إلا قليلا .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

إلا قليلا .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988 

إلا قليلا .. رسالة من بريد الجمعة عام 1988

إن الإنسان لا يستطيع أن يحقق لنفسه دائما كل ما تحلم به.

وإنما هو يسعي دائما وراء الأهداف فيصيب أهدافاً ويفقد أخرى وعليه دائما أن يعرف قيمة ما حققه لنفسه وأن يرضى عنه لكي يستطيب الحياة وتتجدد إرادته للكفاح.

عبد الوهاب مطاوع


أنا شاب مصري نشأت في إحدى قرى الريف المصري .. بين أسرة كبيرة العدد تعلم كل أفرادها ما عداي لأن أبي أخرجني من المدرسة لأزرع الأرض وأكون على طريق الفلاح المصري الابن الذي يعمر بيت الأسرة ويذهب ويعود إليه أخوته الأفندية الذين يتعلمون وسيعملون في القاهرة والإسكندرية .. المهم أني وجدت نفسي صبيا أميا غارقاً في "نعمة الجهل" وسني 13سنة مع أني لست أكبر أخوتي ولا أصغرهم لكن هكذا شاءت الأقدار  فأصبحت حياتي أن أصحو من الفجر فأستحطب حيوانات الزراعة إلى الحقل وأقدم لها وجبة الإفطار من البرسيم وأمارس عمليات الزراعة ولم أكن غاضباً لذلك لكني فقط كنت أتطلع لأن أتعلم وكنت حين أرى ما يكتبه السادة الموظفون في الجمعية التعاونية وكيف يقرأونه أقف أمامهم مبهورا منقطع الأنفاس لقدرتهم على فك هذه الطلاسم.

 

وذات يوم أذيع في القرية أن هناك فصولا ليلية لتعليم القراءة والكتابة ستفتح في المدرسة الابتدائية فسارعت بتسجيل نفسي فيها , وبدأت أحضر دروسها بانتظام كل ليلة وكانوا يعلموننا الأعداد في هذه الفصول هكذا .. واحد _عصايه_

2_حواديه_3_حواديتان  وعصايا,4_حواديتان فوق بعضهما وهكذا.

وكنت سعيداً جدا بهذه الأعداد والحروف التي نتعلمها وبذلت كل جهدي للفهم والاستذكار .. وكانت مواسم العمل في الحقل تعترض دراستي فكنت أؤجل الدراسة إلى أن ينتهي موسم الحصاد أو الحرث ثم أواصلها من جديد حتى تعلمت القراءة والكتابة بجد وكفاح مجيد .. وسعدت بذلك جدا لكني اعتزمت أمرا لم أصارح به أحدا وهو أن أنتقل إلى الخطوة الثانية أن اشتريت كتاب خارجياً يضم جميع مواد السنة السادسة الابتدائية وبدأت استذكره حتى كدت أحفظة وعرضت الأمر على أحد المدرسين فقام بتوجيهي وساعدني في تقديم أوراقي لامتحان القبول الابتدائي , وعلم أخي فشجعني وكذلك والدتي , ثم تقدمت للامتحان فإذا بى أنجح فيه بمجموع 93% وكانت مفاجأة سعيدة لي ولأخوتي ولأبي الذي تعجب لها طويلا.

 

وقررت أن أواصل التعليم مع الالتزام بالقيام بكل العمليات الزراعية المطلوبة فحصلت خلال 3 سنوات على الشهادة الإعدادية وبمجموع 85% وأصبحت شابا يحمل الشهادة الإعدادية وعمري 24سنة!!

وتقدم أخي لاستثنائي من شرط السن في الامتحان بالثانوية الأزهرية وقبل طلبي بعد دخول امتحان مسابقة اجتزته بنجاح فوجدت نفسي طالبا في الثانوية الأزهرية وأصبحت حديث القرية.

وبعد ثلاث سنوات أخرى حصلت على الثانوية الأزهرية القسم العلمي بمجموع 72% ووجدت نفسي على أبواب كلية طب الأزهر فلم أتردد رغم ما قيل لي عن صعوبة دراسة الطب وما تحتاجه من معرفة باللغة الإنجليزية خاصة لمن كان أميا وحصل على الشهادة الإعدادية في سن الرابعة والعشرين, وبالفعل واجهت صعوبة الدراسة في البداية لكني استطعت بفضل الله بعد ذلك أن أستوعب دروسي وأن أواصل دراستي بنجاح وفي السنة الأولى تقدم للامتحان ما يقرب من ألف طالب ولم ينجح منهم سوى 27طالبا كنت منهم والحمد لله وبتقدير جيد جداً.

 

وجاءت السنة الثانية فحصلت على نفس التقدير وكذلك في السنة الثالثة.

وأصبح لي حق الحصول على مرتبة الشرف خلال سنوات البكالوريوس وجاءت سنوات البكالوريوس وليتها لم تأت فلقد تخلى عني فيها التوفيق ففقدت فرصة الحصول على تقدير جيد جدا مع مرتبة الشرق وبترتيب الثامن على الدفعة بفارق درجتين فقط إلى تقدير جيد وترتيب التاسع والخمسين .. فهل رأيت كيف تتحطم أحلام إنسان بسبب درجتين ولقد حزنت وضاقت الدنيا في وجهي وتحولت الحياة إلى كابوس بالنسبة لي ولولا أن هناك من تخفف عني وتغمرني بالابتسامة وتخرجني مما أنا فيه كلما ذهب إليها لأظلمت  الدنيا في وجهي فبالله عليك ما أفعل؟ وماذا انتظر بعد كل هذه الأحلام وهذا الضياع؟

 

ولكاتب هــذه الرسالة أقــــول:

أفضل ما تفعله هو أن تتذكر دائما صورتك وأنت صبي في الرابعة عشرة من عمره ينظر مبهوراً إلى كتبة الجمعية التعاونية وهم يكتبون الحروف والأرقام فيراهم سحرة يأتون الأعاجيب لكي تعرف حجم الشوط الهائل الذي قطعته من الظلام إلي النور وترضى عما حققته لنفسك بكفاحك وقوة إرادتك.

إن الإنسان لا يستطيع أن يحقق لنفسه دائما كل ما تحلم به.

وإنما هو يسعي دائما وراء الأهداف فيصيب أهدافاً ويفقد أخرى وعليه دائما أن يعرف قيمة ما حققه لنفسه وأن يرضى عنه لكي يستطيب الحياة وتتجدد إرادته للكفاح.

وأنت قد حققت لنفسك الكثير والكثير فكنت لا ترى سوى القليل الذي خابت سهامك في الوصول إليه, مع أن ما حققته يعتبر بكل المقاييس معجزة تستحق أن تسعد بها..إذ ماذا يعني هذا الفارق في الترتيب ؟ ضياع فرصة التعيين كمعيد في الكلية مثلا؟ ومن قال أن طريق النجاح الوحيد أمام الطبيب هو التعيين بهيئة التدريس بالكلية..

ولماذا لا تكرر المعجزة وتحقق ذاتك خارج أسوار  الكلية كما حققت من قبل نجاحك خارج أسوار المدرسة التقليدية..

يا صديقي لا تفسد الفرحة بهذه الصغائر.. ولا تكن كنودا .. فلقد حققت الهدف إلا قليلا..

وإلى جوارك  من ترقب خطواتك في الحياة وتشيع البهجة في قلبك وقريبا سوف تتوجان علاقتكما بالزواج وأنت طبيب بدأ رحلته من الصفر..

فماذا تريد أكثر من ذلك؟؟!!



رابط رسالة ثمرة الحب تعقيبا على هذه الرسالة

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1988

شارك في إعداد النص / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات