المعجزة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986
الحمد لله مفرج الكروب وخالق "الأسباب" ومالك الملك ومن إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون! والإنسان حين يعطى من نفسه للآخرين لا يقدم "حساباً" لأحد من البشر، وإنما يتوجه بحسابه إلى "المحاسب الأكبر" جل شأنه سائلاً إياه القبول .. فلنسأله معه وليتقبل الله من الجميع.
عبد الوهاب مطاوع
قبل أن تتساءل يا
سيدي من أنا أو ما الحكاية؟ سأذكرك بأني الأم التى كتبت ك فى مثل هذا الوقت، من
العام الماضي وهى في قمة اليأس والحيرة والتعاسة، لرسوب ابنها في الثانوية العامة
وتغير أحواله بعد وفاة الأب عائل الأسرة.. ونشرت رسالتي المريرة هذه بعنوان
(النداء الصامت) وقد رويت لك فيها أنى حائرة فيما فعلت بأسرتي ، وسألتك
هل كنت مخطئة حين استجبت للنداء الصامت الصادر من عيني زوجي الطيب المريض
بالمستشفى لكيلا أتخلى عنه فى مرضه ومحنته، فقمت بملازمته طوال 5 شهور طويلة فى
المستشفى إلى أن رحل عن دنيانا، وابتعدت خلالها عن الإشراف على أبنائي ثم عدت إلى
بيتي بعد رحيل زوجي فوجدت أبنى الشاب قد أفلت زمامه خلال فترة غيابي وانحرف إلى
سلوكيات غير سليمة، وإلى رفقة أصدقاء السوء وإلى الاستهتار وعدم تقدير المسئولية
والعبث، إلى أن رسب فى الثانوية العامة، فكان رسوبه ومعاملته لنا أكبر صدمة
واجهتها بعد فقد رب الأسرة وعائلها، وكتبت لك رسالتي الماضية وأنا فى أشد حالات
التعاسة وشكوت لك همي ويأسي وضعفي أمام هذا الابن الذي أصبحت عاجزة عن السيطرة
عليه، وقلت لك إننا قد تحملنا عاماً طويلاً من التقشف من أجل توفير أجر بعض الدروس
الخصوصية له لكي ينجح في الامتحان فأضاع تضحياتنا بالرسوب، وسألتك ماذا
أصنع معه وهل كنت أملك إلا أن استجيب لنداء زوجي للبقاء معه؟ رغم ما ترتب علي ذلك
من بقاء أسرتي وابني وهو فى السن الخطرة بلا إشراف ولا رقابة، ومع ما ترتب علي ذلك
من انحراف إلى سلوكيات خاطئة. وهل كنت أستطيع أن أضحي بزوجي الطيب رفيق العمر
والكفاح لكيلا أترك أسرتي وحدها؟ فرددت علي قائلاً لي: إنني قد أديت واجبي تجاه
زوجي الراحل، وإنني لم أكن أملك إلا أن أؤدي هذا الواجب الإنساني معه، وخففت عنى
بكلماتك قدر طاقتك ثم دعوتني بعد أيام إلى لقائك فذهبت إليك أنا وابنتي، حيث
فاجأتنا بما لم أكن لأصدقه لولا أنى عشته بنفسي.. فقلت لى: إن شخصاً كريماً قد
اتصل بك وطلب منك إبلاغنا بأنه على استعداد لتحمل أعباء نفقات الدروس الخصوصية
التي يحتاج إليها ابني للنجاح فى الثانوية، وإنه رغم مشاغله على استعداد لأن يعطي
من وقته لهذا الابن ما يهديه إلى الطريق المستقيم ويرشده إلى الصواب، ثم أعطيتني
بطاقة له فذهبت إليه فى مكتبه بالشركة الكبرى التى يرأسها، فدخلنا إلى مكتبه نتعثر
فى الخجل والخوف، وقدمت البطاقة إلى سكرتيرته فغابت دقائق فى مكتبه ثم عادت ودعتنا
للدخول.
فدخلنا على رجل فاضل (سيماهم في وجوههم، من أثر
السجود) قام يرحب بنا كأننا من أقرب أقاربه وواسانا وشد من أزرنا .. وأكد لنا أنه
لن يتخلى عن هذا الابن حتى ينجح فى الثانوية العامة، وطلب منا استدعاءه ليحادثه
ويحثه على طاعة الأم وتحمل المسئولية والتزام السلوك القديم، ويبصره بواجباته بعد
وفاة أبيه، وتم فعلاً ذلك وكان له أثر عميق فى نفوسنا وفى نفس ابني الذى لم يكن
يصدق أن هناك من هو على استعداد أن يعطي من نفسه ووقته لمن لا يعرفه خصوصاً إذا
كان له مشغولياته الكبيرة مثل هذا الرجل النبيل.
وبعد ذلك قال لنا
إنه سيتحمل جميع نفقات الدروس الخصوصية ولأحسن المدرسين، وأي أجر بشرط أن ينجح
ابني وأن يقدر المسئولية. وشكرنا كثيراً يا سيدي وانصرفنا، وبدأنا العام الدراسي
وكلنا أمل. وكلنا خوف أيضاً من أن يخذلنا ابني أمام هذا الرجل النبيل، الذى أصدر
تعليماته لسكرتيرته بأن تدفع للمدرسين كل ما يطلبونه فور اتصالنا بها، والحق إنني
كنت أكثر خوفاً من الجميع وعشت شهوراً قلقة حائرة، لكن مضت السنة بحلوها ومرها.
وتحسنت سلوكيات ابني إلى حد كبير، فأصبح أفضل كثيراً فى تعامله معنا، وأفضل كثيراً
من جهة أصدقاء السوء كما امتنع تماماً عن تعاطي المكيفات التى أثارت فزعي وخوفي
عليه، وقد تحقق كل ذلك كما قال لى حين رأى صورة من الحياة لم يكن يعرفها من قبل،
ولأنه لم ينس أبداً كلمات هذا الرجل الفاضل له، وجاء الامتحان وتحققت المعجزة ونجح
ابني فى الثانوية العامة، ولن تتصور مهما كتبت لك فرحتنا وسعادتنا بنجاحه، ولا
ماذا فعلنا وكم بكينا وكم ضحكنا حين علمنا بنبأ نجاحه.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
قولي يا سيدتي ما
قلته أنا حين قرأت رسالتك.. الحمد لله مفرج الكروب وخالق (الأسباب) ومالك الملك
ومن إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون!
لقد استرجعت حين
قرأت رسالتك السعيدة هذه كلمات رسالتك الأولى الحزينة وسؤالك الملتاع: ماذا كنت
أستطيع أن أفعل هل أتخلى عن زوجي وهو فى أيامه الأخيرة لكيلا أغيب عن الإشراف عن
أبنائي؟! فلعلك قد عرفت الآن يا سيدتي أن تضحيتك لم تذهب سدى، وأن استجابتك لنداء
الواجب تجاه زوجك الراحل لم تكن بلا جزاء، فلقد ادخرت لك الحياة هذه التطورات
السعيدة بعد العثرات السابقة.. وأية حياة تخلو من العثرات والصعاب، ومن الفشل ثم
النجاح؟ لقد كان محتملاً لو تخليت عن رفيق حياتك فى ضعفه ومرضه واحتياجه إليك ،
وتفرغت لأبنائك أن يحدث نفس ما حدث وأنت غائبة عنه، لكنك كنت ستعانين طويلاً من
عذاب الضمير ومن مرارة الإحساس بأنك تخليت عن شريك حياتك فى أيامه الأخيرة، فلتقرى
عيناً إذن بما فعلت ولتشكري الله كثيراً على ما تحقق، ولعل ابنك الشاب يدرك الآن
أكثر من أي وقت مضى مسئولياته تجاهك وتجاه إخواته وتجاه الحياة التى هيأت له من
يقف إلى جواره ويشد من أزره، فيعرف أن الحياة مسئولية مشتركة بين الجميع، وأن
الدنيا عطاء متبادل وأن عليه ديناً للحياة ينبغي أن يرده بأداء واجبه تجاه نفسه
وأسرته وتجاه الآخرين بصفة عامة، وإني على ثقة من أنه سوف يحقق الآمال المعقودة
عليه.
أما الرجل الذى أسهم بالقدر الأكبر فى صنع هذه (المعجزة) الإنسانية فلعله أسعد من غيره بهذه الثمرة الرائعة لعطائه لهذه الأسرة، التى فقدت شراعها وكادت عصف بها الأنواء، لولا أن أراد الله لها أن يجنبها المخاطر. وما أظنه فى النهاية ينتظر منك ولا منى شكراً على ما فعل، ولسوف تدهشين حين تعرفين أنى لم أعرف تفاصيل ما صنع بكم إلا من رسالتك أنت. فمن يعطى من نفسه للآخرين لا يقدم (حساباً) لأحد من البشر، وإنما يتوجه بحسابه إلى (المحاسب الأكبر) جل شأنه سائلاً إياه القبول.. فلنسأله معه وليتقبل الله من الجميع، مع تهنئتى لك باجتياز هذه العقبة الكئود وتمنياتي لأسرتك بحياة مستقرة سعيدة بإذن الله.
شارك في
إعداد النص / ياسمين عرابي
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر