رحلة سفر .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994
أنا واحد من قرائك أبلغ من العمر 44 سنة .. توفي أبي وأنا في الخامسة عشرة من عمري فوجدت نفسي مسئولا عن أسرتي المكونة من أمي وأخي الأصغر وأختي الصغرى , وبعد سنوات حصلت على مؤهل متوسط وعملت به بإحدى الوظائف الحكومية في مدينتي الصغيرة حيث تقيم أسرتي في أقصى الجنوب وأعنت أسرتي على أمرها بمرتبي الضئيل وبالفتات الذي خلفه لنا أبي وراءه إلى أن شب شقيقي عن الطوق .. وتزوجت أختي وبلغت أنا السابعة والثلاثين من العمر دون أن أتزوج , ووجدت شبابي يوشك على المغيب فاقترحت علي احدى قريباتي الزواج من فتاة مقيمة بالقاهره عمرها 33 سنة ولم تتزوج وتربطها بأسرتنا صلة قرابة بعيدة , فوافقت على العرض بشرطين الأول أن تقيم زوجتي معي في بلدتي التي تبعد عن القاهرة برحلة سفر بالقطار طولها 12 ساعة , والثاني أن أراها قبل الموافقة النهائية على الزواج , وسافرت قريبتي إلى القاهرة وعرضت على الفتاة رغبتي وعادت إليّ تبشرني بموافقتها وأسرتها على الزواج والإقامة معي حيث أقيم .. وذهبت أنا إلى القاهرة وزرت الأسرة وشاهدت العروس ورضيت بها وتم الاتفاق على إجراءات الزواج وبعد شهر آخر تم عقد القران وعدت إلى بلدتي سعيدا لاستعد للزواج , لكنه بعد شهور قليلة من عقد القران وقبل أن يتم الزفاف حدثت بعض الخلافات والمشاكل بيني وبين خطيبتي وبدا واضحا أنها غير راغبة في الاقامة معي بالجنوب , وخيرتني بين الطلاق وبين أن أقيم معها بالقاهرة بعيدا عن أهلي , لكني رفضت فكرة الطلاق نهائيا .. كما رفضت أيضا الاقامة معها في القاهرة !
ومضى عام طويل وكل منا لا يتنازل عن رأيه .. فلا أنا أطلقها أو أقبل الإقامة معها في القاهرة .. ولا هي تتنازل قيد أنملة عن رفضها الإقامة معي في بلدتي البعيدة عن العاصمة.
ثم تدخل الأهل بيننا لحل المشاكل وتم الاتفاق على أن تقيم هي في القاهرة إلى جوار عملها وأسرتها , وأن أتردد أنا عليها كل شهر أو أكثر إلى أن يستجيب أحد الطرفين لرغبة الآخر ويقبل الإقامة معه حيث يقيم إقامة نهائية , وتم الزفاف في القاهرة وأصبحت أسافر إلى زوجتي المقيمة مع أسرتها كل شهر أو كل فترة مناسبة , وحملت زوجتي بعد شهر واحد من الزواج ولم أستطع أنا الاستمرار طويلا في هذا "النظام" وعجزت عن مواصلته بعد 4 شهور فقط من الزفاف , فعرضت عليها الاقامة معي في بلدتي حيث أنها موظفة ومن السهل نقلها إلى هناك لكنها رفضت الفكرة مرة أخرى نهائيا ولو أدى ذلك إلى طلاقها , فطلقتها بعد زواج لم يدم أكثر من خمسة شهور وانفصلنا وهي حامل في شهرها الرابع , وبعد شهور أخرى وضعت مطلقتي طفلة جميلة , وبدأت أتردد على بيتها كل شهرين لرؤية طفلتي ودفع المبلغ الشهري الذي قررته لها , وفي كل زيارة لطفلتي التقي بمطلقتي وأعرض عليها العودة بشرط أن تقيم معي في بلدتي فترفض مغادرة القاهرة مهما كانت الأسباب وتعلل ذلك بأنها لا تستطيع التخلي عن خدمة أبيها وأمها مع أن لها إخوة متزوجين وأختا متزوجة بالقاهرة ويستطيعون رعاية أبويها على خير وجه .. وفي بعض الأحيان توافق على العودة ولكن بشرط أن أقيم معها في القاهرة وأنا لا أستطيع أن أغير محل إقامتي في موطني الأصلي بالجنوب كما أني أقوم برعاية أمي وأختي التين تحتاجان لرعايتي وهكذا تنتهي الزيارة دون التوصل إلى حل ودون أن يتنازل أحدنا عن رأيه !
وعلى هذا الحال مضت 6 سنوات طويلة ولا هي تتنازل عن رأيها ولا أنا أغير رأيي .. ولم تتزوج مطلقتي بعد طلاقها وترفض الزواج مرة ثانية , وأنا لم أتزوج بعد وقد بذلت محاولات عديدة لكي توافق مطلقتي على شرطي الوحيد لكنها للأسف مازالت تصر على موقفها الثابت والعنيد.
إنني أشفق على ابنتي من الأثر السلبي لإنفصال أبويها عليها في المستقبل حين تعي الأمور وتفهم حقائق الحياة , وأتمنى من أعماق قلبي أن تنشأ ابنتي في رعايتي ورعاية أمها وأن يجتمع شملنا في أسرة مترابطة بل إنني في أشد الحاجة إلى ذلك , لكني في نفس الوقت لا أستطيع أن أغير محل إقامتي .. ومطلقتي مازالت على موقفها .. فبماذا تشير علي ؟ هل أتزوج من أخرى وأيأس من الأمل في استجابة زوجتي لرغبتي مع خوفي الزائد على مصير ابنتي أم ترى ماذا أفعل ؟
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولـكـــاتــب هذه الــرســـالــة أقــــول:
قصتك يا صديقي تصلح لأن تكون درسا عمليا لتأكيد أهمية الشرط الثالث من شروط الزواج الموفق التي طالما تحدثنا عنها في حالات مماثلة .. فلقد قلت مرارا أن الخبراء قد أجمعوا على ضرورة توافر أربعة شروط أساسية في الزواج المرشح للنجاح والاستمرار إلى جانب الأساس البديهي وهو الحب أو القبول النفسي على الأقل من كل طرف للآخر , وهي حسن اختيار الشريك , ثم سلوك الزوجين سلوكا نفسيا حسنا أحدهما تجاه الآخر وتجاه الحياة بصفة عامة , ثم حل مشاكل الحياة الزوجية الأساسية حلا يرضي الطرفين معا كمشاكل الأمومة والأبوة والسكن ومكان الإقامة وتوفير الدخل الملائم لتلبية مطالب الحياة , مع الحرص على عدم تصدير أية مشكلة من هذه المشاكل إلى مرحلة ما بعد الزواج اعتمادا على أن الحب وحده سوف يذلل الصعاب إذا وجد الحب أصلا , أما الشرط الرابع فهو حياة حسية قوية ومنسجمة بين الطرفين.
وأنت يا صديقي قد اصطدمت بالشرط الثالث قبل الزواج اصطداما مدويا كان يجب أن ينبهك منذ البداية إلى أنك مقدم على زواج مرشح للفشل أكثر مما هو مرشح للنجاح لأنكما لم تتوصلا إلى حل مرض لكما معا لمشكلة أساسية من مشاكل الحياة الزوجية , وهي مقر هذا الزواج نفسه وسكناه !
إذ كيف تقدم على الزواج من فتاة لم تتوصل معها إلى حل مرض لها ولك حول إقامة الزوجين بعد الزواج وهل يكون في القاهرة إلى جوار أهلها أم يكون في بلدتك البعيدة إلى جوار أهلك ؟ .. وكيف تصدران هذه المشكلة الأساسية إلى ما بعد الزواج أملا في أن يتنازل أحدكما عن رغبته ويستجيب لرغبة الآخر ؟
إن الأصل في الزواج هو أن تتبع الزوجة زوجها حيث يعيش ويقيم , والزوجة حين تقبل الزواج من إنسان فإنما تتعهد أمام الله أن تلازم زوجها في الصحة والمرض والسعادة والشقاء .. لكن الزواج من ناحية أخرى إرادة واختيار حر وإلتزام بما أتفق عليه الطرفان قبل إتمامه , ولقد أكدت لك زوجتك قبل الزواج رفضها لمصاحبتك إلى بلدتك وطالبتك بالطلاق .. فلماذا لم تطلقها وتبحث عمن تقبل الاقامة معك حيث تقيم ؟ ولماذا تمسكت بعناد عجيب برفض طلاقها لمدة سنة كاملة قبل الزفاف حتى تدخل الأهل بينكما واقترحوا عليكما هذا الحل القاصر الذي لا ينهي المشكلة وإنما يؤجلها للأيام المقبلة ؟
إن بعض الرجال وكذلك بعض الفتيات يتصورون الطلاق قبل الزفاف إهانة لكرامتهم أو انهزاما لإرادتهم مع أفضل الحلول إذا تفاقمت المشاكل قبل الزواج وعجز الطرفان عن حلها وإذا كانا عنيدين على هذا النحو الحجري مثلكما , إذ لا تترتب عليه أية مشاكل مصيرية .. ولا يدفع ثمنة ضحايا أبرياء من الأبناء إلى نهاية العمر , لكنك لم تقدم على الطلاق قبل الزفاف وأقدمت على الزواج وأنت على علم أكيد برفضها الانتقال معك إلى بلدتك , وتزوجتها وأنت تضم اقناعها في المستقبل بما لم تقتنع به ولم تبدأ أية مرونة تجاهه , وجاءت طفلتكما إلى الحياة وأبواها منفصلان لأن كل منهما قد قدت رأسه من الصخر ولا يريد أن يتنازل عن اعتباراته الشخصية ويستجيب لرغبة الآخر , فجاءت ضحية للمشاكل المؤجلة والرغبات المتصادمة وقصر النظر الفاضح ثم مضت ست سنوات طويلة دون أن يخفف الزمن من تصلب كل منكما شيئا .. إذن أليس منكما طرف رشيد يرجح مصلحة طفلته على رغباته واعتباراته ولو تحمل هو عناء الحياة حيث لا يريد !
إن كل منكما مسئول مسئولية كاملة أمام ربه عن تعاسة هذه الطفلة البريئة ولو سألتني عن رأيي لقلت لك أن مسئوليتك عن تعاستها أكبر من مسئولية أمها لأنها على الأقل لم تخف عنك قبل الزفاف رفضها الانتقال للإقامة معك , ولأنك قبلت رغم ذلك إتمام الزواج معها وكنت تستطيع طلاقها قبل الزواج والحمل فتنقذ هذه الطفلة من المصير الذي رشحتها له فتحمل أنت مسئوليتك برجولة وانكار للذات عن انقاذ هذه الطفلة وابحث مع مطلقتك بمرونة أكبر أي حل يحقق لكما نشأة هذه الطفلة الضحية بين أبويها ولو اقتضى الأمر أن تنقل أنت عملك وإقامتك إلى القاهرة .. ليس رضوخا لإرادة أحد .. ولا تخليا عن رعايتك لأهلك الذين يستطيع شقيقك القيام بها نيابة عنك إلى أن تتغير الأحوال , وإنما تحملا لمسئوليتك أنت عن حل مشكلة ساهمت بالقدر الأكبر في صنعها وتدفع طفلتك البريئة ثمنها غاليا الآن , والرجال حقا هم الذين لا يتهربون من تحمل مسئولية ما صنعوا من مشاكل .. ولا يتقاعسون عن تحمل تبعاتها مهما ثقلت عليهم , خاصة إذا كان لهذه المشاكل ضحايا أبرياء كطفلتك.
إنها مسئولية أدبية ودينية وأخلاقية تجاه هذه الطفلة قبل أي شئ آخر , وخيركما هو من يبادر بالتنازل عن اعتباراته القاصرة من أجلها .. ومسئوليتك أنت كأب أن تقدم لها هذه التضحية الآن وليس غدا إذا تمسكت أمها بعنادها وقصر نظرها إلى النهاية .. ولا داعي للانتظار عشرين سنة أخرى وكل منكما ينتظر أن يلين الآخر ويستجيب لرغبة الآخر .
وقديما قال الشاعر الاغريقي الأعمى سوفوكليس في "انتيجون" على لسان ابن المالك كريون لأبيه : لا تستسلم لفكرة أنك وحدك على حق .. فالذين يرون أنفسهم كذلك بداخلهم فراغ مخيف ! وكل منكما يرى نفسه وحده على حق .. وكل منكما يحتاج إلى من يهوى على رأسه بمطرقة تطرد منه هذا الفراغ المخيف وتنبهه إلى مسئوليته عن هذه الطفلة البريئة .. وشكرا.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" يناير 1994
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر