ثمرة الحب .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1988
لا تبدد أمانك النفسي طلباً لامان غير مضمون، ولا تسمح للخوف من المستقبل بأن يسرق أيامك وزهرة عمرك، فلقد علمتنا الحياة بأن من يغالي دائماً في التحسب للمستقبل لا يستقر له جانب طوال حياته مهما تحصن ضد الزمن بشتى الاحتياطات، لان المستقبل الذي يخشاه سيكون نفسه حاضره بعد سنوات، فإذا تمكن الخوف من إنسان تجاهه لم يستطع أبدا أن يسترد اطمئنان قلبه مهما حقق من نجاح، لأنه يحمل معه خوفه من مرحلة إلى مرحلة طوال حياته خوفاً من مستقبل لا يملك أمره سوى الله سبحانه وتعالى .
عبد الوهاب مطاوع
أكتب إليك هذه الرسالة بعد
أن قرأت رسالة الطبيب التي نشرت بعنوان "إلا قليلاً" ويروي فيها كاتباً
قصة رحلته من الأمية وهو في سن الصبا يتفرج على كتبة الجمعية التعاونية، وهم
يسجلون الأرقام والأسماء ويعتبرهم سحرة يأتون الأعاجيب، إلى أن حصل على بكالوريوس
الطب وأحزنه أن أفلتت منه فرصة الحصول على تقدير جيد جداً ويشكو لك همه جراء ذلك.
والحق أن هذه الرسالة قد
دفعتني لأن أروي لك ولكاتب الرسالة الأولى قصتي مع الحياة، فأنا يا سيدي شاب في
الواحدة والثلاثين ، نشأت في قرية صغيرة بدمياط فوجدت نفسي أعيش مع أبوين مسنين
أنجباني بعد فترة طويلة من الانقطاع عن الإنجاب، فكنت طفلاً وحيداً في بيتهما
الريفي البسيط، ولي أخ وأخت قد غادرا البيت وتزوجا وأنجبا أطفالاً في مثل سني،
وكان أبي مزارعاً بسيطاً فلم يستطع أن يوفر لي إمكانيات التعليم، فتوقفت عن الذهاب
إلى المدرسة بعد السنة الرابعة الابتدائية، لأني كما يقال لأمثالنا من البسطاء في
مثل الظروف القاسية .. قد أصبحت رجلاً وعلي أن اخرج إلى العمل وأكسب قوتي بنفسي،
فدفع بي أبى إلى محل حلاق القرية فعملت صبياً به أتقاضى كل يوم خميس خمسين قرشاً
كاملة! .. ولم أكن قد تعلمت في المدرسة شيئاً كثيراً فكنت لا أكاد اعرف القراءة
والكتابة وواصلت العمل حتى بلغت سن الثامنة عشرة، فراودني فجأة حلم التعليم، وفجره
في داخلي ما كنت أشاهده في تمثيليات التليفزيون من سخرية مريرة بحلاق القرية ،
فأردت ألا أعيش حياتي كلها داخل جدران محل متواضع للحلاقة بإحدى القرى، فاشتريت
كتاباً خارجياً لدروس الشهادة الابتدائية، ورحت اقرأه بصعوبة شديدة ، واستعين
بشباب القرية المتعلمين على استيعابه حتى التهمته التهاماً خلال شهور الصيف، ثم
قرأته مرة ثانية وثالثة ورابعة وقررت دخول امتحان الابتدائية من الخارج، ودخلته
بالفعل وحصلت على الشهادة الابتدائية بمجموع 75%.
وفى العام التالي دخلت امتحان السنة الأولى
الإعدادية ونجحت فيه ثم امتحان السنة الثانية ونجحت أيضا.. وبلغت سن التجنيد فجندت
وفى وحدتي العسكرية استدعاني القائد حين عرف بقصتي لقص شعره.. ثم أرشدني إلى كيفية
الالتحاق بمدارس التحرير العسكرية ، فالتحقت بها وحصلت منها على الشهادة
الإعدادية، ثم نجحت في السنة الأولى الثانوية والسنة الثانية وانتهى تجنيدي فخرجت
إلى الحياة وليس معي من المدخرات سوى مكافأة نهاية الخدمة وهي عشرون جنيهاً، فعملت
لفترة في إحدى شركات المقاولات بالقاهرة واستطعت أن ادخر خمسين جنيهاً، وبدلا من
أن استمر اتخذت أصعب قرار في حياتي ، وهو أن أتوقف عن العمل وأن أعود إلى بلدتي
ومعي كل ما املك من حطام الدنيا وهو سبعين جنيهاً، لكي أواصل رحلة التعليم، فعدت
إليها وعمري 24 سنة، ودفعت من "رأس مالي" عشرون جنيهاً رسوما للالتحاق
بفصول الخدمات في مدرسة مدينة صغيرة مجاورة، وقررت أن أتفرغ عاما كاملاً للحصول
على الثانوية العامة، أعيش خلاله على ما تبقى معي من المال، وذهبت إلى المدرسة
لأول مرة فالتف حولي الطلبة مرحبين وهم يظنونني مدرساً جديداً، ثم تكتشف الحقيقة
فشجعني كثيرون منهم وكان في المدرسة عدد من المدرسين من أبناء قريتي فأوصوا بي زملاءهم، فسمحوا لي بحضور فصولهم النظامية لأني كنت شديد الحاجة إلى المساعدة في
اللغتين الانجليزية والفرنسية، ولا اقدر طبعا على نفقات الدروس الخصوصية، فأصبحت
أمضي نهاري كله داخل جدران المدرسة، احضر حصص اللغتين الأجنبيتين كلها في كل
الفصول، وأطوف وراء مدرسيها من فصل إلى فصل فاحضر الدرس الواحد عدة مرات، ثم ينتهي
اليوم النظامي وتبدأ دروس فصول الخدمات فاحضرها جميعاً، ثم أعود إلى بيتي في
القرية لاستذكر دروسي حتى وقت متأخر من الليل، إلى أن انتهى العام الدراسي وتقدمت
للامتحان وانتظرت النتيجة بقلب مرتجف ففوجئت بنجاحي بمجموع 57% ، فازددت إصرارا
على أن أواصل الطريق إلى النهاية، وكانت نقودي قد نفدت بعد أن عشت عاماً طويلاً
بخمسين جنيهاً فقط، لا أعرف حتى الآن كيف سدت رمقي ولبت احتياجاتي.
وكان أبي قد رحل منذ فترة عن دنيانا ففتحت محلاً
صغيراً للحلاقة في قريتي، وانتسبت إلى كلية التجارة بجامعة الزقازيق، ونظمت حياتي
بحيث اعمل أسبوعا في محلي الصغير اجمع خلاله ما يكفى لتلبية احتياجاتي واحتياجات
أمي من القوت الضروري، ثم انطلق إلى مدينة الزقازيق احضر المحاضرات وأذاكر وأعيش
حياة طالب الجامعة لمدة أسبوع آخر وهكذا.
لكن المحل الصغير لم يصمد
لهذا النظام فتراكم علي إيجاره المتأخر واسترده صاحبه فقررت السفر إلى العراق
للعمل خلال شهور الصيف، وظهرت النتيجة ونجحت في السنة الأولى، فركبت الطائرة إلى
هناك وعملت حلاقا في إحدى محلات بغداد لمدة أربعة شهور بنظام نصف الإيراد، فأعمل
طوال النهار وحدي في المحل ثم يجيء صاحبه في المساء فأحصي الإيراد واقتسمه معه..
وكان سعيداً بي وبأمانتي .. وحزن حين غادرته بعد 4 شهور وعدت إلى مصر ومعي ألف
جنيه لأواصل الدراسة وتفرغت لدروسي حتى جاء الصيف ، فسافرت مرة أخرى واستمر الحال
هكذا طوال سنوات الجامعة حتى حصلت على البكالوريوس وعمري ثلاثون عاماً، ولم ارسب
خلال رحلتي سوى مرة واحدة في السنة الثالثة بكلية التجارة لقسوة ظروفي فيها لكنها
كانت كبوة لم تتكرر أبدا.
وفى الشهور الأخيرة من
دراستي الجامعية ذهبت لزيارة بعض أقاربي فالتقيت بفتاة من قريباتي تدرس في السنة
الثانية بكلية آداب عين شمس، لم أكن رايتها من قبل فأحسست للوهلة الأولى بأن خيطاً
ما يربطني بها، وكانت تعرف قصة كفاحي مع التعليم ومع الحياة، فأبدت إعجابها
بتصميمي على التعليم فترددت على بيت الأسرة أكثر من مرة لرؤيتها والتحدث معها
وتقاربنا كثيراً، وتعاهدنا على الزواج عندما حصلت على شهادة البكالوريوس تقدمت
لخطبتها وعقدنا القران بعد قليل، وبدأت مرحلة جديدة من كفاحي لتكوين عش الزوجية،
وكنت قد جمعت من سفري كل صيف مبلغ ألف جنيه، فدفعتها كجزء من مقدم الإيجار لشقة في
القاهرة، وعدت للسفر فعملت عدة شهور وتسلمناها وأثثناها بالتقسيط، وتزوجنا واكتشفت
أني قد حصلت على شهادتي في وقت لم تعد هناك قيمة فيه للشهادة الجامعية، فخرجت اطلب
العمل في محلات القاهرة ووجدته بسهولة ، وأنا الآن اعمل في أحد المحلات باجر قدره
8 جنيهات في اليوم، وأحصل على دخل شهري لا يقل عن 300 جنيه، وزوجتي راضية عن
حياتنا وعن عملي بل وفخورة به وبى وبكفاحي، لكني لم أتخلص بعد من نفوري القديم من
المهنة الذي غرسته في نفسي سخرية التليفزيون والسينما من حلاق القرية.
وأشعر أحياناً أنى سرت في
طريق مسدود حين أصررت على التعليم وضحيت بعملي في الخارج من أجله، لكن زوجتي لا
تشاركني هذا النفور، ولا ترى في الوظيفة أملاً يستحق المعاناة أو يستحق أن يفسد
سعادتنا فهي راضية بى هكذا.. وتريدني ألا أشقى بوضعي كحلاق جامعي، وأن أبتسم
للحياة، وكلامها يخفف عني الكثير ونفسها الراضية وقلبها الذي لا يشع إلا الحب
يشعرانني أحيانا أنى ملك ولست حلاقاً بالأجر، وقد حملت زوجتي ونستعد الآن لاستقبال
جنين الحب الذي جمع بيننا، وحين أعود إلى عشنا الصغير بعد يوم طويل أمضيته واقفاً
على قدمي أحس بالأمان يغمر روحي وبنسائم الحب تحلق في سماء مسكني الصغير، واشعر
بالراحة بعد العناء .. لكن قاتل الله القلق فأنا قلق على مستقبلي وأتمنى لو استطعت
أن أجد وظيفة أؤمن بها أيامي القادمة إلى جانب فني ومهنتي، لان مهنتنا لا قلب لها
والازدهار فيها مرتبط بالسن والشباب ، فالشباب يقبلون علي الآن لكنهم حين أتقدم في
العمر سأصبح بالنسبة لهم موضة قديمة، وربما لن أجد من يستخدمني فماذا تقول لي.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
إنك (ملك) فعلاً لا مجازاً،
لأنك تملك الحب الصادق الحقيقي وتتنفس نسائمه مع شريكة حياة محبة راضية فخورة بك
في كل الأحوال، وتستعد لاستقبال ثمرة الحب التي ستخرج إلى الحياة بعد قليل فتكتمل
بها سعادتكما. وأنت (ملك) أيضا لأنك تملك إرادتك القوية التي استطعت أن تنتشل نفسك
بها من ظلام الأمية إلى ضياء العلم ، وتمكنت بها أن تبنى لنفسك عشاً صغيراً جميلاً
بلا سند من احد سوى كفاحك وصلابتك، فماذا تفسد أيامك السعيدة هذه بالرثاء لنفسك؟
لأنك لم تجد وظيفة بمؤهلك الجامعي، ولم يمض على تخرجك سوى شهور، وأنت في مجتمع
يطول فيه انتظار الخريجين لفرصة العمل بالسنوات، فإذا جاءتهم عجزت غالباً عن تحقيق
أحلامهم في المسكن والزواج، ولماذا نشقى دائماً للوصول إلى ما كان يبدو لنا
مستحيلاً؟ فإذا ما بلغناه زهدناه واستصغرنا شأنه وشقينا بالتطلع إلى أهداف بعيدة
أخرى؟
ثم ما معنى الأمان الذي
تبحث عنه وأنت تملك فناً تجيده وتستطيع أن تستثمره خلال فترة قصيرة أخرى في مشروع
خاص؟ تكون فيه سيد نفسك وتحقق من ورائه كل ما تطمح إليه من أمان واستقرار.
يا صديقي إن الوظيفة في
بلادنا لم تعد غالباً مصدراً للأمان ولا للوجاهة الاجتماعية ، بل أن السخرية
المريرة التي كنت تشكو منها لم تعد تتجه الآن إلى مهنة بعينها في مجتمعنا أكثر مما
تتجه إلى الوظيفة والموظفين بغض النظر عن أخلاقية السخرية من أي عمل شريف مهما كان
وضعه.
وفى بلادنا الآن نظم
للتأمينات الاجتماعية لأصحاب الأعمال الحرة تبطل حجة الأمان الذي كانت تمثله
الوظيفة.. لهذا فإنى اتفق مع زوجتك في عدم احتفائها بأمر الوظيفة وأراها في هذه
النقطة أكثر تقدميه منك. واقل تأثرا بهذه الرواسب الاجتماعية القديمة التي مازالت
تؤثر فيك، وتدفعك للنفور من فنك ومهنتك الشريفة. ورغم ذلك فإذا كنت تبحث عن (لقب)
فلا باس إذا سمحت لك الظروف بالعثور على وظيفة بان تعمل بها ساعات الصباح، على أن
تستكمل باقي متطلبات حياتك من العمل الحقيقي الذي تمارسه الآن، والذي ستعرف قيمته
أكثر إذا عثرت على وظيفة لن تقدم لك ربع الدخل الذي تحققه الآن ، وإن كنت في رأيي
لست في حاجة إلى هذا ( اللقب) الذي لم يعد يمثل شيئاً، لأنك حملت بالفعل لقباً
أسمى منه حين حققت بكفاحك ملحمة تعليمك، وحين وفقك الله إلى هذه الشريكة الفاضلة..
وحين نجحت في بناء عشك الصغير الجميل، الذي قد يغبطك عليه الكثيرون ممن أجزلت لهم
الحياة العطاء في حياتهم العملية، وحرمتهم من لحظة سعادة حقيقية يتنفسون خلالها
نسائم الحب الذي يظلل حياتك الخاصة، فلا تبدد أمانك النفسي طلباً لامان غير مضمون،
ولا تسمح للخوف من المستقبل بأن يسرق أيامك وزهرة عمرك، فلقد علمتنا الحياة بأن من
يغالى دائماً في التحسب للمستقبل لا يستقر له جانب طوال حياته مهما تحصن ضد الزمن
بشتى الاحتياطات، لان المستقبل الذي يخشاه سيكون نفسه حاضره بعد سنوات، فإذا تمكن
الخوف من إنسان تجاهه لم يستطع أبدا أن يسترد اطمئنان قلبه مهما حقق من نجاح، لأنه
يحمل معه خوفه من مرحلة إلى مرحلة طوال حياته خوفاً من مستقبل لا يملك أمره سوى
الله سبحانه وتعالى .. فاصبر قليلا يا صديقي وانظر ورائك بين حين وآخر لترى الشوط
الذي قطعته، ولترضى عن حاضرك وتطمئن إلى مستقبلك، ولا بأس بأن تتذكر دائماً قول
الشاعر:
اصبري أيتها النفس فإن
الصبر أحجى
ربما خاب رجاء وأتى ما ليس يرجى
وأنت على أيه حال لم يخب لك
رجاء حقيقي حتى الآن، ولم تأتك الحياة بما ليس يرجى لكنك تسير على الطريق.. وكل
شيء يأتي لمن صبر وكافح.. ورضي بما حققه وبما انعم عليه ربه، ومن كانت له إرادتك
لن تستعص عليه غاية ولن يضل الطريق إلى أهدافه أبدا بإذن الله.
· نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد
الجمعة" عام 1988
شارك في
إعداد النص / ياسمين عرابي
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر