فوق القمة .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1988
من حق كل
إنسان أن يطلب لنفسه السعادة كما يراها محققة لأمانيه، لكنه من واجبه أيضا أن يسعى
لتحصين هذه السعادة ضد عثرات الطريق، برضا الأهل عنه وبتأييدهم لمشروعاته المستقبلية.
فالسعادة
الشخصية لا تكتمل إلا براحة الضمير.
عبد الوهاب مطاوع
أنا فتاة في التاسعة
والعشرين من عمري، لا أغالي إذا قلت أني جميلة.. لأنني فعلاً كذلك، وقد عشت حياة
بسيطة في أسرة ميسورة بين أمي ربة البيت الطيبة المحترمة، وأبي رجل الأعمال الذي
ورث عن أبيه تجارة ناجحة، وتمتعت بحب أمي لي وتعلقها بي، أما أبي فلقد كان مشغولاً
دائماً في عمله فلم تتعد دائرة علاقاتي الاجتماعية بعض الزيارات العائلية مع أمي،
أو بعض المرات القلية التي اذهب فيها إلى النادي لألتقي ببعض الصديقات، إلى أن جاء
يوم كانت فيه سيدة طيبة تأتي إلى بيتنا لتساعد أمي في بعض أعمال البيت ، وتأخرت
عندنا في ذلك اليوم فدق جرس الباب وفتحته فوجدت أمامي شاباً وسيماً يتفجر رجولة
وحيوية، يسأل عن السيدة، وعرفت منه أنه ابنها فدعوته للدخول لكنه رفض حياء
وانتظرها حتى خرجت معه وانصرفا، وأنا مشدودة لا أعرف ماذا جرى لي.
وفى الأسبوع التالي جاءت
السيدة الطيبة فوجدتني أجلس معها وأتحدث إليها وانتهز الفرصة لأسأل عن ابنها
الشاب، فإذا بها تخبرني بأنه طالب معي في نفس الكلية ويتقدمني بسنة، واكتفيت بما
عرفته منها، وفي اليوم التالي بحثت عنه في الكلية حتى وجدته وحييته تحية الصباح
فرد علي بأدب وحياء، ثم خفض رأسه فوجدتني اسأله عن الصحة والأحوال فرفع رأسه
مندهشاً وأجابني شاكراً، وانصرف.
وتكررت لقاءاتنا داخل
الكلية مصادفة أو عمداً من جانبي، وبمرور الأيام عرفت كل شيء عن حياته، فعرفت أنه
يعمل بعد الدراسة في محل تجاري ليكسب دخلاً يعينه على نفقات الكلية وليساعد به
أسرته، وعرفت أيضا أنه طالب متفوق مجتهد في كل عمل يؤديه، حتى أنه يجمع أسئلة
امتحانات السنوات السابقة ويقوم بحلها كنماذج للإجابات ويطبعها ويوزعها على الطلبة
ويحقق من وراء ذلك دخلاً بسيطاً كل سنة.
واستمرت زمالتنا على هذا
النحو ثلاث سنوات، ازددت خلالها إعجاباً به وبرجولته وباعتزازه بنفسه، وقبيل نهاية
عامه الأخير بالجامعة استقر في يقيني أني أحبه من أعماقي، على الرغم من أنه لم يبد
من جانبه أية علامة على وجود مثل هذه المشاعر لديه، وحين اقترب الامتحان سألته عما
ينوي أن يفعل بعد التخرج فلم يحر جواباً، فعرضت عليه أن احدث أبي بشأنه ليعمل معه،
ففاجأني بثورة كالبركان رافضاً ذلك، وانصرف يومها غاضباً، وعدت لبيتي حزينة وحكيت
لأمي ما جرى ففسرته لي بأنه وجد في عرضي ما يمس كرامته.
ومضت فترة طويلة لم نلتق
خلالها.. ثم علمت بأنه عمل بعد التخرج في عمل كان قد بدأه في الشهور الأخيرة من
الدراسة، وراودتني نفسي طويلاً أن استقصي أخباره إلى أن جاءت اللحظة حين زرت
والدته والتقيت به هناك، وفي هذه المرة تحدثت معه قليلاً.. فاندفع يعبر لي عن
مشاعره المكتومة التي لم يستطع أن يبوح لي بها بسبب ظروفه، وتعاهدنا على ألا
نفترق، وأن ينتظر اللحظة المناسبة ليتقدم لأسرتي، وجاءت هذه اللحظة عندما تخرجت في
كليتي .. ففاتحت أمي في الأمر فرفضت بشدة وأبلغت أبي الذي ثار ثورة هائلة ولم تفلح
كل المحاولات في تهدئته، ولم يسمح لي بمناقشته.. أو محاولة أقناعه، وأسرع بأن
وضعني أمام اختيار صعب، هو أما اصرف النظر عن هذا الزواج.. وأما ترك البيت ووجدت
نفسي حائرة بين أرضاء أبي .. وبين نداء قلبي الذي لا يخفق طوال عمري إلا لهذا
الشاب المكافح.
وفكرت كثيراً.. وبكيت
أكثر.. وبكت أمي طويلاً وحاولت أثناء أبي عن تشدده لكي يقابلنا في منتصف الطريق أو
يتفاهم معنا لكنه تمسك بموقفه بإصرار.
وهكذا وجدت نفسي في الخامسة والعشرين من عمري وبعد حوالي 5 سنوات من الحب العميق لمن اختاره قلبي مخيرة بين أمرين يعز علي أن أفرط في أيهما، هما أسرتي وحبيبي ، لكني بعد عذاب طويل لم أجد مفراً من أن استجيب لنداء قلبي وكلي أمل في أن يرحم أبي ابنته التي تحبه وأمي الحائرة بيننا ويغير من موقفه ولو بعد حين.
وهكذا حزمت أمري بعد ليال
عصيبة قضيتها ساهرة حتى الصباح.. وودعت أمي وأنا أبكي وهى تبكي ثم خرجت إلى بيتي
الجديد.. وكان فتاي قد أجر شقة متواضعة وفرشها بأثاث أكثر تواضعاً. وتم عقد
القران، وأقام لنا أصدقاؤه فرحاً وزفة لن أنساها العمر كله، فهو محبوب دائماً من كل
معارفه وتم زفافنا بين أهله وأصدقائه، أما أهلي فلم يحضر منهم أحد زفافي بكل أسف.
ورغم ذلك فقد بدأنا حياتنا
الجديدة ونحن سابحان في بحر السعادة.. فكانت يقظتنا أحلاما وأحلامنا أنغاما، ومضت
الأيام سعيدة جميلة.. لا يعكر صفوي فيها سوى (غربتي) عن أهلي وأنا أعيش معهم في
نفس المدينة.. وكان زوجي ينبوعاً من العطف والحنان، فحاول كثيراً أن يصلح ما بيني
وبين أهلي، وتحمل في سبيل ذلك الكثير رغم اعتزازه بكرامته، كما حاول كثيراً أن
يخفف عني مؤكداً لي أنها سحابة وسوف تنقشع ..وأن المياه سوف تعود في النهاية إلى
مجاريها.. لكن الحال بقيت كما هي حتى أراد الله لنا أن نغادر مصر كلها ليكون
لاغترابي عن أهلي سبب مقبول.. فقد جاءته فرصة للعمل في الخارج، وشجعته عليها
وسافرنا معاً، وحصلنا على شقة هناك و أثثناها، ووفقه الله في عمله كما وفقه من قبل
في كل عمل تولاه، وأتم الله نعمته علينا فأنجبنا ابننا بعد شهور من سفرنا، وشكرنا
الله على نعمته فأخرج زوجي الزكاة وأرسلها إلى بلادنا لتوزع على من يستحقونها ،
وأدينا فريضة الحج واعتمرنا وبقينا ثلاث سنوات لا نعود إلى مصر، وكلما جاء موسم
الحج أدينا الفريضة بدلاً من السفر لبلادنا، وفي العام الثالث كنا وقوفاً بعرفات
زوجي وأنا وطفلي الصغير فأحسست فجأة كان تياراً كهربائياً يشدني إلى الناحية
اليمنى، فنظرت إليها فإذا بي أرى أبي وأمي اللذين لم تقع عيناي عليهما منذ 3 سنوات
بملابس الإحرام، يقفان إلى جواري بالضبط.
كأن وجودهما بالقرب مني قد خلق مجالاً كهربائياً
أرسل أشارته إلي ونبهني إليها نظرت إليهما ولم اصدق نفسي ولم يصدقا نفسيهما ووجدت
نفسي اندفع إليهما وهما يندفعان إلي في نفس اللحظة، وفاضت العيون بالدموع الغزيرة وأبي وأمي وأنا وزوجي حتى وليدي الصغير ترقرقت عيناه بالدمع أيضاً وهو يرى هذا
المشهد الغريب، وبكيت حتى اشتفيت، وبكت أمي حتى سالت دموعها انهاراً، وبكى أبي وزوجي حتى تواصلت دموعهما ومن حولنا ينظرون إلينا مشفقين. وحين أدركوا الموقف
شاركونا التأثر وقالوا جميعا في هذا المكان الطاهر تمسح الجراح ويولد الإنسان من
جديد، ونزلنا من فوق جبل الرحمة معاً وتمسكنا بأن يقيم معنا أبي وأمي إلى أن يحين
موعد السفر، وبعد انتهاء موسم الحج عدنا جميعاً على طائرة واحدة لمصر ودخلنا معاً
بيت أبي لأول مرة بعد أكثر من ثلاث سنوات، واستقبلنا الجميع بفرحة كبرى وانطلقت
زغاريد الفرح التي لم اسمعها يوم فرحى في هذا اليوم السعيد.
وصفت نفس أبي بعد أن
استسمحته ، وحقق الله أمنية زوجي المؤمن الصادق في أن يصلح الله ما بيني وبين
أهلي، وعشنا أياماً سعيدة في مصر ثم عدنا مرة أخرى إلى مقر عمل زوجي بعد أن تمسك
رؤساؤه باستمرار معهم.
وعدت لبيتي هناك ولأول مرة
أجد للغربة معنى آخر غير الذي وجدته في السنوات السابقة، فأنا بعيدة الآن عن أهلي
لكني معهم في كل حين، اكتب لهم الخطابات وأبثهم حبي وأشواقي، واتصل بهم تليفونياً
ويتصلون بي في مواعيد دورية والحمد لله على كل شيء.. والحمد لله الذي ثبت إيماننا
بأنه بالصبر تتحقق الأماني وبأنه لا فرق بين غنى ولا فقير، وبأن علينا أن نرضي
الله ولا ننسى نصيبنا من السعادة ومن الدنيا. وأرجو ألا أكون قد طلبت الكثير..
فلقد طلبت سعادتي مع من أحبه وطلبت رضا أهلي أيضا وصبرت حتى حقق الله لي الأمنيتين
فهل طلبت الكثير يا سيدي؟
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
لا يا سيدتي لم تطلبي
الكثير، فمن حق كل إنسان أن يطلب لنفسه السعادة كما يراها محققة لأمانيه، لكنه من
واجبه أيضا أن يسعى لتحصين هذه السعادة ضد عثرات الطريق، برضا الأهل عنه وبتأييدهم
لمشروعاته المستقبلية.
فالسعادة الشخصية لا تكتمل
إلا براحة الضمير.. ولهذا لم تكتمل سعادتك إلا حين تخلصت من وخز الضمير الذي لا شك
إنك عانيته بسبب تقطع الأسباب بينك وبين أهلك.
و الأوفق دائماً حين يجد
الإنسان نفسه أمام هذا الاختيار الصعب، الذي واجهته هو أن يكافح لنيل رضا الأهل عن
مشروعاته وألا يخرج على طاعتهم في هذا الأمر إلا حين يكون تجنيهم عليه صارخاً ولا
يقبله العقل أو الدين، ولا شك انه لو بذل الإنسان جهده بإخلاص وصبر لنال تأييدهم
ولو بعد حين لما اختاره لنفسه لأن الأمهات والآباء يا سيدتي يستهدفون في نهاية
الأمر سعادة أبنائهم كما يتصورونها فإذا تعارضت الإرادات ولمسو إصرار الأبناء وصدق
رغبتهم فيما اختاروه سلموا لهم بما أرادوا لأنفسهم، أبقاء على شعرة معاوية معهم أو
هكذا يفعل الرحماء منهم، لأنهم لا يملكون لأبنائهم الراشدين سوى النصيحة مهما كانت
دوافعهم الشريفة ولأن الحياة في النهاية هي خير معلم.
ولكل زمان قيمه ومعاييره
التي علينا أن نعترف بهما كما نعترف بأن ما يصلح لزمان قد لا يصلح لأخر.
فإذا كان في قصتك الجميلة
هذه التي تعلن انتصار الحب والكفاح الشريف في الحياة ما يستحق التعليق، فهو فقط في
أنك كنت تستطيعين الصبر قليلاً قبل مفارقة أهلك، وأنا زعيم لك بأنك كنت ستحصلين
بعد قليل على اعترافهم بحبك وقبولهم لهذا الشاب المكافح الأمين.. ولعل هذا هو
خلاصة حكمة الصينيين الشهيرة التي أطلقوها بعد أن عاشوا 5 آلاف سنة يرقبون أحوال
البشر ( من يمشى هونا.. يمشى دهراً). أي أن بلوغ الأهداف يتطلب الصبر كما يتطلب
أيضا الإصرار.. لكنني لا أريد أن ألومك على شيء بعد أن فات ما فات لأني من
المؤمنين بما يقوله الشاعر:
لا تسقني ماء الملام
فإنني صب قد استعذبت ماء بكائي
ولأن مشهد اللقاء المؤثر
فوق جبل عرفات يمسح كل الأحزان، ويجب كل الكلام.. ثم لأني أيضا سعيد برسالتك هذه
واعتبرها أنشودة السعادة وسط أنات المعذبين، فلم لا نحتفل بها كما نهتم بزفرات
المهمومين..ونحن من يصدق عليهم قول الشاعر الانجليزي شيلي( قد علمتنا الأحزان نظم
القصيدة)؟
فإذا كان الأمر كذلك فلماذا
لا تعلمنا السعادة أيضا دروسها.. الجميلة وتعلمنا أيضا نظم الأهازيج؟
رابط رسالة الإنذار تعقيبا على هذه الرسالة
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد
الجمعة" عام 1988
شارك في
إعداد النص / ياسمين عرابي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر