المحنة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985

 

المحنة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985

المحنة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985

أكتب إليك هذه الرسالة، بعد أن أثارت أشجاني إحدى العبارات التي جاءت في ردك على إحدى الرسائل، ودفعتني للكتابة إليك، أما العبارة فهي "ولا يعرف الشوق إلا من يكابده" ولأنني "كابدت" تجربة أليمة فإني أعرف "الشوق"

جيدا وأريد أن أنقل درس التجربة لغيري من قارئات وقراء هذا الباب.

أنا يا سيدي سيدة في الثلاثين تقريبا، منذ عشر سنوات كنت طالبة بكلية الطب فتعرفت بطبیب کریم الخلق متدين وسیم ومن أسرة متدينة طيبة، كان وقتها في مرحلة الامتياز وأحب كل منا الآخر حبا ملك عليه نفسه، فتزوجنا وأقمنا في شقة أسرته التي تعمل في إحدى الدول العربية، ومضت الأيام تحمل لي كل يوم سعادة لم أحلم بأكبر منها.. حتى أنني انصرفت كليا إلى بيتي زوجي فتعثرت خطواتي بكلية الطب واضطررت إلى الانتقال إلى كلية نظرية، وخلال هذه الأيام تعاقد زوجي المحبوب للعمل طبيبا في نفس الدولة التي تعمل بها أسرته وسبقني إلى هناك، ولا أستطيع أن أصف لك كيف انقضت الأيام التي عشتها وحيدة في مصر خلال غيابه، ثم أنجبت طفلي الوحيد ولحقت به في مقر عمله بعد شهور من سفره .. وهناك حققنا حلم حياتنا بأن تكون لنا شقة خاصة نؤثثها كما نريد ونرتبها كما نهوى.. وهناك عرفنا معا " طعم الوفرة"  أي أن يكون لدينا كل ما نريد.. وفي أي وقت نرید، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن فلقد تغير الحال بعد فترة.. وبدأت تظهر عليه علامات لم أصدقها في البداية، ثم علمتني الأيام المريرة أن أصدق كل شيء، بدأ يعاملني في البيت  "كدكتور" خطير يقبض راتبا ضخما بالآلاف وتغيرت نظرته إلى الناس وإلى الدنيا واكتسبت تصرفاته مظهرا غريبا من مظاهر العظمة، وبدأت تدخل حياته أشياء ومتغيرات جديدة لم نكن نعرفها حين كنا نعيش سعداء في مصر، رغم عدم وجود الآلاف، فأفلام الفيديو مثلا العادية وغير العادية بدأت تحتل مكانا مهما من حياته ووقته وتفكيره، وتحول البيت بالنسبة له إلى سكن تقوم زوجته بترتيبه وإعداد المطلوب للحفلات العائلية لمشاهدة أفلام الفيديو وهي الخطر العظيم الذي يهدد البيوت هذه الأيام.

 

وبدأ يغيب عني وعن ابنه الساعات الطويلة معتذرا بالعمل والمرضى.. رغم أنه لا عمل هناك ولا مرضي سوى ساعات محدودة كل يوم.. فساورني الشك، لكني طردته سريعا إذ كيف أشك فيمن هجرت مستقبلي من أجله ومن اخترته من بين الجميع، وراجعت نفسي أأكون قد قصرت في حقه في شيء.. لكني وجدت نفسي دائما ومن اليوم الأول لزواجي به المضحية بكل شيء من أجله.. إذا عرض لي أمر فكرت أولا هل

يرضيه أم يغضبه فإذا كان يرضيه فعلته ولو كنت لا أرغبه ولا أطيقه.. إذا وقفت في المطبخ لأعد الطعام فكرت قبل كل شيء فيما يحبه وفيما يكرهه، ولا يهم ماذا أحب ولا ماذا أكره، وإذا اقترب موعد عودته جريت كالمجنونة في الشقة أرفع کرسیا سقط على الأرض .. أو جريدة تركتها على مائدة الطعام، ثم أقف أمام المرآة لأصلح من شأني وأغير فستاني وأسرح شعري لأكون في أجمل صورة حين يعود إلى بيته.

 

والآن بدأت أفكاري تتضارب هل كان الصحيح هو أن أحجب مشاعري عنه لكيلا "يتملعن" کما تفضل بعض النساء أم كان الصحيح أن أكون كما كنت تلقائية وعفوية معه أعبر له عن حبي ولا أخفيه .. ولماذا أخفيه.. ولماذا أمثل وأنا في بيتي الذي ينبغي أن أحيا فيه على طبيعتي.. إنني أرى فيه المثل الأعلى لى فلماذا أخفى ذلك أو أضن به عليه؟

هل يعتبر ذلك ضعفا في الشخصية؟ لقد كنت أحرص دائما على أن آخذ رأيه فيما أترديه من ملابس وفي اختيار الألوان، فهل هذا خطأ ؟ حتى حين تمادى في ابتعاده عن البيت وسهره في الخارج بغير أن يكلف نفسه حتى طمأنتي تليفونيا، لم أكن أثور عليه حين يعود بل كنت أظهر له قلقي عليه، وطوال سنوات زواجنا لم نتشاجر معا أبدا بصوت عالي ولم يمسني مرة بضرب أو إيذاء، كما نسمع في كثير من الأحيان، لكن زوجي مازال متغيرا كما كان.

 هل أثور؟ هل أصرخ ؟.. لم أفعل شيئا من ذلك لكني استمررت في العناية به، ورعايته وتلبية إشارته أملا في أن يعود، ثم عاد ولكن أي عودة.

 

 فذات يوم قال لي إنه يريد أن يتحدث معي في أمر مهم .. فخفق قلبي .. وتجمعت الدموع في عيني .. استعدادا لقبول اعتذاره عن اغترابه عني طوال الفترة الماضية.. حتى من قبل أن يعتذر كنت قد قبلت اعتذاره، وفكرت فيما سأقوله له من کلمات أهون بها عليه الأمر، وأعلن فرحي لعودته لي ولأبنه غافرة له كل شيء فإذا بزوجي يقول لي في هدوء شديد كأنه يزف إلي خبرا عاديا إن الحياة معي قد أصبحت مستحيلة، وأنه لا يستطيع أن يتحملني أكثر من ذلك، هل تتخيل حالي وأنا أسمع ذلك من بين دموعي سألته والولد ؟ قال بنفس الهدوء أنه سيتربي بالمال الذي جمعه، وأنه لا مشكلة هناك مادامت هناك نقود.

 

وبهدوء قاتل فتح حقيبة يده الصغيرة ثم أخرج منها تذكرة سفر بالطائرة لى ولابني وتركها أمامي وانصرف.

كان باقي على موعد الرحيل ثلاثة أيام، يعرف الله وحده كيف مرت بی ثم جاء الموعد فحملت حقيبتي وطفلي وعدت إلى أرض الوطن منهزمة.. منهارة.. كأحلام بددتها الأيام.

وبعد عودتي لمصر اتضحت أمامي الأمور.. وعرفت أنه على علاقة بأخرى سوف يتزوجها. تليق به وباسمه اللامع الدكتور فلان الفلاني. وعرفت أنه لم يعد يراني لائقة به بعد أن انتقل إلى طبقة أخرى غير التي خرجنا منها معا.

واجتررت أحزاني وحيدة في بيت أسرتي، ألومه أحيانا في قرارة نفسي.. والتمس له العذر في أحيان أخرى قليلة فأقول لنفسي لابد أن لى بعض العيوب التي أراها الآن وهي أنه أجمل مني، وأنا لست جميلة لكني "حلوة" أي متوسطة الجمال وأخفي جمالي تحت الحجاب.





 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

هذه هي الرسالة التي تلقيتها.. والتي لا أملك لكاتبتها سوى أن أشارکها مشاعرها الحزينة وأن أتفق معها في ندائها الأليم في نهايتها الذي تكاد تصرخ فيه للآخرين لا تتسرعوا ولا تندفعوا لكيلا تكابدوا ما كابدت من محنة وعذاب.

غير أني يا سيدتي قد قرأت رسالتك مرات ومرات، فأحسست أنك تحملين نفسك ما لا طاقة لها به.. وتعتبرین نفسك مسئولة عن بعض ما جرى ولا أراك مسئولة عن شيء منه .. بل أراك قد بالغت في الحرص والاسترضاء والتنازل إرضاء لغيرك.. حتى زهدك هذا "الغير" بسهولة ولم يجد صعوبة كبيرة في التخلي عنك.

 

إنك نموذج غريب يا سيدتي للتضحية والتفاني.. والفناء في شخصية غيرك.. وإنكار الذات في عصر يبدو أنه لم يعد يقدر مثل هذه القيم النبيلة، فلقد انسحبت بهدوء وبلا مقاومة.. وعدت تجرين أذيال الخيبة والمرارة، ثم رحت تلومين نفسك حتى لتتلمسي "للجاني" بعض العذر في أنه الدكتور "فلان الفلاني" وأنه "أجمل" منك وأنك

متوسطة الجمال.. مما لم اقرأه من قبل في رسالة لمطلقة، ومما لا أستسيغه إذ لا أفهم كيف يمكن أن يكون الرجل "أجمل" من امرأة مهما كان نوع جمالها ؟ ولا كيف يمكن أن يكون ذلك من مميزاته .. ولا تفسير لذلك عندي إلا أن تكوني قد أحببته - ومازلت - حبا عظيما لا يستحقه ولم يقدره.. فلم ترى فيه قبيحا ولم تقبلي في داخلك حتى لومه عما فعل فلمت نفسك نيابة عنه وما أنت بملومة؟

 

يا إلهي.. ألهذا الحد تحبينه أو لهذا الحد يعمى الإنسان أحيانا عن رؤية مثل هذا الحب العظيم فيحرم نفسه طواعية منه .

 إنك يا سيدتي ضحية، "للبطر" الذي يصيب بعض الرجال حين تغدق عليهم الدنيا بلا حساب، وحين يشجعهم رصيد البنك المتنامي على اتخاذ أصعب القرارات المصيرية.. بسهولة تامة.. أو بهدوء قاتل کما فعل معك اعتمادا على أن النقود سوف تتكفل بحل باقي المشاكل، أو حين تصور لهم أحلام العظمة أنهم قد أصبحوا "طبقة" أخرى يحتاجون معها إلى زوجة "راقية" تتلاءم مع متغيرات حياتهم.

وهذه للأسف قصة تتكرر الآن كثيرا بين بعض المصريين الذين أمضوا سنوات طويلة في العمل بالدول البترولية، كما تتكرر أيضا بين بعض "أبطال الداخل" من أثرياء الانفتاح والهباشين، وهي للأسف استرجاع لظاهرة اجتماعية كانت مألوفة في حياة المصريين في بدايات

القرن الحالي حين كان لكثير من الرجال زوجة متواضعة تتناسب مع بدايته المتواضعة ثم زوجة "فاخرة" في أخريات العمر تتناسب مع ما وصل إليه من ثراء ومكانة اجتماعية، لقد كنت أتصور أن مجتمعنا يتقدم للأمام في هذه الناحية حتى ظهرت هذه الآثار الجانبية لعصر الهجرة وعصر الانفتاح، فإذا به يتقدم للخلف في هذه الناحية على الأقل.

 

إنني أشكرك على رسالتك القيمة وأقول لك إني أحس منها، أنك قد افتقدت الثقة بنفسك طوال حياتك معه وإلى الآن، وأن افتقاد هذه الثقة قد أضر بعلاقتك به كما أضر بك، وأن تسامحك الدائم معه قد أغراه بالتمادي في الاستهانة بك حتى لفظك بلا معاناة ولا تقديرا لماضيکما معا، فأعيدي ثقتك في نفسك وفي الحياة وفي العدل وثقي أن تجربتك الأليمة قد أكسبتك معرفة بالدنيا سوف تفيدك في المستقبل، أما طفلك فلسوف يكبر ويفهم أن في الدنيا حقائق تعجز عن فهمها أحيانا الأفهام، وأننا نسلم بأشياء كثيرة في الحياة لا نملك لها ردا ولا دفعا، ومن هذه الأشياء أن يشب طفل محروم من حنان أبيه ورعايته.. لمجرد نزوة طارئة ألمت بأبيه ذات يوم.. وما كان أسهل مقاومتها حفاظا على الأسرة لولا جحود الإنسان وضعفه.. وبطره في كثير من الأحيان.

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1985

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات