النداء الصامت .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985

 النداء الصامت .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985

النداء الصامت .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985


فما أكثر الأمهات اللاتي يقمن بدور الأب والأم في وقت واحد.. وما أكثر الأبناء الذين ينمو لديهم الإحساس  بالواجب الأسرى عقب وفاة الأب، وما أكثر من تحركه فطرة سليمة ووازع ديني راسخ للالتزام بالفضائل.. في اشد سنوات العمل خطورة وان كان ذلك لا يقلل أبدا من خطورة دور الأب في رعاية ابنه الصغير في هذه السن الحرجة إلى أن يشتد عوده ويصمد للرياح.

عبد الوهاب مطاوع


سيدي .. كنت أتمنى أن أكون من قرائك فقط .. لكن شاءت الأقدار أن أكون مشكلة من مشاكلك .. وهكذا الحياة فقد تأتي بما لا تشتهى السفن! أنا أم لفتاة في العشرين وابن في الثامنة عشرة. كنا نحيا حياة عادية يرفرف على أسرتنا الصغيرة الحب والتعاطف تحت راية رب الأسرة العطوف، الأبناء يدرسون في مدارس اللغات وأنا وزوجي نتقاسم المصروفات ونتقاسم كل شيء في حياتنا، ثم شاءت الأقدار منذ 4 سنوات أن يمرض زوجي الذي كان يملأ الدنيا حياة وحركة، وأن يرقد فاقد القدرة على الحركة في المستشفى وأن يسيطر الشلل على كل جزء من جسمه حتى لسانه، ودعتني نظراته الصامتة لأن أبقى إلى جواره بالمستشفى، فحسم نداؤه ترددي بين احتياجه لي .. واحتياج ابنتي وابني لي ، خصوصاً وهما في السن الحرجة، فحزمت أمري وبقيت إلى جواره أمرضه وأرعاه خمسة شهور كاملة، كنت خلالها ممزقة بين زوجي ورب أسرتي الذي يضيع من بين يدي وبين أبنائي الذين يضيعون من يدي في هذه السن الخطرة، لكني كنت مؤمنة بضرورة وجودي إلى جانب زوجي الذي يحتاج إلي أشد الاحتياج.

 

 وعانيت هذا الصراع لمدة خمسة شهور إلى أن أسلم زوجي الراحل الروح وهو على صدري، فعدت إلى بيتي محطمة .. لأواجه كارثة أشد هولا من فقد لزوجي : وهي أن  الأبناء قد تعودوا الحياة بغير رقيب وهم في هذه السن الحرجة.. فلا هم أطفال يمكن تطويعهم .. ولا هم كبار يستطيعون الإدراك والمساندة وتقدير معاناتي وخوفي عليهما ومواجهتي للحياة من اجلهما.. واخترت أن أبقى في البيت بلا عمل لرعايتهم مع قلة الدخل خوفا عليهم من الضياع وليستطيعوا مواصلة التعليم، واستعضت عن الوظيفة بماكينة تريكو اعمل عليها في البيت وأحقق دخلا للأسرة يكفي بالكاد لمتطلبات الحياة الأساسية وكانت كل سنة دراسية تمضي كأن حجرا ثقيلا قد انزاح عن صدري والبنت تمضي بنجاح وتفوق، أما الابن فيتحرك بمعاناة شديدة وهذه هي مشكلتي، فلقد اكتشفت أنه يتعاطى الحبوب المخدرة مع أصدقاء السوء فكدت أصاب بالشلل، ثم جاهدت معه وأخذته لزيارة الطبيب وبذلت كل ما استطيع لعلاجه، وبعد ذلك علمت أنه يدخن السجائر، ثم الحشيش ثم يشرب الخمر، وقد تم كل ذلك بذوره في الفترة التي مرض فيها والده وهو في الرابعة عشرة من عمره، والتي تمتع خلالها بحرية كاملة بغير رقابة وأنا سجينة المستشفى مع أبيه.

 

وقد تسألني من أين يحصل على ما يلبي هذه الرغبات، فأقول لك من كل ما تقع عليه يده.. مع أصدقاء السوء، وليس له رادع لأنه يستعمل قوته كشاب عمره 18 سنة في الحصول على ما يريد ، والنتيجة هي فشله في الثانوية العامة بعد كل المصاريف والديون المتراكمة وأصبحت أواجه الحياة بإحباط شديد.. لقد عملت ليل نهار واستدنت .. بل والله العظيم تسولت من الأهل والأقارب لكي أوفر له مصاريف الدروس الخصوصية، لكن ذلك راح في الهواء.. ووقفت عاجزة في منتصف الطريق وليس بجواري أحد سوى ابنتي، إني اطلب منك النصيحة.. هل أواصل الكفاح مرة أخرى لعام جديد للحصول على الثانوية العام.. وهل يجدي ذلك معه. ولو حدث.. فمن أين احصل له على ما يحتاج إليه خلال عام دراسي طويل طويل كليل المعذبين؟ 

 

إنني أريد رأيك بصراحة.. هل أنا أم غير صالحة؟ وهل كل من يفقد رب الأسرة يتدهور إلى هذه الحال، لا تؤاخذني فقد أصبحت مشوشة التفكير وفى حاجة إلى من أبثه معاناتي وأنا أجد أولادي يضيعون من يدي.. وأتساءل أحيانا هل كنت استطيع أن أتجاهل نظرات زوجي المشلول التي تطالبني بالبقاء إلى جواره، لكيلا يضيع أبنائي.. وهل يا ترى لو فعلت كنت سأنجو من عذاب الضمير إلى نهاية العمر.. وهل يجدي العمل في حل مشكلة ابني.. ولو كان كذلك فأين يمكن أن نجده ونحن نطرق الأبواب كل يوم بلا فائدة.

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

لا يا سيدتي لست أما غير صالحة كما تتصورين لكنك أم تعسة امتحنتها الأقدار بفقد الزوج .. وتعرض الابن لنزوات الشباب في هذه السن الحرجة، وعلى العكس من ذلك فاني أرى في تصرفك واختيارك الاستجابة إلى النداء الصامت الصادر عن زوجك وهو في محنته، وفاء يستحق التقدير.. وإحساسا بالواجب يستحق كل تحية فلقد واجهت الاختيار الصعب.. واخترت ما أملاه عليك ضميرك وواجبك، ولست أميل إلى أن ارجع إلى فترة الشهور الخمسة التي أمضيتها في المستشفى كل أسباب الانحراف الذي انجرف إليه ابنك وان كانت عاملاً مساعداً عليه، فالأغلب أن الظروف المحيطة به من رفقاء سوء.. وانتشار الحبوب المخدرة .. إلخ .. قد أسهمت في هذا التدهور بقسط اكبر، كما أسهم غياب المرشد والرقيب بعد وفاة الأب في التمادي فيه، ومع ذلك فليس من الضروري أن ينحرف كل ابن فقد أباه في هذه السن الخطيرة، فما أكثر الأمهات اللاتي يقمن بدور الأب والأم في وقت واحد.. وما أكثر الأبناء الذين ينمو لديهم الإحساس  بالواجب الأسرى عقب وفاة الأب، وما أكثر من تحركه فطرة سليمة ووازع ديني راسخ للالتزام بالفضائل.. في اشد سنوات العمر خطورة وان كان ذلك لا يقلل أبدا من خطورة دور الأب في رعاية ابنه الصغير في هذه السن الحرجة إلى أن يشتد عوده ويصمد للرياح.

 

أنت أم صالحة بالتأكيد بدليل وفائك لزوجك وتضحيتك بالعمل من اجل أبنائك.. لكنى أتصور رغم ذلك أنك كنت شديدة العطف على أبنائك بعد فقد الأب.. وأن هذا العطف قد تحول غالباً إلى ضعف تجاه ابنك ساعده على التمادي فيما اجرف إليه، والمحنة الحقيقية أننا نفقد سيطرتنا على أبنائنا في اشد الأوقات التي يحتاجون فيها إلى رعايتنا وحمايتنا لهم من الأجواء المحيطة بهم.. فلا يبقى لنا سوى النصح والتوجيه عن بعد والإرشاد فإن استجابوا فلخيرهم، وإن أصموا الأذان عنه فلتعاستنا وعذابنا إلى آخر العمر.. وهذه هي المحنة الحقيقية، وإن كنا في النهاية مهما فعلنا لا نهدى من أحببنا لكن الله يهدى من يشاء، كل ما نستطيعه في هذا الشأن هو أن نؤدي واجبنا تجاههم كما أمرنا به، وأن نبذل غاية جهدنا لمساعدتهم على بناء حياتهم ومستقبلهم، وليفعل الله بهم وبنا ما يشاء بعد ذلك، ولهذا فاني  أنصحك بأن تواصلي معه مشوار الكفاح رغم عثرته الأخيرة وان تستجمعي إرادتك وطاقتك لتقفي وراءه خلال عام دراسي جديد..

لكيلا يهدر سنوات تعليمه الماضية بلا فائدة ، ولعله يفيق من غية.. ويدرك كم يتعذب الآخرون بسبب استهتاره.. وانشغال بنفسه وبأهوائه. أما العمل فقد استطيع معاونتك في إيجاد فرصة عمل له إذا اثبت انه جاد في الرغبة في الاعتماد على نفسه وفى مواصلة تعليمه بنجاح.

رابط رسالة المعجزة وهي من كاتبة الرسالة بعد عام من نشرها


 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1985

شارك في إعداد النص / ياسمين عرابي

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات