الاختبارالثاني .. رسالة من بريد الجمعة عام 2003
قرأت رسالتي البيت
الخشبي .. و العبارة الصامتة وانبهرت بقصة كفاح كاتب كل منهما حتى تغلب على قسوة
الظروف وحقق النجاح والثراء, وتألمت لهما حين دفع كل منهما ثمنا باهظا لهذا
النجاح من سعادته وحياته, فمرض الأول مرضا خطيرا وأجريت له عدة جراحات ويستعد
الآن لإجراء جراحة خطيرة وأخيرة, ووقع الثاني أسيرا لجمال زوجته الثانية التي
تزوجها بعد رحيل زوجته الأولى الطيبة رفيقة الكفاح, فراحت الزوجة الجديدة تبتزه
ماليا, بشكل مفضوح وتهجره وترفض العودة إليه إلا بشروط مالية سافرة تكشف عن
رغبتها في استغلال تأثيرها الحسي عليه ماديا.
ولقد دفعتني هاتان
الرسالتان لأن أروي لك أنا أيضا قصة كفاح من نوع آخر يمكن أن تسميه كفاح البسطاء
للاستمرار أحياء وتحقيق أحلامهم الصغيرة في السعادة والأمان, فأنا رجل نشأت في
أسرة مصرية عادية لا هي بالفقيرة المعدمة ولا هي بالغنية أو الميسورة, وإنما هي
أسرة موظف جامعي بالحكومة يجيد تقسيم دخله المعلوم على مطالب أسرته, ويكرس حياته
لتلبية مطالب الأسرة والأبناء, ولا يخص نفسه بأي متعة من متع الحياة.. وليست
له نزهة إلا الجلوس في المقهى مساء يوم الخميس من كل أسبوع للعب الطاولة مع بعض
أصدقائه, والعودة سعيدا مبتهجا قرب منتصف الليل حاملا كيس الفاكهة الشعبية
الأسبوعي.
وفيما عدا ذلك فهو
كما يقولون من البيت للعمل ومن العمل إلى البيت, يقضي أمسياته بين أبنائه وزوجته..
في السهر ومراقبة مذاكرة الأبناء والقيام بالإصلاحات المنزلية بنفسه من سباكة إلى كهرباء
إلى نجارة بسيطة توفيرا لنفقات العمال.
وفي هذا الجو
الهاديء البسيط نشأت وتقدمت في مدارج العمر, وحملت لأبي دائما أكبر الحب وأقصى
الاحترام.. وأعجبت كثيرا بطريقته في التربية, فلقد كان حازما مع أبنائه ولكن
في رفق ورحمة.. ولا يضرب أحدهم أبدا وإنما يعاقب المخطيء والمسيء منهم بالخصم من
مصروفه الشهري البسيط, أو بحرمانه منه كلية ثم لا يلبث أن يتقبل اعتذاره بنفس
صافية ويرجع إلى الحنو عليه من جديد.
تقدمت في مراحل
الدراسة حتى بلغت الجامعة.. وتعرفت وأنا في السنة الأخيرة بزميلة لي وتبادلنا
الحب والعهد على أن نتزوج حين تسمح لنا إمكاناتنا بذلك, وتخرجت ونجح أبي في
إلحاقي بالعمل في إحدى الهيئات التابعة لوزارته.. وعندما قبضت أول مرتب لي
اشتريت منه خاتما ذهبيا كان ثمنه أقل من أربعة جنيهات وقتها.. وعصا أبنوسية
فاخرة من خان الخليلي بأقل من جنيهين, وصينية بسبوسة كبيرة وصينية كنافة..
وعدت فخورا إلى البيت فقبلت يد أمي وقدمت لها الخاتم عرفانا بكل ما فعلته من أجلنا,
وقدمت العصا الأبنوسية لأبي وقبلت يده ورأسه فطفرت عينه بالدمع وهو يقبل جبيني,
وقدمت البسبوسة والكنافة لإخوتي, واحتفلنا احتفالا صاخبا بأول مرتب في حياتي.
وبعد يومين سألت
أبي عن المبلغ الذي يحب أن أساهم به في ميزانية الأسرة, فطلب تقدير أي مبلغ أراه
مناسبا, ولكن ليس للمساهمة في ميزانية الأسرة وإنما لادخاره للمستقبل وللوقت
الذي سأحتاج فيه إلى نقود للزواج. ورفض بإلحاح أية مساهمة من جانبي, وامتثلت
لرغبته في فتح دفتر توفير بالبريد ووضع المبلغ الشهري البسيط فيه, لكني خصصت لكل
أخ وأخت من أخوتي مصروفا بسيطا لا يزيد علي50 قرشا في الشهر, فساهم المبلغ
القليل في التوسعة عليهم وقرت به أعينهم, حيث كان مصروفهم الشهري لا يزيد على150
قرشا وهو نفس مصروفي حتى تخرجت, وبعد شهور بدأت فتاتي تشعر بالقلق وتستحثني على
القيام بخطوة على طريق مشروع الزواج.. وفاتحت أمي في الأمر فوعدتني بالمساعدة
لدى أبي.. وبعد أيام ذهبت مع أبي وأمي وأخوتي إلى بيت فتاتي وقرأنا الفاتحة..
وبدأنا مشوار الألف ميل لتوفير إمكانات الزواج, وكان عش الزوجية هو المعضلة التي
تقصر كل إمكاناتنا عن حلها, وبعد عامين من الخطبة حسمت مع فتاتي هذه المعضلة بأن
قررنا أن نتزوج ونقيم في غرفتي بمنزل أهلي لمدة عام.. ثم ننتقل للإقامة في
غرفتها بمنزل أهلها لمدة عام آخر وهكذا إلى أن نستطيع توفير الشقة مع تأجيل
الإنجاب إلي أن يصبح لنا مسكن خاص..
وعرض كل منا الفكرة
على أهله فرحبوا.. وقال لي أبي أنه استبدل جزءا من معاشه ليقدم لي مبلغ مائة
جنيه كمساعدة في الزواج, وأنه يفضل الآن بعد التوصل لهذا الحل المؤقت أن يخصص
المبلغ لدفع مقدم شقة صغيرة في التعاونيات أواصل سداد أقساطها حتى موعد تسلمها وشكرته كثيرا علي
ذلك.
وتزوجنا.. وتنازل
شقيقي الذي يصغرني بعامين عن مشاركته لي غرفة نومي وأصبح ينام على كنبة مريحة في
الأنتريه.. وبدأنا حياتنا الزوجية بغرفة نوم واحدة.. جاءت بها عروسي.. وكانت
زوجتي قد عملت هي الأخرى فتعاونا معا على الحياة, وخصص كل منا مبلغا شهريا
للمساهمة في ميزانية البيت الذي نقيم فيه, ومبلغا آخر للادخار في دفتر التوفير
لكي نستطيع توفير الشقة ذات يوم قريب أو بعيد.. وانتهى عامنا الأول فنقلنا غرفة
نوم العروس بسيارة نصف نقل إلى بيت زوجتي وأعدنا فرشها في غرفتها وأمضينا عامنا
الثاني هناك, ونفذنا هذا النظام التبادلي لمدة3 سنوات حتى من الله علينا بعدها
بشقة تعاونية من غرفتين قسطها الشهري60 جنيها.. فكان يوم انتقالنا إليها عيدا
آخر, ورتبنا حياتنا في الشقة الجديدة التي بدت في عيوننا أجمل من كل الشقق
والقصور, واستكملنا الأثاث تدريجيا فاشترينا أنتريها بالتقسيط ثم مائدة للطعام و4
كراسي.. واستقرت بنا الحياة.. وحملت زوجتي وأنجبت مرتين.. وصارت لي أسرة
صغيرة جميلة نذهب معا كل يوم جمعة إلى بيت أهلي فنمضي معهم وقتا سعيدا ونذهب كل
يوم أحد إلى بيت أهل زوجتي فنسعد بصحبتهم ويسعدون بصحبتنا, وضغطت علينا
مطالب الحياة كثيرا
بعد أن عرفنا متاعب الأطفال وأمراضهم وأمصالهم.. وأدويتهم, لكننا لم نستسلم
أبدا ولم نشعر بأننا محرومون من شيء وتفننت زوجتي في تدبير حياتنا بما هو متاح لنا,
وكان من آياتها في ذلك أنها حرمت علينا اللحم الصحيح خمس سنوات,
كانت خلالها لا تتعامل مع لحم الجزار إلا بالمفرمة, فتفرمه وتضيف إليه الخضراوات
والأرز ليتحول إلى كفتة فيها من الإضافات أكثر مما فيها من اللحم, ونتناولها3
مرات في الأسبوع, أما في بقية الأيام فإننا نعتمد على الفول والطعمية.. وقد
تعلمت زوجتي خبز الخبز في فرن البوتاجاز, وصنع أرغفة الحواوشي في البيت, أما
الكساء فلقد وضعت له جدولا صارما التزمنا به سنوات طويلة.. ففي كل سنة نحصل على
استمارة أقمشة من جهة عملي أو جهة عملها فتشتري لي قميصا أو بنطلونا أو جاكيت حسب
الاحتياج ولنفسها فستانا أو بلوزة أو جيبا حسب حالة ملابسها, ولطفلنا وطفلتنا
بعض الملابس الضرورية.. فنمضي العام بعد ذلك في آمان من ناحية الكساء.
أما أنا فلقد ساهمت
معها في تسيير السفينة, بالقيام بكل الإصلاحات المنزلية بنفسي وكما تعودت أن أرى
أبي يفعل.. وبالتضحية بكل أو معظم مطالبي الشخصية لصالح الأسرة وميزانيتها فلم
أدخن.. ولم أعتد الذهاب إلى المقهى.. ولم أستخدم من وسائل المواصلات سوى
الأتوبيس مهما كان الزحام.. ولولا أننا مشتركون قسريا في نادي الهيئة مقابل
اشتراك يستقطع من المرتب لما عرفنا عالم النوادي.
لكن الأطفال يكبرون
سريعا وتزداد مطالبهم, ومرتبي ومرتب زوجتي لا ينموان بنفس المعدل.. فازداد ضغط
الحياة علينا, خاصة بعد كل زيجة لأحد أخوتي, حيث اعتدت أن أساهم في الزواج
بمبلغ في حدود قدراتي.. فبدأت أبحث عن موارد أخرى.. وسعيت للعمل الإضافي في الهيئة بكل
السبل.. وعرضت خدماتي على رؤساء الأقسام والمديرين للعمل معهم ساعات إضافية بعد
مواعيد العمل الرسمية, فإذا بمدير إحدى إدارات الهيئة يستدعيني ويسألني عن نوع
دراستي.. ومدى إجادتي للغة الانجليزية والكتابة على الآلة الكاتبة.. وكانت
لغتي الانجليزية دائما فوق المتوسط إن لم تكن جيدة وكتابتي على الآلة أكثر من جيدة,
فأبلغني أن صديقا له يعد رسالة دكتوراه ويحتاج إلى مساعد باحث يكلفه بجمع مواد
علمية للرسالة.. وترجمة بعضها.. ثم تنسيق الرسالة وتبويبها وكتابتها على الآلة
الكاتبة, فهل أنت كفء لهذا العمل؟.. فأكدت له ذلك, وبدأت العمل مع صديق
المدير.. وطفت بالمكتبات والمراجع أستخلص له المواد التي يريدها وأترجم بعضها..
مقابل مكافأة شهرية تزيد على نصف مرتبي, ثم أنتهى إعداد الرسالة وصياغتها
وتبويبها ورضى المشرف عليها عنها وتحدد موعد لمناقشتها فأعطاني صديق المدير مبلغ
خمسمائة جنيه مكافأة لي وتقديرا لإسهامي الجدي في رسالته, فهرولت إلى البيت
ووضعت المبلغ بين يدي زوجتي وراقبت بابتهاج فرحتها الطاغية.
وكنت قد تعرفت خلال
كتابة الرسالة على الآلة على صاحب المكتب الذي كتبت الرسالة لديه ومكتبه متخصص في
كتابة الرسائل الجامعية.. فطلب مني الرجل عنواني
وتليفوني ليتصل بي
إذا احتاج إلي في مهمة أخرى.
وبعد أسابيع اتصل
بي وعرفني بمدرس مساعد في معهد تابع لهيئة قارية وتعادل شهادته
الماجستير, وطلب مني التعاون معه في إعداد رسالته.. وسألني عن مطالبي فطلبت
مكافأة شهرية عادلة طوال مرحلة الإعداد ومكافأة إجمالية عند تحديد موعد المناقشة..
ووافق الرجل وبدأت العمل معه.. وعرفت سهر الليالي حتى الفجر كل ليلة لإنجاز
العمل المطلوب, ونوقشت الرسالة وحصلت على المكافأة الإجمالية, وازداد انفراج
حياتنا العائلية.
ثم توالت الرسائل
عن طريق نفس هذا المكتب.. وذات يوم التقيت بالمدرس المساعد بالمعهد لأساعده في
جمع مادة علمية لأحد أبحاثه وكان قد أصبح مدرسا, فسألني لماذا لا ألتحق بالمعهد
وأحصل على شهادته التي تعادل الماجستير وأدرس بعد ذلك للدكتوراه ولدي من الاستعداد
العلمي والثقافي والجلد على الدرس ما يؤهلني لذلك؟ وأدارت الفكرة رأسي.. ولم
أتردد في تنفيذها وخلال عامين حصلت على شهادة المعهد وبدأت أحضر للدكتوراه, مع
استمراري في عملي الحكومي. وعملي الإضافي حتى صرت لا أنام أكثر من4 أو5
ساعات كل يوم, وهزل جسمي واصفر وجهي وزوجتي تشفق علي مما أبذل من جهد..
وتشجعني على الصمود في نفس الوقت, وحصلت على الدكتوراه من نفس المعهد وسعدت بذلك
أسرتي وأهلي.. ورقيت في عملي ونقلت إلى إدارة تتلاءم مع درجتي العلمية وتخصصي
وساعدني صديقي القديم بالمعهد.. وكان قد أصبح أستاذا فأعطاني جدولا لإلقاء
المحاضرات على طلبة السنة الأولى ورشحني لتدريس مادتي في جامعة إقليمية قريبة.
واضطرت زوجتي التي
كانت حتى هذا الوقت تحافظ على النظام الكسائي الصارم مع التوسع فيه قليلا بعد تحسن
الأحوال, لأن تشتري لي بدلتين وهي في قمة الزهو والسعادة بي.
وشهرا بعد شهر تحسن
النظام الغذائي في أسرتنا كثيرا وأصبحنا نعرف اللحم الصحيح والدجاج وبقية الأصناف..
بل وعرفنا كذلك ولأول مرة بعد15 عاما من الزواج الذهاب في إجازة إلي المصيف عن
طريق العمل, ثم أصدرت كتابا جامعيا بالاشتراك مع صديقي أستاذ المعهد ساهمت فيه
بنصيب كبير, وصدر الكتاب فإذا به يتحول إلى دجاجة تبيض بيضة ذهبية مع بداية كل
عام دراسي, فتوالى إصدار الكتب بعد ذلك بمعدل كتاب كل عام بالاشتراك مع صديقي
حتى اكتملت خمسة كتب تدر علينا دخلا سنويا سخيا, فعرفت أسرتي الرخاء بعد طول
الصبر وانتقلنا إلى شقة جميلة وبعت الشقة القديمة, واشتريت ببعض ثمنها أثاثا
جديدا, وأصبح لي في مسكني مكتبة خاصة للمراجع ومكتب, كما أصبحت لي سيارة صغيرة
أتنقل بها بين جهات عملي, وأصطحب فيها أسرتي لزيارات الأهل والنزهات, وبدت
الحياة أمامنا جميلة وسعيدة وواعدة بالخير, والآن فلعلك تترقب أن أقول لك بعد كل
ذلك أنني وفي غمرة سعادتي ورضائي عن نفسي وعن حياتي, وجدتني بغتة أدفع ثمن ما
حققته من نجاح فمرضت مرضا عضالا أو دب الخلاف بيني وبين زوجتي وتهدمت سعادتنا..
أو أن مكروها أصاب ابني أو ابنتي لا قدر الله, كما هي أحوال الدنيا غالبا التي لابد أن تأخذ بقدر ما
تعطي.. لكن شيئا من ذلك لم يحدث حتى الآن والحمد لله.. لكني خائف في أعماقي
مما يمكن أن يحدث أو أدفعه ثمنا لما حققت من نجاح, وإذا كان لابد من منغصات
للحياة إلى جانب عطاياها, فإنني أدعو الله سبحانه وتعالي آناء الليل وأطراف
النهار أن يكون اختباره لي حين يجيء في شخصي أنا وليس في أحد من أبنائي أو زوجتي
الحبيبة ورفيقة كفاحي, إن هذه الهواجس.. تلاحقني في بعض الأحيان, فتفسد علي
سعادتي وأوقاتي, وقد أكون في قمة الابتهاج بشيء ما.. فيفسد علي ابتهاجي توقع
الأذى بعد حين, أو توقع الحزن والألم واختبارات الحياة القاسية كما حدث لكاتب
رسالة البيت الخشبي, وكاتب رسالة العبارة الصامتة وكثير من أصحاب القصص التي
قرأتها في بريد الجمعة الذين فاجأهم غدر الأيام وهم في ذروة السعادة والنجاح أنني
وأسرتي الصغيرة نواظب جميعا على الصلاة, ونختم القرآن معا يوم الجمعة مرة كل شهر
فنقسم أجزاء المصحف علينا وينفرد كل منا بنفسه في احدي الغرف أو في الصالة ويقرأ
نحو سبعة أجزاء في3 أو4 ساعات, لا تسمع خلالها في مسكننا سوى تمتمة القراءة,
ونحتمي ببركة القرآن من نوازل الأيام.. كما أنني والحمد لله قد أصبحت منذ ثلاثة
أعوام من مخرجي الزكاة.. وشديد الحرص على البر بأبي الذي تقاعد من العمل ويتمتع
بصحة جيدة.. ويجلس بين أبنائه وأحفاده حين يزورونه كالملك المتوج, كما أنني
شديد الحرص على رضا أمي الحبيبة ملكة قلوبنا جميعا.. ومرجعنا في كل ما يستعصى
علينا فهمه من شئون الأبناء والأسرة.. وحريص كذلك على صلة رحمي قبل أخوتي وأهلي, وفضلا عن ذلك فأنا رجل مسالم في
حياتي العملية ولم أؤذ إنسانا عن عمد أبدا في حياتي.. وأكره الغيبة والنميمة
وأتحرى الحلال في كل أمور حياتي فهل يكفي ذلك يا سيدي لإعفائي من دفع ضريبة النجاح..
أو هل يكفي لأن يكون الاختبار المتوقع حين يجيء هينا وفي حدود الاحتمال؟
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
لقد اختبرت بالفعل يا سيدي واجتزت اختبارك بأمان وسلام والحمد لله.. فما معني هذه المخاوف والوساوس إذن؟لقد اختبرت بنقص في الأموال والثمرات التي تعينك على إتمام مشروع زواجكم وتوفر لك الحد الأدنى من الإمكانات المطلوبة للزواج, فما اهتز إيمانك بربك ونفسك والحياة, وما سخطت على أقدارك وما تسممت روحك بالحقد على المترفين والذين يحيون الحياة الناعمة في الوقت الذي تكابد أنت فيه الحرمان, كما اختبرت بعد الزواج والإنجاب بضيق الرزق وقلة المورد والحرمان من كثير من مباهج الحياة, فما تشربت نفسك بالمرارة, وما غل الشح وقلة الشيء يدك عن مساعدة أخوتك في زواجهم بالقليل الذي تملكه يداك.
إن الله سبحانه وتعالى يقول لنا في محكم آياته ونبلوكم بالشر والخير فتنة بمعنى أنه قد يهبنا الخير ليرى هل سيفتننا عن ديننا, وعن الطريق القويم في الحياة, أم سيزيدنا إيمانا بربنا وتواضعا له وحرصا على إرضائه, ولقد يختبرنا بالشر والألم ليعلم الصادقين منا في إيمانهم.. وغير الصادقين..
غير أن الترتيب قد انعكس في قصتك, فاختبرك الله سبحانه وتعالى أولا بالشر وهو الحرمان وضيق الرزق وجفاف الحياة.. وطال الاختبار سنوات بعد سنوات فما فسدت سريرتك وما قل صبرك, أو وهنت عزيمتك.
ولعله سبحانه وتعالى يختبرك الآن بالخير.. والوفرة.. والأمان المادي ليعلم هل سيغيرك كل ذلك ويكسبك شح النفس وإتيان المعاصي أم لا؟! والمؤكد هو أنك تجتاز الاختبار الثاني الآن بنجاح عظيم, كما عبرت الاختبار الأول بتفوق. إذ زادك الخير الذي تدفق عليك هدى .. ورسخ إيمانك أكثر وأكثر وعمق من قيمك الأخلاقية فبررت بوالديك ووصلت رحمك.. وحفظت عهدك مع زوجتك على الوفاء والإخلاص, ونشأت بنيك على قيم الدين والخلق الكريم, وأخرجت زكاتك حين أصبح لك مال تستحق عنه الزكاة.. وسالمت الحياة فسالمتك.. ولم تغتر بما حققت من نجاح علمي وارتقاء اجتماعي, فكيف لا يحفظ الله سبحانه وتعالى نعمته على من كان مثلك. وكيف لا يجنبه سبحانه اختبارات الحياة القاسية؟
ألم تلحظ أن بداية انفراج الأزمة المادية في حياتك قد ارتبطت بقيمة دينية مثالية حرصت أنت عليها رغم ضيق الحال, لعلك لم تفطن من قبل إلي فضلها عليك.
إنها قيمة صلة الرحم والبر بالأخوة الضعفاء والتعاون معهم على التقوى! فلقد اشتد شعورك بضغوط الحياة عليك في كل مرة يتزوج فيها أخ أو أخت لك, وتقدم له أولها مساهمتك المشكورة في الزواج ودفعك شعورك المضاعف بهذه الضغوط عقب آخر زيجة لأحد أخوتك إلى السعي إلى زيادة رزقك بالعمل الإضافي, في أي مكان وأي مجال, فكان ذلك هو بداية الخروج من أسر العجز والحرمان.. وبداية الانفراج البطيء في أزمتك المادية.. وبداية تدفق الخير عليك بل وبداية ارتقائك اجتماعيا وحصولك على الماجستير والدكتوراه والعمل بالتدريس الجامعي والترقية كذلك في عملك الأساسي, ولعلك لو كنت قد قبضت يدك عن مساعدة إخوتك وتذرعت عن حق بضيق الحال وقلة الرزق لتأخر شعورك الزائد بضغوط الحياة عليك بضع سنوات أخرى كان مقدرا لها أن تضيع في الفاقة والحرمان وجفاف الحياة.
ولعلك لو كنت حتى قد تحركت لطلب الرزق بغير تأخر لما وفقت في سعيك, ولما حققت بعض أو معظم ما حققت الآن, وأنت مدعوم بدعاء إخوتك لك ورضا أبويك عنك.
انك تعتبر كتبك الجامعية هي بيضتك الذهبية التي تدر عليك دخلا سخيا وتحقق لك شيئا كثيرا من الأمان المادي, لكني أعتبر إرادتك القوية وقدرتك علي الكفاح بشرف في الحياة وصمودك وصلابتك وصبرك على المكاره واستقامتك الشخصية هي بالحق البيضة الذهبية الصحيحة في حياتك.
فاهنأ بما حققت لنفسك وأسرتك الصغيرة وذويك يا صديقي.
ولا تفسد على نفسك
بهجة الاستمتاع بثمار الكفاح الشريف بالحياة بالاستسلام لبعض الميول الاكتئابية
التي تفسد علينا أحيانا فرحتنا بما هو بين أيدينا.. بتوقع الحزن والأذى والألم
من بعده فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين صدق الله العظيم.
ولك الساعة التي
أنت فيها
كما أنه ليس قانونا
لازما من قوانين الحياة أن يكون الفرح نذيرا بالألم.. لكنها فقط بعض أحوال
الحياة التي تلفت نظرنا إلي ذلك في بعض الحالات, فتحصن ضد غوائل الأيام بإيمانك
بربك.. والتزامك بالطريق القويم وبالإكثار من الصلاة والصدقات والدعاء إلى الله
رب العالمين أن يحفظ عليك نعمه الجليلة وأن يخفف عنا جميعا اختباراته ويحمينا من
غوائل الأيام وعثراتها وآمين يارب العالمين.
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر