طاحونة الهواء .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1990
المال المنهوب لا يغنى الأبناء ولا يحميهم من غدر الزمان وإنما
يحميهم منها ما نورثه لهم من عمل صالح ومال لا شبهة للحرام فيه.
عبد الوهاب مطاوع
أنا يا سيدي مهندس
معماري أبلغ من العمر 44 عاما ، نشأت ابنا وحيدا مع ثلاث شقيقات لأب يعمل مدرسا
بالمدارس الحكومية .. وأم ربة بيت طيبة وعشت طفولة عادية بين أبوي وشقيقاتي أتمتع
بحب أفراد أسرتي , ويخفف ذلك بعض جفاف حياتي .. فلقد كان أبي مدرسا " لمادة
" غير مطلوبة في سوق الدروس الخصوصية فى تلك الأيام فلم يكن له مورد سوى
مرتبة .. وبالتالي كانت حياتنا متقشفة .. وتكاد تنحصر في هدف واحد وهو أن نتفوق في
دراستنا لنتخرج ونجد عملا.
ومن أجل هذا الهدف
الأساسي كان أبي يكرس حياته ويراقب دراستنا .. ويخضع البيت للأحكام العسكرية قبل
الامتحانات..
ورغم حنان أبي
وعطفه علينا جميعا إلا انه لم يكن يقبل أي تهاون في أداء واجباتنا الدراسية وقد
حدث في فترة مراهقتي أن رسبت في امتحان السنة الأولى الثانوية فخاصمني لمدة عام
كامل منذ لحظه ظهور النتيجة .. خصاما كاملا شاملا لا يوجه لى فيه كلمة واحدة ..
وإذا خاطبته لم يجبني بشئ إلى أن نجحت متفوقا وجاء ترتيبي الأول على المدرسة ..
وفى هذه اللحظة فقط ابتسم في وجهي لأول مرة وهنأني وسامحني.
ولقد أثمرت تربيته
شبه العسكرية لنا فالتحقت بكلية الهندسة وتخرجت منها بتقدير جيد والتحقت بعمل
حكومي وتخرجت شقيقاتي الثلاث تباعا بعدى من كليات نظرية .. وأحس أبي أنه قد حقق
رسالته في الحياة .. فرضي عن ذلك وبدأ يعاملني كصديق.
وكنت قد بدأت أعمل
فى مكاتب المهندسين المعماريين بعد الظهر .. وأرسم لهم اللوحات والتصميمات مقابل
مكافآت محدودة , وعُرفت عندهم بقدرتي على إنجاز أي عمل يطلب مني حتى ولو واصلت
العمل فيه يومين بلا نوم .. فأصبحت أعمل كثيرا .. وأكسب أضعاف ما أتقاضاه من مرتبي
.. وأبي يراقبني بقلق .. وعلى هذا الحال أمضيت 4 سنوات بعد تخرجي .. اكتشفت بعدها
أنى لم أفكر لحظه واحدة في موضوع الزواج ولم ألتفت إلى أية فتاة .. وكانت شقيقتي
التى تليني قد تزوجت من مدرس وتعاونا معا لتأثيث بيت بسيط للزوجية .. فسألني أبي
ونحن في حفل الزفاف: وأنت أيها الشاب متى تتزوج ؟ .. فلم أحر جوابا .. فلقد كان ما
معي من مدخرات وقتها يكفى لبدء مشروع الزواج .. لكني كنت في أعماقي أتطلع إلى حياة
أرقى لا يعانى فيها أبنائي جفاف حياتي السابقة , فقررت أن أؤجل المشروع إلى أن
أحقق حلمي الأكبر
وجاءت فرصه تحقيق
الحلم .. حين نجح مسعاي فى الحصول على عمل فى إحدى الدول الخليجية وأبلغت أبي به
وشرحت له تصوري .. فسمعني صامتا ثم قال لى : عندك ما يكفيك لكنك غير راض فافعل ما
تشاء .. ولكن احذر من أن تملكك النقود بدلا من أن تملكها أنت وطمأنته وأنهيت
إجراءاتي.وسافرت وتسلمت عملي سعيدا ونعمت بالمرتب الكبير الذى كنت أستطيع ادخار
أكثر من نصفه .. وأرسلت لأبي وأمي مبلغا صغيرا مساهمة في نفقات زواج أختي الثانية
.. ثم جرفني العمل مرة أخرى كحالي فى القاهرة فأصبحت أخرج من عملي الحكومي إلى
مكاتب المهندسين .. وأسهر على اللوحات في بيتي حتى الصباح وأمضيت العام الأول في
غربتي بلا إجازة سنوية لكي أستفيد بمقابلها المالي.
وفى العام الثاني
حصلت على أول أجازه لى فحزمت حقائبي وركبت الطائرة إلى القاهرة وفى الطائرة جاءت
جلستي بالصدفة إلى جوار فتاة مصرية خمنت أنها عائدة مثلى في أجازة فتجاذبنا أطراف
الحديث لقطع الوقت .. وعلمت منها أنها لا تعمل في البلد الذى أعمل به وإنما كانت في
زيارة لشقيقتها المتزوجة هناك بهدف أن تجد عملا , ولم تجد لأنها لا تحمل سوى
الثانوية العامة. ووجدت نفسي مهتما بفتاة لأول مرة منذ سنوات طويلة فعرفتها بنفسي
ورغبت في أن أعرف عنوانها بحجة أني أستطيع أن أوفر لها عملا فى الدائرة
الحكومية التى أعمل بها.
وافترقنا في
المطار .. وعدت لبيتي وأسرتي .. وسعدت بهم وسعدوا بى وحضرت زفاف شقيقتي الثانية
إلى موظف بسيط لكنه طيب وتحبه شقيقتي .. ثم اتصلت بالفتاة تليفونيا وطلبت تحديد
موعد لزيارتها لاستكمال بعض البيانات .. وذهبت إلى بيتها .. فاستقبلني خال عجوز
لها وأمها ثم جاءت هي فتجاذبنا أطراف الحديث لمدة ساعتين وانصرفت سعيدا.
وتكررت الزيارة
واللقاء .. ووجدت نفسي منجذبا لها .. وراغبا فيها ولمست منها تجاوبا مماثلا ..
فأبلغت أبي بالموضوع فنشط بجديته المعهودة للسؤال عن الفتاه وأسرتها .. ثم عاد بعد
أيام ليقول لى : هل ضاقت بك الدنيا حتى لا تجد من تتزوجها سوى مطلقه وعندها ولد؟!
وكنت قد عرفت
الحقيقة منها قبل أيام فلم تؤثر في رغبتي فيها .. فأطرقت برأسي صامتا , فقال لى
:ليس هذا هو اعتراضي الوحيد لكن الأسرة يا بني ليس فيها متعلم واحد مثلك وشقيقتها
المقيمة في مقر عملك متزوجة من سباك شبه أمي والأسرة كلها لها طابع سوقي أخشى ألا
نستطيع أن نتعامل معه .. فنحن وإن كنا بسطاء مثلهم إلا أننا متعلمون جميعا !
وسكت . وأدرك أبى
بحكمته تصميمي . فنفخ ضائقا وقال الأمر لله !
وخطبت فتاتي وعدت لمقر عملي وتواصل لقاؤنا
بالخطابات والاتصالات التليفونية , وتعمقت مشاعر الحب فى قلبي .. وعدت في الأجازة
التالية .. وعقدت قراني عليها وأقمت معها لمدة أسبوعين في أحد الفنادق ثم عدنا إلى
مقر عملي وقدمت زوجتي لأصدقائي وأسرهم .. وعشت شهور العسل الأولى فى غاية السعادة
.. ثم واجهت أول مشكلة فى حياتي الجديدة حين عجزت عن استقدام ابن زوجتي للإقامة
معنا لأنه ليس ابني ولا أستطيع أن استخرج له تأشيرة دخول .. ويئست زوجتي من
إمكانية ذلك فطلبت أن تعود تمضي معه الشهور الباقية على أجازة الصيف.
وعادت , وعدت أنا
لحياتي الأولى من العمل المتواصل لزيادة المدخرات وتحقيق الأحلام .. وكلفت زوجتي
بشراء شقة في القاهرة وحولت إليها المبلغ المطلوب باسمها وطلبت منها أن تكتب عقدها
أيضا باسمها .. واعترف لك أني فعلت ذلك لأني خشيت إن حولت المبلغ لأبي ليقوم بهذه
المهمة أن يستكثره .. ويستهول أن أدفعه فى شقة وهو من عمل 40 سنه ولم يقبض طوالها
ما يصل إلى هذا المبلغ !
واشترت زوجتي
الشقة .. وحولت إليها مبلغا آخر للأثاث وعدت فى الأجازة فوجدتها قد فرشت الشقة
بأثاث فاخر استنفذ المبلغ الذى أرسلته كله بل ووقعت على شيكات بقيمة عدد من
الأقساط الباقية .. ولم أجد مفرا من الدفع !
وشعرت بتأنيب ضمير
حين لم أستطع أن أشارك إلا بمبلغ زهيد جدا فى نفقات زواج أختي الصغرى .. وزاد من
حرصي ما بدا على زوجتي من ميل واضح للإسراف والفخفخة التي لا تتناسب مع نشأتها
العائلية .. لكن أبي وأمي لم يعتبا علي واكتفيا بلفت نظري إلى محاولة الحد من
إسراف زوجتي حتى لا تضيع ثمرة شقائي هدرا.
ومضى عامان على
زواجي ولم تحمل زوجتي .. وبدأنا رحلة الفحوص فصدمت بأني غير قادر على الإنجاب ..
وبأنها أيضا أصبحت كذلك فتعجبت من تصاريف القدر ووطنت نفسي على الرضا بحياتي هكذا.
وعشنا حياتنا بعد
ذلك سعداء أو هكذا أردت لنفسي فاهتممت بأمر ابن زوجتي واعتبرته إبنى .. وادعيت
لزملائي فى العمل أنه من صلبي , وأصبحت زوجتي تأتي لتقيم معي ثلاثة شهور كل سنة وأعود
أنا إلى مصر فى الصيف لأقيم معها حوالي شهرين , وفيما عدا ذلك فهي فى بيتها فى
القاهرة وأنا فى بيتي فى الغربة.
وارتحت قليلا لذلك
الوضع لأني كنت قد تحولت إلى آلة تعمل ليل نهار وخشيت أن يعرقل وجود زوجتي معي
بصفة دائمة هذه الآلة عن الدوران .. خاصة وأني تأكدت من أنها مسرفة ولا تكف عن طلب
النقود وأحاول أن ألبى رغباتها .. وأضاعف من جهدي لتكون لى ثروة كما أني فى ذلك
الوقت كنت قد بدأت أقوم بعمليات صغيرة لحسابي وأستخدم المهندسين الشبان فى مساعدتي.
وهكذا مضت 15سنة
على زواجي بلغ " ابني " فيها سن التاسعة عشر واكتشفت للأسف أني لم استطع
أن أغرس حبي فى قلبه رغم ما بذلته له وترحمت على أيام شدة أبى معنا .. وأنا أراه
مستهترا مدللا متعثرا في دراسته ينفق باليمين واليسار ويطالب بالنقود بوقاحة كأنها
من ميراث أبيه رغم وجود والده على قيد الحياة .. ثم لا يبدى اهتمام بشئ يتعثر فى
دراسته ولا يستطيع رغم الدروس والمحاولات الحصول على الثانوية , لكن علاقتي بزوجتي
كانت مرضية لي رغم تحفظات أبى وأمي اللذين بلغا السبعين على بعض سلوكها .. وعلى
تعاليها المصطنع على شقيقاتي الثلاث الآتي يعشن حياة بسيطة عادية وحرصها المتكلف
على إظهار تميزها .. واعتيادها للثراء !
وقد أثمرت رحلة
كفاحي فى الغربة وعملي المتواصل فيها الكثير .. فاشتريت قطعة أرض للبناء ..
وشهادات استثمار كثيرة .. وبضعة أفدنة مستصلحة بالقرب من وادي النطرون وسلمتها
لأزواج شقيقاتي البسطاء مقابل مصلحة مشتركه فخدموها بإخلاص وتولوا شئونها بكل
أمانة , وسيارة فارهة تقودها زوجتي وابنها فى شوارع القاهرة. وقد اشتريت كل ذلك
وسجلته باسم زوجتي بل إن كل مدخراتي السائلة وضعتها باسمها فى البنك فى مصر
لتستطيع التصرف فيها عند غيابي بالسفر.
ولا تسألني لماذا
فعلت ذلك فلقد كانت بعض أسبابي أني أردت إشعارها دائما بالأمان خاصة وأنها تتصور
أنى قادر على طلاقها والزواج من غيرها فى أية لحظة مع أنى قد سلمت لنفسي منذ زمن
بعيد أنى ضعيف معها ولا أستطيع تحمل فكرة انفصالنا .. وكانت بعض هذه الأسباب هى
ضغوطها علي بعد أن استراحت لهذه الطريقة فى تحقيق أهدافها .. وربما كان منها أيضا
سامحني الله أنى حرصت على ألا أطلع أبوي وشقيقاتي على مدى ثرائي لكيلا يطمعوا في
.. مع أنهم فى منتهى القناعة وربما كانوا أكرم منى .. لكن هذا ما حدث فكنت أدعي أن
بعض ما اشتريته باسمها هو من مالها مع أنها لا مورد لها إلا نفقة ابنها التى
قررتها المحكمة ولا تزيد على 28جنيها كل شهر !
ورغم كل شئ فلقد
كنت راضيا وسعيدا .. أعمل كالطاحونة فى الشهور التى أعيش فيها وحيدا .. ثم أستمتع
بالسعادة مع زوجتي حين تجيئني فى مقر عملي وأخفف من ساعات عملي وحين أعود إليها في
مصر أغرق معها في السعادة والنزهات والخروج إلى الملاهي والفنادق التي تحب زوجتي
الجلوس فيها.
وكنت في إحدى هذا
الأجازات السعيدة يا سيدي حين شكت زوجتي فجأة من زغللة شديدة فى عينيها .. ثم
أصيبت بدوخة وتكرر ذلك فاصطحبتها إلى الطبيب فبدأنا رحلة طويلة كشفت لنا عن كارثة
فى مخ زوجتي وبدأنا رحلة الآلام وأجرينا لها جراحه دقيقة فى القاهرة .. تحسنت
بعدها واستردت عافيتها .. ثم لم تمض عدة شهور حتى أطل الخطر من جديد فعدت إليها ..
وسافرت معها إلى لندن وباريس .. وعدنا إلى مقر عملي واستطعت بفضل اتصالاتي أن أرتب
لها إجراء جراحة جديدة في أكبر مستشفى بالبلد على يدي خبير أجنبي زائر.
وبعدها بشهور
اصطحبتها إلى لندن لإعادة الفحص .. فصفعني الأطباء الانجليز بالحقيقة القاسية كما
اعتادوا هم أن يصارحوا بها المريض وأهله: أنها مسألة عام على الأكثر يا سيدي .. إن
لم تكن أقل ولا أمل فى جراحه أخرى .. وعدت كارها كل شئ وكان أقسى ما آلمني هو أن
زوجتي قد علمت بكل شئ على غير إرادتي وهالني أنها لم تنهار .. ولم تفقد قوة
أعصابها .. وإن كانت فترات صمتها تطول من حين لآخر .. أما ما عدا ذلك فهي لا ترفض
دعوة للخروج أو السهر وتتلهف على السعادة أكثر مما مضى.
ولم أشأ أن أبتعد
عنها طويلا فألححت عليها أن تبقى معي فى مقر عملي واستجابت .. وبعد شهرين طلبت مني
أن تعود لتكون بجوار ولدها مع قرب الامتحان فوافقتها وبدأت أتصل بها كل يوم.
وفجأة تنبهت إلى
شئ هام لم ألتفت إليه طوال انشغالي بعملي المستمر ثم بهذه المحنه التى اعترضت طريق
سعادتنا. وجاء ذلك عفوا حين اتصلت بها وطلبت منها أن تدفع من حسابي فى البنك لزوج
شقيقتي مبلغا طلبه منى لشراء صوبه زراعيه للأرض الجديدة .. ففوجئت بعدم حماس زوجتي
لذلك بل وبفتورها ومحاولتها إثنائي عن هذا المشروع رغم اتفاقي السابق عليه بدعوى
أنه لا داعي له.
ثم فوجئت بإصرارها
على الرفض بلا أسباب فأنهيت المكالمة .. وجلست أفكر ذاهلا .. يا إلهي إن ما كسبته
من شقاء 19 عامل فى الغربة ومن عملي المتواصل ليل نهار بلا آدمية بل ومن تقتيري
على نفسي خلال شهور وحدتي .. هو الآن باسم زوجتي .. فماذا أفعل إذا حم القضاء؟
ورغم حبي لزوجتي
وتأثري لحالها بل وضعفي معها , فقد استشرت محاميا صديقا فى اعترفت له بالحقيقة
لأول مرة وهى أن إبنى هذا ليس إبنى ولا أمل فى أن يكون بارا بى لأنه ليس كذلك حتى
لأمه, فنصحني بأن استرد بالتفاهم معها وعن طريق الهبة أو البيع ما كتبته باسمها من
شقه وأرض زراعيه وأرض بناء وسيارة وحساب فى البنك لأنها من مالي.
وحين عدت إلى مصر .. حاولت أن أتلمس الطريق
إلى هذا الهدف مع حرصي على أن أكون عادلا فطلبت منها أن تبيع لى الأرض الزراعية
وأرض البناء والشقة وأن تهب السيارة لابنها وتقسم النقود الموجودة فى البنك , وهى
مبلغ كبير , بيني وبينه ليحصل بها على شقة أصغر ويضمن دخلا معقولا إلى أن يعمل مع
تعهدي لها بأن أرعاه إلى أن يقف على قدميه .. فإذا بزوجتي الحبيبة التى لم أسئ
إليها مرة واحدة طوال 16عاما ترفض رفضا باتا التنازل عن أي شئ لي يا سيدي.
هل
تصدق؟ وأعدت الكرة معها مرة أخرى فوجدتها أكثر إصرارا وإصرارا بل وبدأت تجتنبني ,
فرثيت لحالها وحالي وحاولت أن أؤجل الحديث فى الموضوع لفترة قادمة وخجلت من أن
يفتضح أمري أمام أبي الذى تجاوز السبعين ويعيش بمعاشه المحدود ولم أقدم له واحدا
على ألف مما قدمته لزوجتي.
ومع ذلك فهو على استعداد لأن يعطيني روحه لو
أردت , فعدت إلى مقر عملي قانطا ومسلما أمري لله.
وفى
أول ليلة وجدت نفسي ساهرا فيها على لوحة لا يقبل مهندس تخرج منذ 5 سنوات فقط أن
ينفذها احتراما لسنوات خبرته, وقبلت أنا ذلك رغم خبرتي الطويلة طلبا لأجرها .. وسألت
نفسي وقد انقضى معظم الليل .. هل كتب علىً الشقاء إلى آخر يوم من أيام عمري .. وهل
فى العمر متسع لأبدأ من جديد وأحقق ما أردته لنفسي بعد أن طار فى الهواء ما جمعته
بالعرق والعناء طوال السنين الطويلة؟
لقد عاهدت نفسي
ألا أتخلى عنها فى محنتها .. ومهما حدث .. وأن أقف إلى جوارها حتى اللحظة
الأخيرة..لكنى أسألك هل يرضى موقف زوجتي منى "وبعد هذه العشرة الجميلة منى
لها" الله والشرع والقانون .. ثم ماذا أفعل يا سيدي؟
ولـكـاتـب هـذه الرسالة أقــول:
إنه أمر مؤلم
بالطبع أن يكون هذا الموضوع هو موضوع الحوار مع إنسانة تواجه مثل هذه المحنه لكنك
تقول أن أعصابها قوية وأنها تمارس حياتها برغبة قوية فى إسعاد نفسها .. وكل ذلك
يوحى بأن الأمر يجرى فى جو من الواقعية المجردة يسمح بالحديث فى الأمر بلا
حرج وما دام الأمر كذلك فسوف أجيبك عن تساؤلاتك الحائرة فأقول لك:
أما عن القانون
فموقفها عن ناحيته لا غبار عليه ولا يملك حيالها شيئا لإرغامها على أن ترد عليك
مالك. ومادام كل شئ باسمها من الناحية الشكلية طواعية واختيارا منك فمن حقها
قانونا أن تمنح ومن حقها أن تمنع كما تشاء .. بل يستطيع ابنها لو كان مجترئا على
الحق ولم تتفاهم معه أن ينازعك فى أية تصرفات بالبيع أو الهبة لك من ممتلكاتها
الآن ويطعن بعدم صحة الهبة نظرا لحالتها الصحية الحرجة عند عقدها.
وأما عن الشرع
فلقد خالفته أنت حين كتبت كل ثروتك باسم زوجتك ولم تبق شيئا منها باسمك. وقد فعلت
ذلك لأنك أردت وإن لم تعترف بذلك أن تحجب هذه الثروة عمن يستحقون فيها مع زوجتك
شرعا إذا حم القضاء وهما أبواك لأنك لم ترزق البنين. ومن لم يقبل بعدل السماء فى
مسائل الوراثة ليس من حقه أن يشكو من ظلم من مكنهم هو من ظلمه باجترائه على هذا
الشرع وبمخالفته قبل أن يعرف خطأه ويندم عليه.
وأما عن الله
سبحانه وتعالى فهو لم يرض عن تصرفاتك فى البداية وهو المطلع على خبايا الصدور
ويعلم دوافعك الحقيقة إليه . وهو أيضا لا يمكن أن يرضى عن عمل يخالف روح شريعته
وروح عدله .لقد قررت زوجتك فيما يبدو لى أن تورث معظم ثروتك التى شقيت أنت فى جمعها
لمدة 19 عاما فى عمل متواصل كرحى طاحونة الهواء إلى ابنها الذى لا يرثك إذا عادت
إليك الثروة بينما يرث هو معظمها إذا ظلت باسمها إلى النهاية. وهى سبيل تحقيق هذا
الهدف قد أغلقت أبواب التفاهم معك وأصمت أذنيها عن نداء العدل وأي نداء آخر بل
واستخسرت أن تبدد جزءا من مالها السائل فى شراء بعض ما تحتاج إليه الأرض لتحافظ
عليه لابنها سهلا.
وفى ظني أنها
تتصور أنك قادر على أن تكرر التجربة وأن تجمع ثروة أخرى , وتعرف أن ابنها مستهتر
وفاشل وعاجز عن الكسب ولا يبشر ماضيه بمستقبل آمن له إن لم يستند إلى مال يغنيه عن
الكفاح الذى لم تؤهله له تربيته ! وما دام فى الدنيا من كتب عليهم الشقاء ليكسبوا
مثلك بالدم والعرق قوتهم ومالهم .. فلماذا يشقى أهل الدلال والاستهتار إذا
استطاعوا أن يسلبوك ثروتك ؟ انه منطق فاسد لا يخشى الله بالطبع وحنان ظالم بابنها
على حساب مكافح مثلك وحتى ولو لم يعجبني بعض أمرك مع أبويك وشقيقاتك , ولو أنصفت
زوجتك لما انتظرت أن تفاتحها أنت فى هذا الأمر من الأصل .. ولخشيت أن تلقى ربها
وفى عنفها أغلال مالك المنهوب .. ولبادرتك بإبداء رغبتها الإنسانية العادلة فى أن
تؤمن مستقبل ولدها بما يضمن له حياة كريمة ببعض مالك وبرضا نفسك وقبولك ليكون ما
تمنحه له من مال حلالا لا شبهه فيه ثم ترد عليك بعد ذلك معظم مالك غير متفضلة عليك
بشئ وإنما راجيه من الله أن تكون قد أبرأت ذمتها أمامه .. واشترت منك براءة صفحتها
وأدت الأمانة إلى أهلها كما يفعل من يخشون الله واليوم الآخر, فالمال المنهوب لا
يغنى الأبناء ولا يحميهم من غدر الزمان, وإنما يحميهم منها ما نورثه لهم من عمل
صالح ومال لا شبهه للحرام فيه.
فاسألها برفق مره
أخرى أن تفعل .. فإن لم تستجب فسلم أمرك إلى الله الذى لا تضيع عنده الودائع ..
واكتف بحقك الشرعي فى " ثروتها " وهو الربع لأنها ذات ولد .. وواصل
حياتك باعتدال هذه المرة وبغير لهاث محموم وراء المال وبغير استخفاء به على أبويك
وشقيقاتك فهؤلاء هم الرحماء بك وهم من يفخرون بكل ما تصيبه من خير , وارع حدود
الله فى مستقبل أيامك واعمل بنصيحة أبيك التى لم تعمل بها للأسف حين حذرك من أن
يملكك المال بدلا من أن تملكه, واستفد بعبرة قصتك ودرسها الثمين فى تجنب الأخطاء
والعثرات..
فما أكثر ما فى قصتك .. من دروس
وعبرة .. وما أكثر ما تحمله من معان .. ولكن لمن يتفكرون .
رابط رسالة بداية الطريق لكاتب الرسالة بعد عام
شارك في
إعداد النص / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر