الثمرة التعيسة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1992
ومنذ طفولتي المبكرة
وأنا أسمع من جدتي عما فعله أبي بأمي وعما قاسته منه , ولم أره أو أتعرف عليه إلا
حين بلغت الحادية عشرة من عمري , وعرفتني جدتي لأول مرة به ووجدته عطوفا حنونا
يغدق علي بالهدايا , لكن عطفه لم يستمر طويلا , فلقد تغير أبي بعد فترة وأصبحت
أطلب منه مصروفي الشهري فأسمع الحديث الممل المعاد عن الديون والكمبيالات التي
تلاحقه إلخ .. مع أنه يملك محلا تجاريا يدر عليه دخلا طيبا , وينفق على إخوتي منه
الكثير مما يفوق ما أنفقه علي , ويوفر لهم الكماليات التي حرمت منها , وبعد تخرجي
من الجامعة توقف أبي عن الإنفاق علي وعملت بوظيفة وبدأت أعتمد على نفسي , ورغم ما
أعاني من آلام نفسية بسبب هذا التجاهل أو بسبب
إحساسي المؤلم أني أواجه الحياة وحيدة كأن أمري لا يهم أحدا غيري , فإني
راضية وصابرة ومؤمنة بقضاء الله وقدره , والمشكلة الآن هي أنني على أعتاب خطوة
هامة في حياتي ولا أجد حولي من أستشيره وأستعين برأيه في مستقبلي , فلقد تقدم لي
شاب في السادسة والثلاثين من عمره , وقد أقنعني بآرائه والتزامه الخلقي وتدينه
خاصة وأنني فتاة متدينة , وطالما تمنيت دائما أن أشارك رجلا مثله حياتي , لكن
يؤرقني في ذلك أمران.
الأول : أنه مطلق
وله طفل من زواجه الأول وأخشى من المشاكل التي يمكن أن تحدث لي في المستقبل بسبب
الزيجة السابقة.
والثاني : أنني في الثالثة
والعشرين من عمري ولا أعرف هل فارق السن بيني وبينه مناسب أم أنه كبير.
والمشكلة أن أخلاقة
وخصاله تريحني لكن زواجه السابق وثمرته التعيسة أيضا التي تشبهني في ظروفي تؤرقني
وتجدد مخاوفي من أن أكرر تجربة أمي في الحياة .. وما يؤلمني هو أنني لا أستطيع أن
أتحدث مع من حولي عن ظروف هذا الشاب لأن الجميع يقولون لي أنني صغيرة ويجب ألا
أرتبط بمن له تجربة زواج سابق وأهلي كل منهم في واد.
فأرجوك أن تشير علي برأي صائب فيما يواجهني وتفيدني : هل من تزوج من قبل لا يصح أن يتزوج من فتاة لم يسبق لها الزواج ؟ وهل أقبل هذا الشاب وأنسى "الماضي الأسود" وهو انفصال أبي عن أمي ؟
جميع الحقوق محفوظة لمدونة
"من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
ولكـــاتـــبة هــذه الــرســالـة أقـــول:
قدر الإنسان أن
يتحسب دائما للمستقبل وأن يتخوف مما يمكن أن يحمله إليه من شقاء ، ولأن المستقبل
دائما في غيب لا يعلمه إلا الله جل شأنه , فإنه من الأهمية بمكان ألا نسمح لهذا
المجهول بأن يخيفنا ويشل قدرتنا على أن نختار لأنفسنا ما يحقق لنا السعادة
والسلامة .. وليست هناك كما تعلمين قوانين صارمة إذا اتبعها الإنسان في اختياره
لشريك الحياة تحققت له السعادة والأمان , وإنما هناك دائما قواعد وإرشادات عامة
يُنصح بمراعاتها عند الاختيار , لكي يزيد ذلك من فرص الإنسان في الحياة الآمنة ..
منها أن يتجنب الإنسان وبقدر الإمكان أن يبدأ مرحلة جديدة من حياته بذيول مشكلة
قديمة لم تجد حلها النهائي بعد وأن يتجنب
التفاوت الصارخ في المستويات الاجتماعية والثقافية والمادية والأمزجة النفسية
والشخصية بين طرفي العلاقة الزوجية .. وأن يتفادى العيوب الصارخة البادية للعيان ,
وفيما عدا ذلك فكل شئ رهين بإرادة الله سبحانه وتعالى وبعزم الإنسان الصادق على أن
يسعد بحياته وأن يُسعد من يقاسمه الحياة , ثم يحسن تصرفه فيما سيواجهه من مشكلات
يومية وعادية لا تخلو منها حياة , ولهذا فإني أقول لك يا آنستي في البداية أن
زواجك لا ينبغي أن يكون همك وحدك وإنما من واجب أبيك أن يتحمل معك عناء التفكير
والحيرة في الاختيار , فأنت لست نبتا شيطانيا وإنما أنت أمانة ومسئولية أبدية
يتحملها أبوك إلى يوم الدين .. لهذا ينبغي أن تشركيه معك في التفكير والحيرة وتحمل
مسئوليتك النفسية والأدبية وأن تشركي أهلك معك في ذلك أيضا وأن تستعيني بآرائهم
على حسن الاختيار وبعد ذلك أجيب على تساؤلاتك الحائرة فأقول لك أن فارق السن بينك
وبين من تقدم لك لم يتعد بعد حدود الأمان وإن كان يقارب الحد الأقصى الذي يُنصح
بعدم تخطيه عند الزواج , وإن صاحب التجربة السابقة في الزواج ليس من الضروري ألا
يتزوج إلا ممن كانت لها تجربة سابقة مثله , وإنما الأهم هو أن يتقدم لمن تقاربه في
السن والميول والظروف الأخرى .. والفشل في الزواج في النهاية ليس مما يعيب أحدا
ولا يعني سوى أن صاحبه لم يوفق للسعادة مع من تزوجها ومن الممكن جدا أن يكون هو
نفسه النصف المثالي لإنسانة أخرى , وقد يفشل الزواج أحيانا لغير عيب في أحد طرفيه
, وإنما لأن كليهما لم يخلق للآخر , ولا لوم على أحدهما إذا سعى لتصحيح العلاقة
الزوجية بشرط ألا يكون لها ضحايا .. أو إذا أطمأن ضميره إلى أنه لن يقصر في محاولة
إنقاذ سفينته من الغرق في بحر الظلمات.
والمرء يطلب لنفسه
غالبا الحد الأقصى من الأشياء , فإذا طلبت لنفسك ألا تتزوجي إلا من شاب لم يسبق له
الزواج فلا لوم عليك في ذلك وإذا رأيت أن هذا الشاب هو الأقرب إلى تصوراتك عن شريك
الحياة والأقدر على أن يحقق لك السعادة والأمان فلا بأس باختيارك والمهم في كل ذلك
هو أن تستشيري أهلك وعقلك وقلبك , وألا تسمحي لشبح الماضي بأن يشل إرادتك لنيل
السعادة بالخوف من تكرار التجربة الفاشلة لأبويك فأنت لست مسئولة عن فشل زواج هذا
الشاب وحرمان طفله من نشأته بين أبوين طبيعيين كما أنك أيضا لست مسئولة عن فشل
زواج أبيك وأمك ونشأتك شريدة في بيت جدك , فإذا اطمأن ضميرك وقلبك إلى استحالة
عودة هذا الشاب إلى زوجته السابقة لتصحيح الخطأ الذي ارتكباه بتشريد طفلهما , فمن
يدري أليس من المحتمل أن تكوني أنت هبه السماء لهذا الطفل المحروم لتعويضه عن
حرمانه وتنشئته النشأة التي تمنيتها أنت لنفسك بغير تفرقة بينه وبين من سوف ترزقين
بهم من أطفال ! نعم ولم لا ؟ وأقدرالناس على الاحساس بقهر المغبون هو من فرضت عليه
الحياة أن يعاني نفس تجربته ؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا يكون هذا
"الماضي الأسود" الذي تشيرين إليه .. هو دافعك بل وشفيعك عند ربك للمسح
على جراحك , والهجرة إلى "المستقبل الأسعد" بإذن الله ؟
يا آنستي أشركي أباك
وأخوالك معك في مسئوليتك واستفتي عقلك وضميرك وقلبك ثم اعملي بما يهديك إليه كل ذلك
ولن يكون إلا كل خيرا لك إن شاء الله.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" نوفمبر 1992
كتابة النص من مصدره / بسنت
محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر