البيت الخشبي .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2003

 البيت الخشبي .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2003

البيت الخشبي .. رسالة من بريد الجمعة سنة 2003

 

لقد قلت مرارا إن الإنسان يحتاج إلى أن يحتاج إليه بعض البشر ، وأن حياته تقوم وتقدر بعدد الذين يعتمدون عليه في حياتهم وعدد الذين يستظلون بظله ويعيشون في حماه .. كما أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش في المنفى إلى الأبد .. والبعد عن الأهل وقطع الجذور نفي أبدي للإنسان لا يطيقه أصحاب القلوب الحكيمة .. لهذا يؤب الغائب دوما بعد طول الإبحار في البحار البعيدة إلى مرفئه القديم في النهاية, ويرجع إلى الجذور والأصول ليجد نفسه.. ويجد من يسعدون به وينتمون إليه .

 عبد الوهاب مطاوع


أرجو أن تصبر علي قراءة رسالتي هذه حتى نهايتها .. فأنا أعلم أنها ستكون طويلة لأن ما أريد أن أرويه لك يحتاج إلى صفحات وصفحات .. فأنا رجل أقترب من الخمسين نشأت في أسرة كثيرة الأبناء لأب تاجر صغير لا يعرف من الحياة سوى بيته وتجارته التي يمضي فيها سحابة النهار ثم يرجع في العصر ليتناول غداءه ويستريح لمدة ساعة ويعود إلى محله .. ولأنني أكبر الأبناء فلقد كان يقع علي دائما عبء الحلول محل أبي في فترة الراحة .. أو كلما سافر إلى المدينة القريبة مرة كل شهر ليشتري بضائع تجارته .. والحق أنني كنت أضيق أشد الضيق بهذا التكليف الذي يرغمني عليه أبي, وأتساءل دائما بعقلية الصبي الصغير لماذا يسجنني أبي في محله ساعتين كل يوم وبقية أخوتي أحرار يلعبون ويلهون؟!

 

ومضت الأيام والتحقت بالمدرسة الثانوية .. وبدأت أسمع همسا مزعجا في بيتنا حول مستقبلي, وتناثرت الأقوال إن أبي يريدني أن أترك الدراسة لأعاونه في المحل خاصة بعد أن ساءت صحته, ولكي أستعد من جهة أخرى لتحمل المسئولية عن أخوتي الخمسة من بعده .. وانزعجت بشدة لما سمعت وحدثت فيه أمي, وقلت لها بصراحة إنني لا أرى لنفسي أي مستقبل في العمل بالمحل, وأريد أن أنهي تعليمي الثانوي وألتحق بالجامعة في القاهرة وأعمل بها بعيدا عن المدينة الصغيرة التي نشأت فيها .. وخفت الهمس بعض الشيء لكني لم أفقد حذري وشكوكي أبدا.. وكان أول ما فعلت هو أن صممت على أن أنجح بتفوق كل سنة لكيلا يكون لأبي حجة علي في التوقف عن التعليم, ونفذت ذلك بنجاح حتى حصلت علي الثانوية العامة بمجموع معقول .. وانفجرت المشكلة المؤجلة في حياتي ودوى الانفجار..

 

فلقد طالبني أبي بالتوقف عن التعليم وتحمل مسئوليتي عن مستقبل أخوتي .. ولأول مرة في حياتي أجابهه بالرفض الصريح لشيء يطلبه مني وأعلنه أنني سأواصل تعليمي الجامعي في القاهرة .. وجن جنون أبي وصفعني عدة مرات .. وأقسم أنني إن ركبت رأسي وصممت على الذهاب إلى القاهرة فلن ينفق علي مليما واحدا ولن أكون ابنه ولن يكون أبي حتى نهاية العمر.

واستمعت إلى وعيده صامتا وتصميمي على تنفيذ ما أريد يزداد إصرارا وقاطعني أبي بعدها .. ومنع عني مصروفي القليل .. وأخفى ملابسي في مكان مجهول, فلم يعد لدي إلا ما كنت أرتديه عند الصدام وهو قميص متسخ وبنطلون بسيط .. وحرم على أمي غسل ملابسي وعلى أخوتي أن يعطوني أي شيء..

 

وأمضيت أيام الصيف وأنا في كرب شديد إلى أن ظهرت نتيجة التنسيق الذي تقدمت إليه, وعرفت الكلية التي سأدرس بها بالقاهرة .. وجاء اليوم الذي لابد لي فيه من السفر إلى العاصمة وليس في جيبي قرش واحد, وليس على جسدي سوى القميص الذي أغسله بنفسي وأنتظره والبنطلون الذي يكاد يستهلك, ورجوت أمي أن تعينني بأي مبلغ فأعطتني جنيهين وهي خائفة وحملت حقيبة صغيرة ليس فيها سوى فوطة وبيجامة وشبشب ومنديلين وجوربين, واستعددت لركوب القطار إلى القاهرة..

 

وعز علي أن أسافر دون وداع أبي .. فطرقت باب غرفة نومه وهو في فترة الراحة وقلت له إنني لا أريد أن أسافر وهو غاضب علي وكل ما أطلبه منه هو أن يسمح لي بتقبيل يده قبل السفر .. فلم يرد علي بكلمة واحدة وإنما أشاح بوجهه إلى الناحية الأخرى ووضع يده وراء ظهره لكيلا أقبلها, ولم أجد ما أفعله بعد ذلك فانسحبت وأنا حزين ووصلت إلى القاهرة, وخرجت إلى ميدان رمسيس وتطلعت إلى طوفان البشر والسيارات والأتوبيسات الذي يتحرك فيه, وتساءلت ماذا سيكون من أمري فيك أيتها المدينة الكبيرة .. وبعد سؤال البعض ركبت سيارة أتوبيس متجها إلى حي قديم من أحياء القاهرة .. فلقد كانت لي خالة تقيم في هذا الحي مع زوجها وأبنائها, وقد أرشدتني أمي في اللحظة الأخيرة للذهاب إليها والإقامة عندها حتى أستطيع أن أجد لنفسي سكنا.

 

ورحبت بي خالتي وأولادها وزوجها برغم بساطة حالهم .. وأدركت من الظروف المحيطة بي أن أقصى ما يستطيعون تقديمه لي هو المأوى المحشور بين أجساد أولادهما ولمدة مؤقتة.

 ثم بدأت كفاحي المرير لإعالة نفسي وتحقيق طموحي في القاهرة, فالتحقت بالكلية وطفت معظم شوارع وسط المدينة بحثا عن لقمة العيش, ووجدت نفسي ذات يوم أمام مقهى يجلس فيه بعض الفنانين والمشاهير .. فرجوت صاحبه أن يسمح لي بالعمل فيه دون أجر على أن يكون عملي هو قضاء المشاوير التي يطلبها رواد المقهى مقابل ما تجود به أيديهم من بقشيش, ونظر إلي صاحب المقهى طويلا وسألني عن ظروفي فصارحته بها كلها ابتداء من غضب أبي علي وقطع المصروف عني إلى الكلية التي التحقت بها إلى أحلامي في القاهرة.

فطلب الاطلاع علي بطاقتي الشخصية .. وسجل بياناتها لديه وكتب عنوان خالتي ثم سمح لي بالعمل, وبدأت أول عمل أمارسه في القاهرة الكبيرة .. أشتري السجائر لهذا, وسندوتشات الفول والطعمية لذاك, وأحمل حقيبة أوراق الأستاذ فلان إلى سيارته .. وأفعل أي شيء وكل شيء, واستمررت في هذا العمل عامين استطعت خلالهما أن أشتري قميصا آخر عدا القميص الأزلي الذي جئت به من بلدتي .. ونجحت في امتحاناتي وساهمت ببضعة جنيهات في ميزانية أسرة خالتي لكيلا تضيق بوجودي وتطردني .

 

وازدادت ثقة صاحب المقهى بي فأصبح يكلفني بشراء التموين للمقهى, ويطلب مني إعداد الحسابات .. ودفع الفواتير الخاصة بالعمل, وفي هذا المقهى أيضا تعرفت بالحاج حمزة واكتسبت مع العشرة ثقته وحبه .. وهو رجل متدين ويعمل مقاولا .. ويمضي سهرته بالمقهى كل مساء يدخن الشيشة ويستقبل العاملين معه ويحاسبهم, وشيئا فشيئا بدأ يكلفني ببعض الخدمات كمتابعة مستخلصات مالية له في وزارات الأشغال أو الأوقاف أو التعليم وهكذا .. وينفحني نفحات سخية كلما أنهيت له مشكلة .

 

وتخرجت في الجامعة .. وعينت في وظيفة صغيرة وأصبح لي دخل ثابت ولو كان بسيطا لأول مرة منذ غضب علي أبي, واحتفلت بأول مرتب بأن اشتريت بنطلونا آخر, وبلوفر لمواجهة الشتاء, بعد أن عشت في القاهرة 4 سنوات لا يستر جسدي في أمسيات الشتاء القارس سوى نفس القميص الأزلي .. واتصلت تليفونيا بأبي لأزف إليه خبر نجاحي .. فلم يرد علي السلام ولم ينطق بكلمة واحدة, وإنما أعطى السماعة لأحد أخوتي الصغار فأبلغته الخبر وطلبت منه إبلاغه لأمي, وأنهيت المكالمة وفي قلبي غصة أفسدت علي فرحتي.

 

 وعلي أية حال فلقد اعتبرت الوظيفة ساعات ضائعة من عمري أقضيها على مضض في العمل كل يوم ثم أخرج للدنيا الواسعة التي سأحقق فيها أحلامي, فأذهب إلى الحاج حمزة في الموقع الذي يعمل فيه وأقف إلي جانبه منتظرا أية إشارة لتلبيتها, ثم طلب مني الحاج أن أرافقه ساعات المساء كل يوم لأقوم له بأعمال السكرتارية ومتابعة العمل مقابل مرتب شهري ورحبت بذلك, وأصبحت سكرتيره وحامل حقيبته بل وسائقه الخاص أيضا كلما غاب سائقه, وطوال عملي معه لم أكف عن التطلع حولي ومحاولة فهم أسرار العمل .. واكتساب خبرته, إلى أن جاءتني الفرصة بعد عدة سنوات حين احتاج الحاج إلى مدير مقيم بموقع أحد مشروعاته تحت الإنشاء بعد ترك المدير السابق لعمله فجأة, وسألني الحاج عمن يصلح لأداء هذا العمل .. ففاجأته بقولي: أنا !

ورد مندهشا : أنت ؟ قلت نعم, وسوف أسلمك المشروع قبل الموعد المحدد لانتهائه وإذا فشلت فلك الحق في أن تفصلني .. وفكر الرجل بعض الشيء .. ثم قال على بركة الله .

 

 وتسلمت المشروع وكان أول ما فعلته هو أن طلبت سريرا ووضعته في الغرفة الخشبية التي يدير فيها المدير العمل, لكي أبيت في البيت الخشبي هذا وأبقى في الموقع 24 ساعة كل يوم, وبدأت العمل بحماس رهيب .. ووجدني العمال والمهندسون بينهم طوال الليل والنهار, وأصبح هذا البيت الخشبي هو أول سكن خاص لي منذ وطأت قدمي أرض القاهرة .. وبعد قليل أضفت إليه دورة مياه صغيرة, فأصبح بيتا ممتازا, ولست في حاجة لأن أقول لك إنني قد نجحت في مهمتي وسلمت المشروع قبل موعده.. وأسفت لاضطراري لمغادرة البيت الخشبي الذي سينقل إلى موقع آخر, ففزت بعد هذه العملية بعدة مشروعات بنفس الطريقة لحساب الحاج حمزة, وفي كل مرة أقيم في البيت الخشبي حتى انتهائه ثم أرجع للانحشار وسط أبناء خالتي التي انتظمت في دفع مبلغ شهري صغير لها..

ومن مشروع إلى مشروع .. ومن موقع بعيد إلى موقع أبعد منه .. تجمع لدي بضع عشرات من ألوف الجنيهات في البنك, بغير أن يتغير أي شيء في مظهري الخارجي أو حياتي .. فمازلت بالقميص والبنطلون والصندل ومازلت أعتمد في طعامي علي ساندوتشات الفول والطعمية, ومازلت لا أدخن ولا أرفه عن نفسي بأي شيء من أطايب الحياة .

 

وفكرت في أمري طويلا فوجدت أن سنوات الحرمان الطويلة التي قرصني فيها الجوع في أمسيات عديدة, وعدت فيها من العمل إلى بيت خالتي ماشيا على الأقدام وأنا في قمة التعب لمدة ساعتين ونصف الساعة, والخوف المتأصل في نفسي من الغد .. كل ذلك قد أوجد في داخلي حرصا شديدا على عدم إنفاق النقود إلا فيما يأتي بمزيد من النقود.

إنني أعترف لك بذلك وسأعترف لك بما هو أكثر منه لأني عاهدت نفسي أن أكون صادقا فيما أرويه .

 

المهم أنني بعد أن اطمأننت إلى رصيدي طلبت من الحاج حمزة أن يعطيني مقاولة خاصة بي من الباطن .. ورحب الرجل, وبدأت أول عملية منفردا ونفذتها وحققت ربحا جيدا فيها .. فاستأذنت الحاج حمزة في أن أعمل مستقلا .. ولم يعترض الرجل الطيب بل شجعني على ذلك, لكنه لفت نظري إلى أن المقاول لابد أن يكون مظهره موحيا بالثقة في إمكاناته المادية, وإلا تخوف منه أصحاب الأعمال, وبالتالي فلابد لي من شراء سيارة وملابس وساعة ذهبية وإنفاق بعض المال على مظهري العام .. واستوعبت الرسالة .. وانتزعت من مالي بصعوبة بالغة ما يكفي لتحسين مظهري في أضيق الحدود .

 

وبدأت العمل منفردا .. ونفذت عملية .. وثانية وثالثة ورابعة وخامسة ودارت العجلة بأقصى سرعتها, فوجدت نفسي بعد سنوات في عداد الأثرياء, وتوقفت لأتأمل الطريق الذي قطعته حتى وصلت إلى هذه النقطة .. فوجدت أنه قد مضت 16 سنة على اليوم الذي خرجت فيه إلى ميدان باب الحديد قادما من بلدتي وفي جيبي 140 قرشا بعد قطع تذكرة بالدرجة الثالثة بالقطار, وتذكرت أنني طوال هذه السنوات الست عشرة لم أنم يوما أكثر من خمس أو6 ساعات في اليوم .. وأنني كنت أبدأ يومي دائما في الخامسة صباحا مهما تأخر بي النوم .. كما أنني وهو الأهم لم أر أمي إلا مرتين سافرت خلالهما إلى مدينتي, وتسللت إلى بيتنا ورأيت أمي واستمتعت بدفء مشاعرها بعض الوقت ورأيت أخوتي الصغار أو من كانوا صغارا, ثم أسرعت بالعودة قبل أن يرجع أبي للبيت وأصطدم به .

 

وقررت أن أتوقف عن اللهاث بعض الوقت وأعيد ترتيب حياتي .. وكان أول ما فعلت هو أن أسست شركة لتأجير المعدات الثقيلة التي استخدمها في المقاولات .. ومكتبا تجاريا لممارسة بعض الأعمال التجارية التي تحقق ربحا كبيرا ولا تكلفني عشر المجهود الشاق الذي أبذله في المقاولات, وتزوجت من مهندسة كانت قد عملت معي في بعض عملياتي واسترحت إليها واشترطت عليها التفرغ للبيت ولم يحضر فرحي من أسرتي سوى خالتي وزوجها وأبنائهما والحاج حمزة وبعض المتعاملين معي .. أما أبي وهنا المأساة التي دفعتني للكتابة إليك فلقد رحل عن الحياة, وهو غاضب علي قبل زواجي بعام, ودون أن أسعى إلى مصالحته أو طلب رضائه .. وعدت إلى بلدتي وحضرت العزاء فيه وأنفقت على السرادق والشيوخ الذين أحيوا سهرة العزاء .. وأنا جامد المشاعر .. لا أعرف هل أنا حزين لوفاته أم لأنه مات قبل أن يصفح عني, أم لأنه لم يعرف كل الحقائق عن نجاحي المادي بعيدا عنه!

 

لقد تسربت الأنباء إليه بغير شك .. ولابد أنه عرف أنني قد أصبحت ثريا وأركب سيارة مرسيدس وأسكن في شقة فاخرة, لكني لم أر تأثير ذلك عليه بنفسي, ولم أعرف هل اعترف بنجاحي أم ظل مصرا علي أنني ابن عاق وخائب ولن أرى خيرا أبدا في حياتي ؟!

 

تسألني ولماذا لم تحاول مرارا وتكرارا أن تطلب صفح أبيك عنك كما تطلب دائما من الأبناء, ولماذا لم تغدق على إخوتك ووالدتك بالعطاء فيشعر أبوك بنجاحك وبأنك قد خيبت ظنه فيك, فيراجع موقفه منك ويغير رأيه فيك ؟! وأجيبك بصراحة لأن قسوة السنين التي عشتها منبوذا وطريدا من رحمة أبي في القاهرة والتي عرفت فيها الجوع والعري ومذلة الحاجة واستجداء عطف الآخرين لكي أعيش, كل ذلك قد وضع على قلبي حجرا بالنسبة لأبي, بل وبالنسبة لكل أسرتي التي تخلت عني ولم تحاول أن تدفع عني الجوع والعري في سنوات العذاب. لكني بالرغم من ذلك أتساءل الآن, ماذا لو كنت قد واصلت السفر إلى بلدتي كل شهرين أو ثلاثة ووقفت أمام أبي متوسلا وراجيا,

ألم يكن سيلين بعد عدة مرات ويصفح عني ويمنحني مباركته ؟

 

ثم إنني كنت أعرف أن تجارة أبي متعثرة وأنها تكاد تفي بصعوبة باحتياجات الأسرة, فماذا لو كنت قد وضعت بين يديه مثلا ثلاثين أو أربعين ألف جنيه وطلبت منه أن يدعم بها تجارته وأن يعتبرني شريكا رمزيا بهذا المبلغ .. ألم يكن ذلك ليرضيه ويعينه علي الصفح عني بل والافتخار بي ؟! .

 

لكني لم أفعل ذلك برغم أن هذا المبلغ لم يكن ليمثل لي شيئا ولم أقدم لأبي ولا أخوتي في الحقيقة شيئا .. وكل ما فعلت طوال هذه السنوات هو أنني أرسلت هدية ذهبية بسيطة لأمي في عيد الأم مرتين وأنا الآن نادم بشدة على كل ذلك .. نادم على أنني لم أعن أبي على أمره ولم أساعده على الصفح عني .. ونادم على أنني لم أعن أخوتي الصغار على أمرهم ورضيت لهم جميعا حياة جافة بسيطة من تخرج منهم وعمل ومن لم يتخرج.

 

وقبل أن تسألني عما حدث في حياتي وحرك هذه المشاعر فجأة في داخلي أقول لك إنني وأنا في قمة نجاحي المادي والعملي والاجتماعي .. وبعد أن هدأ اللهاث وأصبحت أملك أوقاتي .. وأتسلى من حين لآخر بحساب أملاكي وملاييني, شكوت فجأة من صداع شديد لم تفلح فيه كل المسكنات فاستدعيت الطبيب فكانت هذه هي البداية لما تلاها من فحوص وإشاعات وسفر إلى الخارج .. وعودة إلى مصر.. وجراحة أولى دقيقة خطيرة.. وشلل خفيف في الجانب الأيسر مع ثقل خفيف في اللسان..

ثم جراحة ثانية بعد عدة شهور ثم عشرات القيود الصحية.. على الحركة والمجهود والطعام والشراب وكل شيء, فيما يشبه العودة إلى سنوات الحرمان من كل متع الحياة التي خبرتها وخبرتني, لقد أنجبت خلال رحلة العمر ولدا وبنتا لم يصلا بعد إلى سن الشباب .

 

والآن فإنني أستعد لإجراء الجراحة الثالثة والأخيرة لإنقاذ حياتي.. فإما أن تنجح وأنجو مما يترصدني من أخطار.. وإما أن تفشل ويحم قضاء الله دون أن أجد الوقت والفسحة للتمتع بما شقيت معظم سنوات عمري لأصل إليه, ودون أن أجد الفرصة أيضا لتعويض ما فاتني من البر بإخوتي وأمي وأهلي, الذين باعدوني في سنوات الحرمان.. وباعدتهم أنا في سنوات الثراء واللمعان.

 

لقد آثرت أن أروي لك كل شيء بصدق ولم أحاول أن أتجمل أو أزيف صورتي.. وقلت لك بصراحة إنني نادم لأن الوقت قد فات لإصلاح خطئي في حق أمي وأخوتي الذين يعيشون حياة صعبة خاصة بعد موت أبي, حيث تفرغ الابن الذي يليني للعمل في تجارة أبي المثقلة بديون الضرائب .. ولا يكاد ريع المحل يحفظ عليهم مظهرهم كأسرة شبه مستورة فبماذا تشير علي؟

 

 

ولكاتب هذه الرسالة أقول :

لا يفوت الأوان أبدا للبر بالأهل وتخفيف الحياة عنهم .. وصلة رحمهم ..

فإذا كنت نادما على أنك لم تبذل الجهد الكافي لاسترضاء أبيك ونيل صفحه عنك قبل رحيله عن الحياة.. وإذا كنت تشعر ببعض الذنب تجاهه لأنك حين ملكت المال الوفير لم تفكر في إعانته علي أمره ببعض مالك, فإن الفرصة لم تضع بعد لتعويض كل ذلك.. بل لعلها الآن متاحة أمامك بأوسع مما كانت في أي وقت مضى .

 

فشقيقك الذي تحمل مسئولية أخوته دونك ويواجه الحياة بتجارة صغيرة متعسرة يستحق منك أن تشد أزره وتحيي تجارته ببعض مالك فتعينه على أمره وتحفظ كرامة أسرتك واسم أبيك, واسمك وكرامتك أنت أيضا, لأن كل ما يمس وضع إخوتك وأسرتك إنما يمس وضعك وكرامتك بنفس القدر, ولأن تكون ابنا أكبر لأسرة كريمة مستورة أفضل كثيرا من أن تكون ابنا لأسرة يلاطم كل أفرادها الحياة .. ما عدا الابن الأكبر الشارد بعيدا عن أسرته وحده !

 

أما والدتك التي زرتها مرتين فقط خلال 16 عاما, ورضيت لها على البعد بمكابدة جفاف الحياة في وجود أبيك ومن بعد غيابه وأنت القادر علي تيسير الحياة عليها .. هذه الأم المكافحة ماذا يمنعك الآن وبعد أن زالت كل الحواجز من أن ترعاها وتغدق عليها وتزورها وتستزيرها في شقتك الفاخرة لتري ماذا حقق ابنها الذي تنبأ له البعض بالفشل, وتستعيد صلة الابن بأمه فتتصل بها كل حين وتزورها كلما سمحت الظروف وتطرفها ببعض الطرائف والهدايا كل حين استرضاء لنفسها ومحوا لسابق تقصيرك الطويل معها .

بل وماذا يمنعك أيضا من أن تقرب إليك إخوتك وتكون أبا لهم من بعد أبيهم وترعي أحلامهم الصغيرة وتحقق لهم مطالبهم البسيطة, فتصبح بذلك فخرهم العائلي.. ونجم الأسرة الذين يتباهون به في ساعة الفخر والاعتزاز .

 

انك تتصور أن مالك سوف ينقص من جراء ذلك.. وقد تتحرك قرون استشعارك القديمة التي كانت تنفر من الإنفاق فيما لا طائل تحته تأثرا بسنوات الحرمان القاسية, لكن ثق من أن هذا الإنفاق بالذات لا ينقص المال وإنما يزيده ويربيه ويطهره تطهيرا..

 

ألم تقرأ في الحديث أنه ما نقص مال من صدقة ؟..

لقد آن الأوان لأن تؤدي حق الله سبحانه وتعالى في مالك, وأن تطهره بالزكاة.. ومن حصيلة هذه الزكاة المفروضة والتي لا تملكها أنت وإنما هي مال الله وضريبته العادلة, تستطيع أن تصلح أحوال أخوتك جميعا ما عدا والدتك التي لا تجوز عليها زكاتك لأنك تتحمل كامل المسئولية عن إعالتها إذا كانت محتاجة, وتكريمها إن لم تكن قد فعلت ومن صلب مالك وليس من زكاته. في حين يجوز أن تصلح أحوال الإخوة الذين لا يكفيهم نصابهم من هذه الزكاة المطهرة .

 

انك إن تفعل ذلك إنما تجعل لحياتك قيمة جوهرية وأساسية لدي إخوتك فيحرصون عليها حرصهم علي أنفسهم ويبتهلون إلي الله سبحانه وتعالي أن يحفظ عليك حياتك لتظل دائما الشجرة الوارفة التي يستظلون بها .

 

ولقد قلت مرارا إن الإنسان يحتاج إلى أن يحتاج إليه بعض البشر ,

وأن حياته تقوم وتقدر بعدد الذين يعتمدون عليه في حياتهم وعدد الذين يستظلون بظله ويعيشون في حماه. كما أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش في المنفى إلى الأبد .. والبعد عن الأهل وقطع الجذور نفي أبدي للإنسان لا يطيقه أصحاب القلوب الحكيمة .. لهذا يؤب الغائب دوما بعد طول الإبحار في البحار البعيدة إلي مرفئه القديم في النهاية, ويرجع إلي الجذور والأصول ليجد نفسه.. ويجد من يسعدون به وينتمون إليه ..

 

وكذلك ينبغي لك أن تفعل .. وأن تعتبر رحلة التحدي التي بدأتها شابا صغيرا قد انتهت منذ زمن طويل وغابت رموز هذه المرحلة عن الحياة, ولابد من العودة إلي الحياة الطبيعية التي يحياها كل البشر.. بلا تحديات مع المجهول ولا محاولة أبدية لإثبات شيء ما.. ولا مشاعر عدائية تجاه أحد ..

فافعل كل ذلك ..

وداو أمراضك وأوجاعك بصلة رحم إخوتك وأهلك والبر بهم .. وثق من إحساسك بالذنب تجاه أبيك وسوف يتراجع كثيرا حين تفعل ذلك .

وفي التنزيل الحكيم :

وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ

صدق الله العظيم

ردود قراء بريد الجمعة على صاحب الرسالة 
في باب أصدقاء على الورق 

 

رابط رسالة العبارة الصامتة تعقيبا على هذه الرسالة

رابط رسالة الاختبار الثاني تعقيبا على هذه الرسالة

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2003

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات