موج البحر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

 موج البحر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990

موج البحر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1990


لو إستسلم كل إنسان لأهوائه وفعل ما تميل إليه نفسه بغير إعتبار للقيم والأعراف والدين والإلتزامات العائلية لتحولت الدنيا إلى حانه يرقص فيها الناس عرايا من كل فضيله.

عبد الوهاب مطاوع




أعرف أنني من نوعية السيدات التي لا تحبها .. لكنني مع ذلك أريد أن أتحدث إليك بالذات وأن أستشيرك في أمري.

 

أنا سيدة فى الخامسة والثلاثين من عمري من أسرة متوسطة ,جميلة وبيضاء وعيناي واسعتان وملونتان, أما عن طباعي_وأنا أحاول أن أكون صادقة معك .. فهى عدم الرضا بما فى يدي والعصبية الشديدة .. وفى سن الثامنة عشرة تزوجت وأنا طالبة من طبيب, ومنذ بداية زواجنا اكتشفت اختلافنا كلية فى الطباع فأصبحنا نتشاجر فى كل صغيرة وكبيرة .. وربما كان ذلك بسبب صغر سني وقلة خبرتي.

 

لكنى مع ذلك أتممت تعليمي الجامعي كإخوتي .. وأنجبت طفلة وحيدة هى نور عيني وحبة قلبى .. لكن المشاكل استمرت بيني وبين زوجي بسبب طباعه السيئة , من غلظة القلب التى لا علاج لها , إلى البخل الفظيع إلى جعله طوال حياتنا الزوجية لا يقدم لى هدية واحدة ولو ورقة , فضلا عن قذارة متناهية فقد كان لا يستحم فى السنة كلها إلا 3 أو 4 مرات رغم أنه طبيب.

 

 

إلى جانب عدم تفاهمنا فى أي شئ فهو من النوع الذى لا يعرف كيف يعبر عن مشاعره تجاه أي شخص ولو كانت زوجته أو ابنته وأنا رومانسية أحب الكلمة الحلوة والخيال والأحلام , ولا أحب أن أحيا فى فراغ عاطفي .. فأنا من مواليد برج الحوت كثيري الأحلام والذى يوصف مواليده بأنهم مثل موج البحر يرتفع ثم يهبط دون سبب واضح.

 

وقد استمرت خلافاتنا اليومية, ولم أقصر فى محاولة تغييره بالخصام أحيانا وبالتوجيه فى أحيان أخرى .. ومع ذلك فقد تم بيننا الطلاق مرتين.

وعدت إليه فى كل مرة بعد وعود وعهود من أجل ابنتنا واستمر الحال على ما هو عليه.

 

وذات يوم بعد تخرجي قرأت إعلانا فى جريدة الأهرام عن شركة خاصة تطلب موظفين , وشاءت المصادفة أن يكون مقرها قريبا من سكنى , فأغراني ذلك بالذهاب إليها لأني قدرت أنى أستطيع أن أعمل بها وأشغل وقت فراغي بغير أن يؤثر عملي على رعايتي لبيتي وأسرتي .. وذهبت إلى هذه الشركة وليتني ما ذهبت .. إذ أننى ما أن دخلت على مديرها حتى "أحسست"به , وأحس بى من أول لحظة! فدعاني للجلوس وتبادلنا الحديث , واكتشفت بعد قليل أنه شقيق إحدى "صديقات زمان" , وعملت على الفور بهذه الشركة .. وأصبحت أراه كل يوم , وعرفت أنه متزوج وعنده بنتان , لكنه قال لى أنه على خلاف مع زوجته , وأصبحنا نجلس معا كل يوم ساعات طويلة أحس خلالها بأننا متفاهمان,حتى أن كل كلمة نريد أن نقولها ينطق بها كل منا فى نفس اللحظة , وبعد فترة قال لى أنه لا يتصورني إلا زوجة له يفخر ويقدمها للناس بكل إعتزاز .. وسبحت فى سماء الخيال مع وعوده لى بالاستقرار والراحة والأمان والسعادة .. وقال لى أن زمام الموقف فى يده , وأنه يستطيع أن ينفصل عن زوجته فى أية لحظة .. لكن من واجبي أن أبدأ أنا بالانفصال عن زوجي .. واقتنعت بذلك , وتهيأت للمعركة الفاصلة , وشحذت كل أسلحتي لأحصل على الطلاق وحصلت عليه فعلا بعد أن تنازلت لزوجي السابق عن كل حقوقي.

 

 

وبعد الفترة المقررة حملت حقيبة ملابسي واحتياجاتي الشخصية وانتقلت إلى شقة صغيرة من غرفة وصالة كنا قد أعددناها للزواج وتزوجت فى السر وبدون علم أهلي , بعد أن تركت ابنتي الوحيدة مع أمي .. ووعدني زوجي بأن يسعى بعد وقت قصير لدى أهلي ليصفحوا عنى ويأتوا لزيارتي .. وفى قمة حبنا صدقت ما أردت أن أصدقه , وتحملت فراق ابنتي التى لا يعدل ظفرها عندي كل كنوز الدنيا .. وآلمني أنها رفضت أن تزورني فى بيتي , ولم تدخله ولم تحب زوجي , وكان رد فعلها الغريب وهى فى الحادية عشرة الآن أنها أصبحت تتعاطف مع أبيها الذى لم تكن تشعر بحنانه من قبل , وكرهت زوجي وأصبحت تقول انه هو الذى دمر بيتنا وتسبب فى حيرتها فى حياتها حيث لم تعد تجد راحتها هنا أو هناك.

 



ولـــكــاتـــبـة هــــذه الــــرســـالـة أقــــول:

 

ليس بمثل هذه الخفة يا سيدتي تؤخذ أمور الحياة .. إذ لو استسلم كل إنسان لأهوائه وفعل ما تميل إليه نفسه بغير اعتبار للقيم والأعراف والدين والالتزامات العائلية ثم قال كما تقولين"وما حيلتي فيما لا أملك وهو قلبي" لتحولت الدنيا إلى حانة يرقص فيها الناس عرايا من كل فضيلة , ذلك أنه ليس هناك إنسان بلا أهواء,لكننا رغم ذلك نفرق بين الناس بقدر تحكمهم فى أهوائهم أو انقيادهم لها .. فنفرق بين الفضلاء وغيرهم بأن هؤلاء يتحكمون فى أهوائهم ولا يستسلمون لها, ولو كان فى ذلك التضحية بسعادتهم الشخصية, وبأن أولئك يتركون قياد أنفسهم لأهوائها ولو كان فى ذلك تعاسة الآخرين وتدميرهم والإضرار بهم.

 

وهوى النفس يا سيدتي إذا لم يتجاوز حنايا القلب فقد يقبل فيه الاحتجاج بما لا يملكه المرء من قلبه أما إذا تجاوزها إلى الفعل والتصرف والإثم.فلا يقبل فيه عذر ولا احتجاج بهذه الحجة.

والحق أنى لا أنشر مثيلات رسالتك هذه ولا أهتم بالرد عليها إيثاراً للاهتمام بأمور الحياة الجادة,وتجنباً للأثر السلبي الذى قد يحدثه نشرها حين يجد منها بعض من تراودهم نفوسهم_بالإقدام على نفس الفعل_التشجيع النفسي على ارتكابه بحجة أنه ليس وحده الذى إختار سعادته على حساب الاعتبارات الأخرى,وإنما هناك آخرون واجهوا نفس ظروفه وتصرفوا كما يود هو أن يفعل.والإنسان يرضيه دائما أن يكتشف أنه ليس الخاطئ الوحيد....ومع ذلك فلقد تجاوزت هذا الاعتبار الهام هذه المرة لأن فى قصتك ما قد تستفيد به أخريات يواجهن نفس هذا الاختبار ما يفوق أثرها السلبي بكثير خاصة فى التحول الهام الذى حدث فى مشاعر إبنتك الوحيدة تجاه أبيها .. وضدك .. وفى انكشاف الوعود والعهود عن وضع نصف زوجة تعيش فى شقة صغيرة من غرفة وصالة وتعانى ومن وضع الزوجة السرية رغم علم زوجته بزواجكما,ورغم علم الجميع من جانبك على الأقل.

 

 

فإذا كان فى رسالتك بعد ذلك ما يستحق الإشارة إليه .. فهو أنك كنت بحق صادقة فيما رويت عن نفسك بلا تجمل أو تزييف فأبرز عيوبك كما تقولين هو عدم الرضا بما فى يديك والعصبية الشديدة وهما فى تقديري أهم أسباب تعثر زواجك الأول .. وليس أي شئ آخر وأنت يا سيدتي تصفين نفسك بأنك كموج البحر الذى يرتفع إلى أعلى وينخفض دون سبب واضح,وأن كنت لا أومن بحديث الأبراج ولا أرى فيه معياراً سليماً لتفسير الخصائص النفسية للشخصية التى يكتسبها المرء من ظروف نشأته والبيئة المحيطة به وليس من موعد ولادته,ومع ذلك فأنت كما وصفت نفسك تقودك أهواؤك إلى أعلى وإلى أسفل بغير مقاومة منك أو محاولة للتحكم فيها ...ولذلك كله فها أنت تحترقين الآن لا لأن إبنتك الوحيدة قد كرهت زوجك وانحازت لأبيها ضدك وتحولت بمشاعرها عنك .. ولا لأن هذا التحول سوف يتصاعد مع تقدمها فى السن حين يتعمق إحساسها بأنك لم تحاولي مجرد محاولة التضحية بهوى نفسك من أجل سعادتها واستقرارها النفسي والمعيشي,لكنك تحترقين من أجل شئ مختلف تماما وهو أن زوجك قد "خان عهوده"بأن يطلق زوجته ويمزق إبنتيه نفسيا وهما فى سن الشباب, لكى تصبحي أنت محور حياته وبؤرة قلبه الوحيدة !

 

يا إلهي .. يا سيدتي لقد عرفته وأنت زوجة لآخر وهو زوج لأخرى وأب وقد تزوجت بمن تحبين الآن .. وفات أوان اللوم والعتاب بعد أن صححت وضعك, حتى ولو كان لهذا التصحيح ضحايا أبرياء,إذن ألا يكفيك ذلك حتى تصري على أن تزيدي عدد الضحايا ثلاثة آخرين هم زوجته وأبنتاه ! وكيف تهنئين بحياتك ودعائم عشك السعيد ترتفع فوق كل هذه الأشياء؟! أن الإنسان قد يقتل أحيانا بغير سيف,ولقد قتلت اثنين حتى الآن وفى ذلك ما فوق الكفاية, فحاولي أن تتعلمي الرضا بما بين يديك وأن تكفى عن التطلع لما فى أيدي الغير .. وارضي لما إخترته لنفسك ولا تكوني كالنار التى تحرق الآخرين ثم لا تجد ما تحرقه سوى نفسها...وإشغلى نفسك قليلاً بابنتك قبل أن تفقدي مشاعرها إلى غير رجعة. أفعلي ذلك يا سيدتى وكوني صادقة مع نفسك كما كنت صادقه معى فى رسالتك التى بلغت فيها قمة الصدق حين قلت أنك من نوعية السيدات التى لا أحبها .. وشكرا.

رابط رسالة بلا انفعال تعقيبا على هذه الرسالة


·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1990

شارك في إعداد النص / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات