الطاعة العمياء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

 

الطاعة العمياء .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994

 

أنا يا سيدي طبيب من عائلة تؤمن بالطب أبا عن جد ولي 4 أشقاء متزوجون جميعا من طبيبات ومعروفون في الوسط الطبي والحمد لله .. وقد تعرفت على زوجتي منذ عشر سنوات حين كانت تعمل في المستشفى الخاص الذي كنت أديره , وقد أعجبت بها وعرضت عليها الزواج فصارحتني بأنها قد سبق لها أن خطبت وعقد قرانها على أحد الأشخاص وهي في بداية عهدها بدراسة الطب ثم تم الطلاق بعد أن دفع والدها مبلغا كبيرا لخطيبها السابق لكي يطلقها وبعد مشاكل كثيرة أدت إلى مرض أبيها بالسكر ثم خطبت مرة أخرى وهي في نهاية سنوات الدراسة بكلية الطب لشخص آخر واستمرت الخطبة عاما ونصف عام ثم فسخت أيضا بسبب مشكلة تافهة صمم والدها بعدها وبغير دراسة كافية على فسخ خطبتها .. وقد عرفت منها أن مشكلتها الوحيدة هي طاعتها العمياء لأبيها وأمها وأن موافقتها أو رفضها لخطبتي سوف يتوفقان على قرارهما بشأني.

 والتقيت بأبيها ووافق على خطبتي لابنته من أول لقاء وتكفلت بكل شئ في نفقات الزواج عن طيب خاطر وتزوجنا في شقة بإسمها كانت تملكها قبل الزواج بخمس سنوات ومضت حياتنا سعيدة وهانئة للغاية , وسافرت للعمل في إحدى الدول العربية ست سنوات رافقتني في نصفها , واضطرت للعودة لاستكمال دراستها للماجستير ولرعاية أمها في مرضها وشقيقها , في نصفها الأخير فعشت وحيدا هناك لفترة ثم اكتفيت من تجربة العمل بالخارج بهذا القدر وعدت إلى مصر لاستقر مع زوجتي وأولادي في بيت واحد فإذا بي أواجه مشكلة غريبة تنغص علي حياتي فزوجتي تعمل صباحا في المستشفى ثم تغادره في الظهر ولكن ليس إلى بيتي كما هو المنتظر وإنما إلى بيت أبويها ومعها ابننا " 8 سنوات " وطفلتنا "4سنوات" فترعى أمها والطفلين وتلبي جميع مطالبهما , وتشتري لهما ما يحتاجان إليه من المحلات بسيارتها ثم تبقى في بيت أهلها طيلة المساء وتعود إلى بيتنا في التاسعة مساء كل يوم ولمدة خمسة أيام من كل أسبوع ! .. وفي البداية تصورت أنها مسألة أيام ثم تنقضي ولكن وجدتها نظاما ثابتا لحياتنا تريدني أن أسلم به .. وبسببه حدث أول خلاف جاد بيني وبينها منذ تزوجنا .. فقد طالبتها بأن ترعى حقي عليها في أن تكون زوجتي لي ولبيتها وأولادها قبل أي شئ آخر فأصرت على هذا النظام , واستمر الخلاف عاما طويلا حاولت خلاله معها بشتى الطرق أن تعدل عنه وتدخل بيننا الأهل والأصدقاء دون جدوى , فما أن تنتظم قليلا في العودة للبيت بعد المرور لفترة قصيرة على بيت والدها حتى تعود للبقاء فيه تدريجيا حتى التاسعة مساء .. وأخيرا ضقت ذرعا بذلك وطالبتها إذا تأخرت في العودة مرة أخرى بأن تبقى في بيت والدها , وساعدتها على حزم حقيبتها وأوصلتها مع الطفلين إلى سيارتها وعدت إلى المسكن ووجدت نفسي لأول مرة منذ عودتي من الخارج قبل عام ونصف العام نائم قرير العين رغم أن هذه اللحظة كانت من أسوأ لحظات حياتي ..

ولقد مضيت الآن 6 شهور وزوجتي مقيمة في بيت أسرتها مع الطفلين وأنا مقيم وحدي , وقد رفضت العودة إلى مسكن الزوجية إلا بعد أن أسدد لها عشرة آلاف جنيه ! والغريب أن أهلها قد وافقوا على هذا الشرط الغريب الذي أسمع به لأول مرة في حياتي وهو شرطها الوحيد الآن للعودة وقد رفضته بشدة !

 

يا سيدي .. لقد أعطانا الله سبحانه وتعالى الكثير والحمد لله من زواج سعيد طوال السنوات السابقة لهذه المحنة وطفلين ومالا في البنك نستفيد من عائده ورحلات داخلية وخارجية ووضعا اجتماعيا جيدا وصحة طيبة وأداء لفريضة الحج مرتين , وكان ينبغي علينا أن نشكر الله عليه ونسعد بحياتنا معا , لكنها مصممة على أن تلبي متطلبات أسرتها أولا ثم لا تعود لزوجها وبيتها إلا في التاسعة من مساء كل يوم .. وحجتها في ذلك أنه طالما لا ينقصني شئ ولا تهمل بيتها فيجب أن أتغاضى عن عودتها المتأخرة لأنها تتأخر في بيت أبيها ! والغريب أن أهلها يؤيدونها في ذلك وقد لفت نظرهم إلى أنها في السادسة والثلاثين من عمرها وليست فتاة في السادسة عشرة , لكي يتخذوا لها قراراتها وإلى أنه ليس من العدل أن يساعدوها على هدم بيتها بهذا الموقف الغريب منهم ولكن بلا فائدة.

 فهل من المعقول أن يساهم أب في هدم حياة ابنته الزوجية للمرة الثالثة ؟

وهل يجب حقا على زوجتي أن تطيع أباها الذي تعتقد اعتقادا راسخا بأنها السبب في مرضه بالسكر خلال مشكلة زواجها الأول إلى هذه الدرجة من الطاعة العمياء ؟

 لقد سألت اثنين من كبار الشخصيات الدينية في مصر فأفاداني بأن واجب الزوج لزوجته هو المعاملة الكريمة والانفاق بغير تقتير وواجب الزوجة لزوجها هو الطاعة وهي فرض عليها وعدم الخروج إلا بإذنه , وأنا أعاملها معاملة كريمة ولا أقتر عليها في شئ وننفق عائد المدخرات كله على حياتنا ولنا سيارتان , وشقة مصيف .. فماذا أفعل يا سيدي مع زوجتي التي تقدم طاعتها لأبيها على طاعتي والتزامها ببيت أبويها على التزامها ببيتي ؟

 

 إن وجود طفلتي وابني هو أكبر عائق بالنسبة لي أمام الطلاق وخاصة طفلتي التي يؤرقني مستقبلها أكثر من طفلي ويؤرقني أن تعرف حين تكبر أن أمها قد ضحت بزواجها أو خطبتها ثلاث مرات من أجل أبويها , لهذا أرفض الطلاق بشدة .. كما أرفض بشدة أيضا اللجوء إلى المحاكم ورفع دعوى لإلزام زوجتي بالدخول في طاعتي .. وأمامي الآن عقد جديد للعمل في دولة عربية , لكني لا أريد شيئا سوى أن أعيش مع زوجتي وأولادي في بيت هادئ ومستقر بغير معاناة هذه المشكلة الغريبة كل يوم .. فهل هذا كثير يا سيدي ؟ وهل هذه الطاعة العمياء من زوجتي لأبويها سليمة أو لها سند من الدين أو الشرع ؟

جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"

abdelwahabmetawe.blogspot.com

ولــكـــاتـــب هـــذه الــرســالــة أقــــول:

 

طاعة الزوجة لزوجها مقدمة على طاعتها لأبويها في كل الأديان , لكن هذه وتلك ينبغي أن تكون طاعة مبصرة وليست طاعة عمياء صماء ذلك أن الطاعة العمياء من طبائع الرقيق الذين لا يملكون من أمرهم شيئا، أما الطاعة المبصرة فهي من طبائع الحر الذي اختار حياته بإرادته الحرة ورضي بالتزاماته تجاهها وقبل بتبعات هذا الالتزام مقابل ما يترتب له من حقوق على الآخرين , لهذا فهي طاعة رشيدة تفرق بين ما هو منصف وعادل ومشروع وبين ما هو غير ذلك .. ومن حق الزوج على زوجته أن تلزمه وتقر في بيته وألا تخرج من بيتها إلا بإذنه .. والإذن هنا ليس إذنا حرفيا وإنما قد يكون إذنا ضمنيا أي أنه ما لم يعترض الزوج على خروجها فإن ذلك يحمل على موافقته كأن يقبل بعملها من البداية مثلا فيعني ذلك تلقائيا خروجها إلى عملها كل يوم بغير حاجة إلى إذن مباشر منه وكذلك الحال في كل صور الحياة المألوفة لديها ذلك أن تكرارها دون اعتراض من جانبه إنما يفيد الرضا والموافقة , ولا يستثني الفقهاء من ذلك إلا خروج الزوجة لزيارة أبويها فلها أن تزورهما مرة كل أسبوع أو بحسب ما جرى به العرف حتى ولو لم يأذن لها زوجها لأن ذلك من صلة الرحم الواجبة , كما أنا لها أيضا أن ترعى المريض منهما إن لم يوجد من يرعاه حتى ولو لم يرض بذلك زوجها لأنه أيضا واجب عليها ولا يحق للزوج أن يمنع زوجته من أداء واجبها تجاه أبويها.

والأصل في كل ذلك هو التراضي بين الطرفين والاعتدال في أداء الواجبات بما لا يخل بحقوق أحدهما على الآخر ولا يستثير ضغينته وحنقه .

وفي قصتك فإن تقصير زوجتك في حقوقك عليها واضح ولا يحتاج إلى دليل .. وحجتها في عدم تقصيرها في حق بيتها وأولادها حجة واهية لأن حق بيتها لا يقتصر على إعداده أو نظافته مثلا , وإنما أن يكون هذا البيت نفسه هو المستقر والمرعى والمنشأ الذي ينشأ فيه أطفالها ويسكن إليها فيه زوجها ويتشاركان في الارتباط به بحيث يكون عشهما الأول الذي يأويان إليه ويلزمانه ما لم تكن هناك ضرورة للابتعاد عنه .. فبيت الزوجية ليس جدرانا ولا أثاثا ولا مجرد ستائر مخملية فقط وإنما هو الحمى الذي ينتمي إليه الزوجان والأبناء ولا ينبغي أن يسبقه أي مكان آخر في العالم في أولوية الارتباط به أو أفضليته .. وهذه هي الروح التي ينبغي أن يغرسها وينقيها الآباء الراشدون في أبنائهم ذكورا وإناثا .. فإن فعلوا غير ذلك فعن أنانية قاصرة ترجح اعتباراتهم الشخصية على مصلحة أبنائهم في المدى البعيد , وإذا تراخوا في تصحيح هذا المفهموم لدى بناتهم أو أبنائهم فعن جهل بواجبهم تجاههم أو عن تقصير وفي كل الأحوال فإن مسئولية والدي زوجتك في ذلك كبيرة ومسئولية زوجتك نفسها أكبر .. فلا شك أنك تستطيع أن تعدل بين واجبها تجاهك وتجاه أولادها وبيتك وبين واجبها الأخلاقي والديني تجاه أبويها , وإحساسها بالذنب تجاه أبيها لاعتقادها أنها السبب في اصابته بالسكر إحساس غير منطقي ولا مقنع فهي لا دخل لها في تعنت خطيبها الأول مع أبيها في شروط الطلاق وحتى ولو كان إحساسا صادقا فإنه لا يكفي لكي تبرر به تشريد طفليها وحرمانهما من أبيهما وحرمان أبيهما منهما.

 فإذا كانت رقيقة الإحساس حقا إلى هذا الحد فلماذا تقتصر هذه الرقة على أبويها فقط ولا تمتد إلى طفليها ولماذا لا تستشعر أي إحساس بالذنب تجاه هذين الطفلين الصغيرين اللذين يحتاجان إلى أن ينشآ في حياة آمنة مستقرة بين أبوين عطوفين .. بل ولماذا لا تستشعره تجاهك أنت أيضا وأنت شريك حياتها الذي لم ينازعها في شئ قبل أن يصطدم بمشكلة أنه زوج لنصف الوقت فقط.

 إن هناك خللا بينا وآثره بينة في مفهوم زوجتك وأبويها للحقوق والواجبات وما مبلغ العشرة آلاف جنيه الذي تشترطه لعودتها لك سوى مثل عجيب آخر لهذا الخلل .. إذ لا بأس بترضية النفوس بهدية ملائمة تهديها إليها أملا في بدء حياة جديدة وبشرط أن يكون ذلك بمبادرة منك وباختيارك أما أن تشترط هي دفع "كفالة" لها للخروج من بيت أبيها إلى بيتك فهذا شرط مجحف وعجيب حقا وأؤيدك تماما في رفضه .. كما أقدر لك همك بمستقبل طفليك لكني أرى دائما أن الأفضل أن يكون هذا الهم مشتركا بين الطرفين وإلا أصبح وسيلة إرغام وإذعان من طرف لآخر للقبول بشروطه مهما كانت مجحفة.

 فراجعها مرة آخرى يا صديقي في مستقبل طفليها وناشدها أن تعدل بين إحساسها بالمسئولية تجاه أبويها وإحساسها بالمسئولية الأكبر والأعظم تجاه طفليها وتجاهك ثم امنحها مهلة أخيرة لمراجعة النفس وتصور مستقبل هذين الطفلين البريئين حين يتمزقان بين أبوين منفصلين , ولا بأس ببعض المرونة للوصول إلى حل وسط معها فإذا قبلت بالعودة والاعتدال كان بها , وإن لم تقبل وتمادت في صلابتها وعنادها إلى النهاية فلابد مما ليس منه بد .. عسى أن تتعلم من صدمة فشلها الثالث بعض الحكمة التي لم تستوعبها من فشليها السابقين فتصبح أكثر استعدادا للعدل معك .. فإن لم تتعلم حتى من ذلك فالأمر لله من قبل ومن بعد .. وعقاب الحياة العادل لمن لا ينصف الآخرين من نفسه ولا يتعلم من تجاربه مهما كانت مرارتها هو الوحدة .. والاجتناب.

نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" يناير 1994

كتابة النص من مصدره / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 

Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات