موقف الأتوبيس .. رسالة من بريد الجمعة عام 1993
أكتب رسالتي
هذه لأعلق على رسالة الرهينة، التي تحكي قصة الزوج الذي تمردت عليه زوجته بعد
عودتهما من أمريكا في أجازة، ورفضت العودة معه إلى المهجر، وفشلت كل الجهود
لإقناعها بذلك فخطف طفلهما الوحيد وعاد به إلى أمريكا حيث يعاني الطفل الآن من
الحرمان من أمه.. وتعاني أمه من حرمانها منه.
وفي البداية أريد
أن أقول لهذا الزوج أن ما فعل ليس الطريقة المناسبة لاسترداد زوجته وتصفية ما
بينهما من خلافات، وأن الأفضل هو أن يعيد الطفل الصغير لأمه ليكون ذلك بادرة طيبة
قد تعيد المياه إلى مجاريها بينهما وتساعدها على أن تراجع نفسها وتكتشف مكامن
الخطأ في علاقتها به.
وقصتي مثال لذلك أرويها لهذه الزوجة ولكل زوجة قد تتصرف ذات يوم كما فعلت، فأنا سيدة في التاسعة والعشرين من عمري، تعلمت في أرقى المدارس الأجنبية والتحقت بالجامعة الأمريكية لكني لم أكمل تعليمي بها لأني تزوجت وعمری ۲۰ عاما .. وقد تزوجت من رجل ممتاز في مشاعره وأحاسيسه وقوته ورجولته، وأيضا في إمكانياته المادية الكبيرة .. وحين تزوجته كان قد بدأ مشروعا سياحيا جديدا في مدينة بعيدة على شاطئ البحر الأحمر لم تكن معروفة جيدا وقتها، فلم أمض في مسكن الزوجية بالقاهرة سوى ليلة الزفاف ثم سافرت معه في اليوم التالي إلى هذه المدينة حيث عمله ومقر إقامته .. وبعد وصولنا إليها أمضى معي ثلاثة أيام أخرى كزوجين في شهر العسل لا يشغل احدهما عن الآخر شيء ثم تركني بعدها وتفرغ لعمله الجديد فشعرت بوحدة شديدة وافتقدت أهلي وأصدقائي، ولم أطق الصبر على وحدتي وانشغاله عني في هذه المدينة البعيدة طويلا وبدأت المشاكل بيننا.
واعترف لك
صادقة الآن إنني لم اقدر ظروف عمله ومتاعبه، وأنه حين كان يحاول أن يتحدث معي عن متاعبه
كما يفعل كل زوج، کنت لا اسمع له، وإنما أثور عليه واتهمه بأنه لا يقدر مشاعري، وبأنه
لا يصطحبني للنزهة وأنني لا أعيش حياتي كما تعيشها زوجات في مثل سني.. الخ، وأحلت
حياته بالفعل إلى جحيم وأصبحت استمتع استمتاعا غامضا عجيبا حين أراه وهو يكاد
ينفجر من الغيظ ويكتم غضبه، وقد كان دائما صبورا عطوفا معي .. وبعد أسابيع قليلة
من زواجنا طلبت منه أن يسمح لي بالعودة للقاهرة لزيارة أهلي فوافق بشرط أن أقيم في
شقة الزوجية ووافقته على ذلك وأنا أضمر في نفسي شيئا آخر، وعدت
للقاهرة
فأقمت في بيت أسرتي وصارحتهم بأني أريد الطلاق وأتمسك به، وتعجب أهلي لرغبتي هذه
وحاولوا معي بكل الطرق إقناعي بمزايا زوجي وبأن الحياة ليست نزهات مستمرة ولهوا
وخروجا فقط كما أتصور، وأن زوجي يحتاج إلى مساندتي له في مشروعه لكي يحقق نجاحه
ويستقر وبعد ذلك يسهل عليه أن يعطيني من وقته الكثير وأن نسافر معا إلى أي مكان،
لكني بغباء شدید اعترف به الآن، رفضت كل المحاولات وأصررت على الطلاق للنهاية، وفي
نيتي أن أرغم زوجي على الرضوخ لي والعودة للإقامة معي في القاهرة.. لأستطيع أن أحيا
الحياة التي احلم بها ورأيتها في الأفلام من سهر كل يوم وخروج وأماكن عامة وحياة اجتماعية
وزيارات عائلية إلخ.
وتمسكت بطلبي هذا حتى بعد علمی
بأنني حامل من زوجي وأن طفلا في عالم الغيب سوف يأتي إلى الدنيا بعد شهور، وحذرتني
أمي من أنني ألعب بالنار التي ستحرقني وأني أفعل ما أفعل من باب الدلع فقط لا غير،
وسأدفع ثمن ذلك غاليا، فلم استمع لها وحاول زوجي بكل الطرق إقناعي بالعدول عن
الفكرة دون جدوى، وضاقت بي أمي وقالت له أمامي: لا شك أنك تستحق من هي أفضل منها ألف
مرة.. فلا تحزن عليها وطلقها لتتعلم درسها بنفسها، وأيقن زوجي من تمسکي بطلبي
فطلقني.. ووصلتي ورقة الطلاق وأنا حامل في الشهر السادس وفرحت بها كأنها وثيقة عتقي
من الرقة وانتظم زوجي في إرسال مبلغ محترم لي أول كل شهر، ثم جاء موعد الولادة فتكفل
بكل نفقاتها وضاعف لي المبلغ الشهري بعدها.
ومضت أسابيع ثم ظهرت مشكلة
جديدة في حياتنا، فلقد أراد شقيقي أن يتزوج ويقيم في شقة الأسرة التي لا تتحمل
إقامته وزوجته مع أبي وأمي وأختي ومع إقامتي وطفلي الوليد بها، وعلم زوجي أو مطلقي
بالأمر فعرض علي أن أعود للإقامة في مسكن الزوجية الخالي بصفة مؤقتة لأنه يقيم
بصفة شبه دائمة في المدينة الساحلية، وقبلت ذلك مضطرة رغم معارضة والدي له، أما
أمي فلقد واصلت مقاطعتها التامة لي منذ يوم طلاقی، وواصلت معاملتها
الجافة لي.
وانتقلت
مع طفلي إلى مسكن الزوجية المنهار.. وأنا أتصور أني سأعود لأحيا حياتي كما كنت
أحياها قبل الزواج، ومرت الأسابيع والشهور فإذا بي اكتشف أني لم أعد كما كنت ولا
أستطيع.. فلا أنا فتاة فأعود لأصادق الفتيات وأجد سعادتي معهن، ولا أنا زوجة فأصادق
الزوجات واقترب منهن.
كما أن وضعي غريب فأنا أعيش في
مسکن مطلقي.. مع وجود شقة أهلي بالقرب مني وأحسست بوحدة موحشة قاتلة بين جدران
البيت الخالي ووجدت نفسي لأول مرة مسئولة عن بيت وطفل وعن نفسي، ولم أعش حياة
الأفلام التي حلمت بها.. فلا سهر.. ولا خروج كل يوم.. ولا نزهات ولا صديقات مرحات،
ولا شيء سوى الوحدة.. وبكاء الطفل وطعامه وأمراضه، وجفاء أمي، وانتقاد أبي
وإخوتي.. وإذا بالملكة المتوجة التي كنت أتصور نفسي فيها تنكشف عن مطلقة شابة معها
طفل رضيع تعيش وحيدة.. وتقف حائرة أمام أي مشكلة صغيرة من مشكلات الحياة اليومية
فتبحث عمن يحلها لها من إخوتها أو أهلها، وبدأت أراجع نفسي.. وأقارن تصرفاتي مع
زوجي أو مطلقي بتصرفاته معی، فأجدني للأسف نموذجا للرعونة والطيش والغباء والدلال
السخيف، في حين كان هو نموذجا للرجولة والأخلاق والتهذيب وعرفت بالتجربة المرة أن
إحساس المرأة بأنها متزوجة يحميها من شرور كثيرة وأهمها شرور نفسها هي.
واستغرقني هذا التفكير طويلا
حتى وجدتني أصحو ذات يوم من النوم والفجر لم يطلع بعد، ثم احمل طفلی وحقيبة صغيرة
واستقل سيارة أجرة إلى موقف الأتوبيس الذي يسافر إلى تلك المدينة الساحلية
البعيدة، وركبت ذاهبة إلى زوجي أو مطلقی بغیر علم أهلي، وتوجهت إليه باكية ومعتذرة
وطالبة العفو وأن نبدأ معا صفحة جديدة.. فهل تعرف ماذا صنع معي؟ لقد استقبلني بكل
الحفاوة وكل الترحيب وقبل اعتذاري بسماحة وكرم وطلب مني أن أعود في نفس اليوم إلى
بيت أهلي وأقيم فيه لمدة أسبوع ريثما يأتي ويطلب يدي منهم كما لو كنا سنتزوج لأول
مرة، وشكرته بدموعي الغزيرة وعدت للقاهرة، وأبلغت أهلي بما فعلت وأقمت لديهم وبعد
أسبوع جاء زوجي الرائع في موعده تماما وتقدم لأبي يطلب يدي وتزوجنا من جديد.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
أهم ما انعم
الله به عليك يا سيدتي هو عودة الرشد الذي هيأ لك استرداد السعادة بعد أن كادت
تضيع من بين يديك إلى الأبد .. ذلك أن عقل الإنسان وأفكاره وليس الظروف الخارجية
التي تحيط به، هما
اللذان
يتحكمان إلى حد كبير في سعادته أو شقائه.
وقصتك
أبلغ دليل على ذلك، فلقد كانت كل الظروف المتاحة لك منذ البداية ترشحك للسعادة، من
زوج محب عطوف صبور، إلى إمكانيات مادية سخية تهيئ لك الحياة المريحة، إلى الشباب
وجمال وظروف عائلية طبيعية.. ورغم ذلك فلقد أحلت الحياة مع زوجك إلی جحيم وهجرت
بيت الزوجية وحكمت على نفسك بحياة مطلقة تواجه الحياة بطفل رضيع وتبحث عن الحياة
اللذيذة التي تراها في الأفلام فلا تجد سوى مشاكل الحياة اليومية ووحشة الوحدة،
وهوان النفس على الآخرين بعد عزتها .. فإذا سالت نفسك عن المسئول عن تحول أحلام
السعادة إلى سراب وشقاء لن تجدي جوابا سوى في هذه الكلمة السحرية :عقل الإنسان
وافكاره !.
وإذا سألت نفسك وكيف استرددت
السعادة أو على الأصح كيف اكتشفت ما كان متاحا لك منها فقبضت عليه قبل أن يضيع
للأبد فلن تجدي جوابا آخر سوى نفس الكلمة السحرية دائما.. فنحن دائما كما نفكر..
نفكر في السعادة.. فننال منها بقدر ما يصدق عزمنا على أن نناله، ونفكر في الشقاء فتقودنا
خطواتنا وتصرفاتنا إليه، ونفكر في الخير فنصبح أخيارا ونكف أذانا عن الآخرين ونفكر
في الشر فنكره الآخرين ونتمنى لهم أسوأ الأمنيات، وربما يكون هذا هو ما عناه أرسطو
حين قال أن السعادة في الحكمة، وليس في أي شيء آخر.. لأنها وسيلة الإنسان لإدراك
قيمة ما يستحق منه أن يحرص عليه وما لا يستحق أن يتمسك به أو يسعى إليه أو يضحي
بسعادته الحقيقية من اجله.
ومن أهم أسباب الشقاء الإنساني
يا سيدتي هو هذا الغباء البشري الذي يعجز معه الإنسان عن إدراك حقيقة بديهية هامة
هي أنه لا قيمة لنا ولا اعتبار إلا لدى من يحبوننا ويحرصون علينا، وأننا خارج
دائرتهم لا نساوي الكثير ولو توهمنا ذلك.. لهذا فمن الحكمة أن نحرص عليهم وألا
نتمادى في الدلال والقسوة عليهم فتفقدهم ونفقد معهم كل ما كنا نمثله لديهم من قيمة
واعتبار وكل ما لن نجده لدى غيرهم منهما.
واعتراف الإنسان بأخطائه
ومراجعته لنفسه بحياد وتجرد، هو الخطوة الأولى فعلا على الطريق الصحيح، وإقراره بالخطأ
والرجوع عنه واجب دیني وأخلاقي مطلوب دائما وفي أي مرحلة من العمر حتى ولو فات أوان
إصلاح الأخطاء.. من باب إبراء الذمة.. والإشفاق على النفس من المثول مع من ظلمناهم
وأخطأنا في حقهم بين يدي العادل الذي لا تضيع عنده الحقوق جل شانه، وكما أن الظلم
شر القبائح.. فإن العفو والصفح عن المعترف بخطئه من فضائل النبلاء أيضا ولا شك أن
زوجك قد أعانك بمسلكه النبيل الكريم معك خلال فترة الطيش على الرجوع سريعا إلى
نفسك واكتشاف مزاياه، وإدراك حقائق الحياة الأولى بالاعتبار وبالانتباه، وهي أن
الزوج المحب العطوف العادل قيمة كبرى تستحق العناء للفوز بها والحفاظ عليها وليست أوهام
الحياة اللاهية التي تخيلتها، ونحن نتعلم من تجارب الفشل والألم أكثر مما نتعلم من
تجارب
السعادة
والنجاح لهذا فقد اكتسبت أنت خبرة ثمينة بالحياة أعانتك وسوف تعينك دائما على
حراسة سعادتك والدفاع عنها ضد معاول الطيش والحمق والأنانية بإذن الله وهنيئا لك
اكتشاف السعادة الحقيقية.. وشكرا لك على رسالتك المفيدة للآخرين.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" فبرايرعام 1993
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر