخوتك منها فيثير هذا الصراع الذي لا داعي له بين واجبك تجاه أمك وبين حقك في الحياة والعيش الكريم‏.‏
فلتعفك إذن زوجتك من صراع لا جدوى منه إلا سوى المعاناة وإيغار الصدور وإثارة المرارة في نفسك تجاه إخوتك الذين شاءت لهم أقدراهم أن يعملوا ويقيموا في أماكن بعيدة عن مقر إقامة الأم فإذا كانت أقدارك قد جعلت منك الابن الوحيد المقيم إلى جوار الأم في ضعفها ووحدتها فلأن السماء قد أرادت أن تهبك فضل رعاية الأم في شيخوختها لتضيف ذلك إلى سابق فضلك في رعاية الأب في مرضه وضعفه وتثقل بهما موازينك في الدنيا والآخرة‏.‏


وشمس الأم يا صديقي لا يطول إشراقها في السماء إلى ما لا نهاية‏، وهي إن غابت لن تشرق على الدنيا مرة ثانية للأسف‏.‏
أما فرص العمل في الخارج والداخل فإنها تذهب وتجيء ولقد يأسى المرء على فرصة ضاعت فيجيء اختيار الله بأفضل مما كان قد اختاره لنفسه وبكي على فواته‏,‏ ورعاية الأم الوحيدة في الدنيا جهاد يجزي الله عنه صاحبه مما يجزي به المجاهدين في سبيله‏..‏ فلقد وضع الرسول الكريم صلوات الله عليه وسلامه الجهاد عمن له أب شيخ أو أم عجوز لا يقويان على فراقه‏,‏ ورد من جاءه مجاهدا علي غير إرادة أبويه الشيخين قائلا له‏:‏ ففيهما فجاهد‏!‏
وأنت تستطيع أن تعمل لصالح أسرتك وصالحك كما تطالبك زوجتك بغير أن يتعارض ذلك مع حق أمك عليك إذا أتيح لك العمل المسائي الذي يزيد من دخلك‏,‏ أو إذا رجع أحد إخوتك للإقامة في القاهرة‏..‏ أو إذا كانت والدتك قادرة في النهاية علي رعاية نفسها واحتمال وحدتها وظروفها وأذنت هي لك بالسفر بنفس راضية وليس عن حرج أو تضحية‏.‏
فاختر لنفسك ما تراها جديرة به‏..‏ فلقد دفعت ثمنا غاليا لتمسكك بأن تختار حياتك بإرادتك الحرة وليس بإرادة أبيك فيما أراد اختياره لك من قبل‏.‏ ومن كان هذا حاله‏..‏ يعرف بالضرورة ان لكل اختيار تبعاته التي يقبل بها راضيا ويتحمل عناءها‏..‏
وما احسب إلا انك سوف تختار ألا تتخلي عن والدتك في ضعفها وشيخوختها وأن تنتظر جوائز السماء العادلة لك علي هذا الاختيار وعلي برك بأبيك وحسن مصاحبتك له من قبل‏.

رابط رسالة تحية المساء

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2000

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات