رجل مهم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985

 رجل مهم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985

رجل مهم .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985

إن الرجل الكبير حقًا هو من يرى نفسه أكبر من منصبه مهما علا هذا المنصب فإذا فقده فإنه لا يفقد نفسه .. لكن مأساتنا أن "الصغار" أحيانًا يتسللون إلى مواقع الكبار فإذا فقدوها فقدوا معها كل اتزانهم وحكمتهم وتحولوا معها إلى أشباه مجانين!.
عبد الوهاب مطاوع



أكتب إليك هذه الرسالة .. لأنني فى مفترق طرق .. وفى إحدى المراحل التى تشهد فيها حياة الإنسان تحولاً خطيراً كالزواج والعمل والمعاش .. أو الطلاق .. وهى كلها "محطات" يحتاج فيها الإنسان أن يتوقف ويعيد حساباته ويستعد لما هو مقدم عليه .. ولعلك تتساءل يا سيدي فى أي محطة من محطات العمر أنا الآن ؟؟

وأفضل ألا أجيب عن هذا السؤال قبل أن أحكى لك لمحات من قصة حياتي لعل فيها بعض الفائدة لى ولغيري من السيدات .. وللرجال أيضًا.

إنني .. سيدة تعلمت في المدارس الأجنبية وعشت حياة سعيدة عادية بين أبى وأمي وإخوتي وحين أتممت العشرين من عمري تزوجت من شاب رأيت فيه كل ما أتمناه فى شريك الحياة .. كان شابا وسيما يشغل وظيفة محترمه لها هيبة خاصة لدى الناس ومرحًا منطلقًا مقبلًا على الحياة .

 

ومنذ الأيام الأولى لزواجنا أحببته وتعاونا معا بإخلاص على إدارة عشنا الصغير. وكان يقبض مرتبه أول كل شهر فيعطيه لى لأنفق منه طوال الشهر وأخصص مصروفاً يومياً أعطيه له وهو خارج إلى عمله فى الصباح المبكر, وكنت أرقبه من شرفه البيت وهو يتخايل بقامته الممشوقة وجسمه الرياضي فى طريقه إلى السيارة " الميرى " مرتديا نظارته السوداء التى كانت من ملامح شخصيته وشخصية كثيرين من زملائه.
     وحين كان يركب سيارته وينطلق إلى عمله كنت أعود إلى داخل شقتي فأفتح الراديو .. وأنظف البيت وأنا استمع إلى برنامج ربات البيوت وأطهو الطعام مع أغاني الصباح .. فقد رفض زوجي أن أعمل بعد انتهاء دراستي .. وفضل أن أتفرغ له ومضت حياتنا هادئة .. وجاء الأبناء واحد بعد الآخر .. فعرفت أحاسيس جديدة ومشاغل جديدة وأصبحت أوقات فراغي أقل وسعادتي أكبر ، وكان زوجي يتحدث عن شخصية هامة كان لها شأن عظيم فى هذا الوقت .. كان للمصادفة من زملائه وكان أصلاً لا يحبه ويقول عنه أنه مغرور ومعقد و"عامل مهم" لكنه مع ذلك كان يحرص على زيارته فى مكتبه مرة كل أسبوع على الأقل .. ويحرص على مجاملته ويقف أمامه " زنهارا "ً كأنه من أتباعه , وكان صاحب الشخصية الخطيرة من هواة اصطناع الأتباع وذات يوم فوجئت بزوجي المحبوب يقول لى استعدى سننتقل إلى طبقه الحكام .. فقد وعده " فلان بيه " بمنصب كبير ونفذ وعده فعلا ونقل زوجي بعد أيام إلى وظيفة هامة وأصبحت له سيارة سوداء بسائق خاص .. وانتقلنا من شقة الزوجية إلى شقة كبيرة فاخره فى حى من أرقى الأحياء كانت لأحد الخواجات الذين فرضت عليهم الحراسة وإيجارها لا يتعدى جنيهات ، ووجدت فى خدمتي فجأة " شحطًا " طويلًا متفرغًا تماماً لتلبية طلبات البيت وتوصيل الأولاد للمدارس .. وبدأت ألاحظ أننا قد أصبحنا " أناساً مهمين " بالفعل إذا أساء بائع فى السوق الأدب معى وأخطأت فحكيت لزوجي من باب التسلية ما حدث .. سألني باهتمام شديدً عن هذا البائع وعن إسمه ثم يصمت وبعد أيام أفاجأ بالبائع نفسه واقفاً على باب الشقة يبكى ويحاول تقبيل يدى قائلاً : يا ست هانم حرام عليك أنا عندي أولاد سامحيني وخلى البيه يسامحني .. فامتنعت من يومها عن أن أحكى له حكاية مماثلة .. أما احتياجاتي من الأسواق فإنها تلبى على الفور من أحسن الأنواع وبأرخص الأسعار .. وفى عز الأزمات التموينية كانت احتياجاتي كاملة .. لي ولأسرتي ولكل من يطلب مني ذلك من جاراتي كما كانت كل ملابسنا مستوردة من بيروت وغزة واليمن في وقت كانت فيه قطعة قماش مستوردة تعد معجزة من المعجزات ، وبدأت ألاحظ أن طبيعية زوجي قد بدأت تتغير .. وأن روحه المرحة قد بدأت تتراجع وبدأ وجهه يكتسي بملامح صارمة مخيفة  وأصبحت أحاديثه معى ومع الأبناء مقتضبة أو إشارات من يده أو هزات من رأسه .. فإذا تكلم لا يتكلم إلا آمراً!

 

وأصبح من برنامج حياتنا أن أزور بالأمر زوجه " فلان بيه " كل فترة وأن أجاملها فى كل المناسبات دون أن تكلف نفسها عناء مكالمتي تليفونياً مرة ، وكنت أتعجب من أنها تلومني إذا تأخرت فى السؤال عن ابنها المريض بالإنفلونزا ثم لا تكلف خاطرها بأن تسأل عنى وأنا مريضة بالمستشفى بعد جراحة الزائدة الدودية وكنت أقول إنها ليست صديقة وإنما هى تعتبر نفسها " رئيسة " لزوجات كل من يرأسهم زوجها .. فإذا شكوت لزوجي قال لى " فتحى مخك " النظام كده .. و أهو إنت عندك زوجات المرؤوسين أعملي معاهم نفس الشئ!
       وواصل زوجي صعوده فشغل منصبًا أكثر خطورة وأصبحت له امتيازات كثيرة.وأصبح عدد السيارات المخصصة له ثلاثًا ، وأصبح " الشحط " الذي يقف بجوار باب الشقة أربعة رجال عمالقة يتناوبون الوقوف ليل نهار أمام باب البيت .. كأن أحدًا يدبر لقتلنا أو اختطافنا ، مع أن الحكاية لا " تستاهل " كل هذا وفي هذه الفترة حصلنا على شقة واسعة في قلب مدينة الإسكندرية كان يسكنها أيضًا " خواجات " ممن سافروا من مصر بإيجار زهيد وأصبحنا نمضي الأجازات فيها .. وفي هذه الفترة أيضًا اشترى زوجي قطعة أرض مبانٍ في مدينة نصر بسعر المتر جنيهين وبالتقسيط وهي نفس القطعة التي بلغ سعرها بعد عشرين سنة أكثر من مائتي جنيه للمتر الواحد.


     واطمأننا إلى مستقبل الأولاد بهذه الأرض وبمدخراتنا .. لكن ما أصبح يشغلني هو وزوجي نفسه. فلقد أصبح إنسانًا غريبًا عني فلقد مضى يزداد صمتًا وصرامة وغموضًا وانشغالًا عني .. ومضى يزداد استغراقًا داخل نفسه كأن لم تعد له شريكة حياة .. ولأن الحياة لا تمضي على وتر واحد دائمًا.. فلقد جرى علينا ما يجري على الآخرين من تقلبات .. وصحونا ذات يوم على أحداث وتغيرات وزلازل رهيبة في يونيو 1967 وانتهى الأمر بخروج زوجي من عمله. وليت الأمر اقتصر على ذلك فلقد تغيرت دنياه كلها خلال فترة لا تزيد عن شهور وبدأ الزلزال بسقوط " فلان بيه " وسجنه .. ثم سقوط كثيرين من أبناء جيل زوجي.
     وفي البداية نظر زوجي إلى الأمر باستهانة .. " واثقًا " من أن البلد " حتروح في داهية " وأنها ستعرف له ولزملائه قدرهم خلال وقت قصير و ستعود إليهم لترجوهم العودة إلى تحمل مسئولياتهم الخطيرة من جديد وإنقاذها .. وأنه ساعتها سوف "يفكر" طويلًا قبل أن يقرر هل يقبل العودة لخدمة "هذا البلد" أم لا؟.
     لكن الأمور مضت في طريق لا عودة فيه .. وفي كل يوم يختفي من الحياة العامة شخص جديد من عالمه القديم أو يدخل السجن شخص آخر فيهتز في أعماقه ويتوجس خيفة .. لكنه يتظاهر برباطة الجأش وواجهت معه فترة عصيبة في حياتنا. ولم تكن أحوالنا سيئة فلقد كان لدينا 3 شقق في القاهرة والإسكندرية وقطعة أرض للمباني وكان لدينا سيارة هي أول سيارة اشتريناها من مالنا وكانت شقتنا مجهزة بكل الكماليات وله معاش مناسب ولدينا بعض المدخرات ، وقد استسلم زملاؤه لمصيرهم بعد فترة .. وشغلوا أنفسهم في مشروعات تجارية صغيرة أو أنشطة خاصة فهذا يربي العجول في مزرعته وهذا أقام مزرعة دواجن. وذاك افتتح معرضًا للسيارات.. إلخ.. أما زوجي فقد تأزم تمامًا وتعقدت شخصيته بدرجة خطيرة .. وأصبح عمله الوحيد هو الذهاب إلى النادي في الصباح بعد أن يرتدي ملابسه الكاملة حتى في عز الصيف ويرتدي النظارة السوداء .. ثم يمشي بوقار إلى السيارة التي استأجر لها سائقًا يتقاضى ثلث معاش زوجي بلا ضرورة وفي النادي يجلس مع بعض زملائه القدامى و يتحدث في الأمور العامة ويدلي بآرائه بثقة ويشرب القهوة .. ثم يعود إلى البيت في الظهر فلا يغادره حتى اليوم التالي. وفي البيت بدأت ألاحظ عليه تصرفات غريبة مع مرور الأيام والسنين فلقد بدأ يدخن المخدرات كل يوم من الظهر حتى ينام ويمضي الوقت ساهمًا سارحًا فإذا تحدث أصبح الحديث الوحيد له هو " أمجاده " وما فعله " للبلد " فإذا جاءت سيرة أحد الكبار في ذلك الوقت أيًا كان موقعه قال ببساطة " فلان ده كان بييجي هنا يلبِّسني هدومي الصبح وأنا نازل للشغل " أو فلان ده كنت بضربه على قفاه كل يوم أو " فلان ده اسألوه يقولكم إني أستاذه وإنه ميقدرش يقعد قدامي ".


     وكنت أسمع ذلك وأتألم لما آل إليه حاله .. لأنه كان " يكذب " أمامي وأنا شريكة حياته التي تعرف عنه كل شئ ولم يكن يحزنني حاله في البيت .. بقدر ما كان يحزنني حاله في النادي وخارج البيت فقد بدأ يفتقد الأصدقاء والجلساء الذين لا يستطيعون " تحمل " هذا "الفشر" وهذه الكبرياء الكاذبة ، أما خارج النادي فلقد أصبحت " خناقاته " كثيرة مع كل من يتخيل أنه لم يبدِ نحوه الاحترام الكافي وكنت أسمع حكاياته من الجيران وأبكي .. فلقد بهدل نفسه كثيرًا مع أناس ليسوا على استعداد لتحمله ، أما حاله مع الأولاد ومعي فلقد أصبح محزنًا بالفعل، فقد أصبح لا يحتمل أي مناقشة لرغبة من رغباته ولا يتحمل مخالفته في أي شئ وأصبحت كلمته في أي أمر يتعلق بي و بشئون الأبناء لا راد لها ولا مناقشة فيها. وبدأ الأولاد يتذمرون خاصةً وقد أصبحوا شبابًا وتزوجوا فإذا راجعته في ذاك انفجر حانقًا .. وكلما نصحته بأن يمارس أي عمل لكي لا يؤذيه الفراغ أهانني وخاصمني .. حتى أصبحت حياتي معه جحيمًا لا يطاق خاصةً بعد أن استقل الأبناء بحياتهم وتجنبوه بقدر الإمكان تفاديًا للمشاكل والإهانات.




  

** سأعلق على هذه الرسالة باختصار شديد لأني آثرت أن أخصص معظم المساحة للقصة التي ترويها لأنها تنقلنا معها إلى عالم غريب لم تقترب منه رسائل البريد من قبل. إنه عالم الأشخاص المهمين .. ومأساتهم ومأساتنا أيضًا معهم!

 

ولكاتبة الرسالة أقول:

 

إني عاجز بالفعل عن أن أجد إجابات مقنعة لتساؤلاتك الحائرة وأرجو أن يجيب عنها من هم أقدر مني على الإفتاء في هذا الشأن ، وعاجز أيضًا عن أن أفهم كيف يمكن أن يتدهور شخص مهم أو كان مهمًا إلى هذا الحد لمجرد أن دنياه قد تغيرت وأنه لم يعد له نفس السطوة التي كانت له ذات يوم. إنني أعرف تمامًا أن انعدام الدور محنة ومحنة قاسية لكنها ليست نهاية الحياة ولا ينبغي أن تكون كذلك فهناك أشخاص كثيرون يتوقف دورهم كل حين فلا يتحولون إلى شخصيات مريضة مشوهة وإنما يتقبلون الأمر بواقعية ويتكيفون مع واقعهم الجديد لأنها سنة الحياة ولأن لكل زمان رجاله. ولأن الرجل الكبير حقًا هو من يرى نفسه أكبر من منصبه مهما علا هذا المنصب فإذا فقده فإنه لا يفقد نفسه لكن مأساتنا أن "الصغار" أحيانًا يتسللون إلى مواقع الكبار فإذا فقدوها فقدوا معها كل اتزانهم وحكمتهم وتحولوا معها إلى أشباه مجانين!.
     ومأساة بعض أفراد هذا الجيل الذي يمثله زوجك بكل أسف هي أنهم لا "يتحملون" أبدًا ألا "يخافهم" الناس! .. فإذا فقد الناس خوفهم منهم انهاروا كالأطفال وتحولوا إلى شخصيات ممزقة تهرب من واقعها الجديد إلى عالم خرافي لم يعد له وجود إلا في خيالهم. وزملاء زوجك الذين تكيفوا مع الحياة وربوا الدجاج والعجول هم في رأيي أشجع منه وأفضل وأكثر فائدة للحياة وللمجتمع ، ولو فعل مثلهم لأضاف زوجك إضافة جديدة إلى نهر الحياة المتدفق الذي لا يتوقف ولا ينتظر أحدًا ، ولما عانى هذا الانفصال الرهيب عن الواقع حتى ليتخيل نفسه بعد عشرين سنة الرجل الخطير الذي يصدر القرارات الخطيرة كقرار طلاقك في هذه السن فلا يتراجع عنها مهما كانت خاطئة. ولا شك أنه - سامحه الله - قد أتحفنا ببعض هذه القرارات الجليلة الشأن أيام مجده فساهم في تعقيد حياتنا وفي مضاعفة صعوباتها ثم رفض أن يتراجع عنها .. وهيهات أن يتراجع " العظماء " من أمثاله عن أخطائهم .. إنها ليست مأساتك وحدك وإنما هي مأساتنا أيضًا مع هذا الجيل من الحكام الصغار الذين عانينا منهم مثلما تعانين وأكثر. ومأساتك يا سيدتي أن زوجك رجل مصاب بجنون العظمة وقد تفاقم جنونه مع تدفق المياه في نهر الحياة بغير أن تعود مرة أخرى إلى الوراء لترتمي تحت قدميه .. وهيهات أن تعود ومن عجب أن المصابين بهذا الجنون يتفاقم إحساسهم بالعظمة بعد زوال أسبابها ومبرراتها.. كأنما يريدون أن يؤكدوا لأنفسهم ما يكذبه الواقع كل يوم .. ويصرون عليه كلما تباعدت ذكراه.


     والحق أن زوجك هذا ليس عظيمًا ولو كان عظيمًا بحق لما عرضك لهذه المحنة الشخصية بعد هذه الرفقة الطويلة بحلوها ومرها ، ولو كان رجلًا بحق لما شردك من بيت الزوجية بعد هذا العمر الطويل. وبغض النظر عما يقضي به القانون ولتخلى لك هو عن بيت الزوجية وحمل حقيبته معه إلى حيث ألقت قدماه ما دام مصرًا على الطلاق وهو والحمد لله قادر على أن يجد لنفسه مأوى كريمًا في القاهرة أو الإسكندرية .. أو في أي مكان، والبركة في شقق الحراسة التي حُرم منها الشعب واحتكرها الحكام الصغار من جيله .. وفي أرض مدينة نصر التي يمكن أن تشتري له شقة في أسبانيا إذا أراد!.
     لكنه ليس عظيمًا ولا خطيرًا .. ولا رجلًا .. وإنما هو واحد من هؤلاء الصغار الذين حملتهم الأمواج بالصدفة إلى مواقع الكبار .. فكان صعودهم نكبة علينا وكان انهيارهم نكبة عليكِ وعلينا فلكِ الله فيما تلاقين .. ولنا أيضًا فيما لقينا وفيما نلقى منهم أو من أمثالهم وحسبنا الله ونعم الوكيل.


* نشرت هذه القصة في بريد الجمعة في أوائل الثمانينات، وكان العهد مازال قريبًا ببعض رجال السلطة الذين فقدوا سطوتهم بعد نكبة يونيو 1967، وقد صاغ الزميل رءوف توفيق أحداث هذه القصة في فيلم سينمائي اسمه "زوجة رجل مهم" بطولة أحمد زكي وميرفت أمين.

 

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1985

شارك في إعداد النص / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات