اكتشاف السعادة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2001

اكتشاف السعادة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2001 

اكتشاف السعادة .. رسالة من بريد الجمعة عام 2001


إننا نحتاج في بعض الأحيان إلى أن نكتشف السعادة التي قد نكون غافلين عنها وهي بين أيدينا‏..‏ كما نحتاج أيضا‏,‏ وكما يقول المفكر الفرنسي مونتسكيو‏,‏ لان نقنع بعض الناس بالسعادة التي يجهلونها وقد يكونون متمتعين بها بالفعل بغير أن يشعروا بذلك‏.‏
عبد الوهاب مطاوع

أكتب إليك بعد قراءتي لرسالة الحادث الجلل للفتاة التي تشكو سخط شقيقتيها الطالبتين الجامعيتين علي أمهما لأنها قد حملت على غير إرادتها من أبيهن‏,‏ ورفضهما لهذا الحمل ومطالبتهما لها بإجهاضه بدعوى خجلهما من حمل أمهما أمام زميلاتهما بالجامعة‏.‏
فأنا طالبة بالسنة النهائية بإحدى كليات القمة وترتيبي الثانية بعد شقيق لي يبلغ من العمر‏27‏ عاما وشقيقة تصغرني بعامين‏,‏ وهي الأخرى طالبة بالسنة النهائية بإحدى كليات القمة الأخرى‏,‏ ثم شقيق يصغرني بخمس سنوات ونصف السنة يدرس بالسنة الثانية بكلية الهندسة‏..‏ وقد دفعتني للكتابة إليك قراءتي لرسالة الحادث الجلل وأمي سيدة ممتازة بكل ما في الكلمة من معان‏..‏ فهي تعمل طبيبة‏..‏ وممرضة ومدرسة ومحامية ومهندسة ومحاسبة‏..‏ وتجمع كل تلك المهام في عملها لأنها ربة منزل‏,‏ أما أبي فهو من رجال التربية والتعليم ويشغل مركزا مرموقا في عمله بجانب عمل تجاري بسيط لتحسين دخل الأسرة‏..‏ وكنا قبل أربع سنوات من الآن نعيش في جو من الحب والتفاهم والبساطة‏,‏ ويتفاني كل منا في إسعاد الآخرين‏,‏ وبالرغم من ذلك فقد كانت حياتنا اليومية رتيبة ومملة‏,‏ وكنا نتمنى التغيير إلى أن جاء يوم كنا فيه في الإسكندرية لقضاء أسبوعين في المصيف‏,‏ وكان شقيقي الأكبر قد أتم تعليمه في الأكاديمية العربية للنقل البحري وخرج في رحلة تدريب تابعة لجهة دراسته‏,‏ فشعرت أمي بأعراض برد شديد من قيء ودوار وغثيان‏..‏ وقالت إن تلك الأعراض تذكرها بأيام الوحم‏,‏ واستمرت تلك الأعراض لمدة ثلاثة أيام‏,‏ فشعرت بحكم دراستي بأن أمي تمر بفترة حرجة من عمرها الذي كان وقتها‏ 47‏ عاما وأشرت عليها بإجراء تحليل حمل‏..‏ كإجراء احتياطي للاطمئنان فقط‏,‏ وبالفعل ذهبت لإجراء التحليل وفي اليوم التالي استيقظت من نومي لأجد أمي تجلس على طرف الفراش وهي في حالة نفسية سيئة وهي تحملق في لا شيء وتمسك بيدها طرف ورقة هي نتيجة تحليل الحمل‏,‏ فما أن قرأت النتيجة التي كانت ايجابية حتى علمت سبب تلك الحالة التي وجدتها عليها‏,‏ وكان هذا هو الحادث الجلل‏..‏ بل الحادث السعيد‏..‏ أو الحادث الأسعد في حياتنا جميعا‏.

 

وضحكت كثيرا ورحت أنا وأختي وأخي الصغير نداعب أمي‏,‏ ونقول لها إن ما حدث هو أمر الله وقدره وانه ينبغي لها أن تفرح بالرزق الذي أرسله الله تعالى لها ولنا‏,‏ ورحت أقرأ عليها من القرآن والأحاديث حتى هدأت نفسها وابتسمت‏,‏ وكان والدي في ذلك اليوم مسافرا إلى مدينتنا‏,‏ فراحت أمي تفكر في وقع تلك المفاجأة عليه‏,‏ وما إن وصل في المساء وأخبرناه بما كان‏,‏ حتى دهش بشدة لما حدث وسعد بذلك سعادة طاغية وراح يهديء أمي ويطمئنها واصطحبتها أنا وأبي إلى طبيبة أمراض النساء التي أخبرتنا أنها حامل في شهر ونصف الشهر‏,‏ وسألتها أمي عن إمكانية التخلص من الحمل‏,‏ لكنني أنا   والطبيبة ذكرنا أمي بأن هذا قتل للنفس التي حرم الله إلا بالحق‏,‏ وكانت المفاجأة التي أخبرتنا بها الطبيبة ـ المتزوجة ولديها أطفال بأنها منذ عدة أشهر اكتشفت هي الأخرى أن أمها حامل‏!.‏

 

وبرغم ذلك لم تساعدها في التخلص من الحمل‏,‏ وخرجنا من عند الطبيبة وقد ساءت حالة أمي النفسية أكثر‏,‏ فأخذنا والدي إلى شاطيء البحر ليسري عنها واشتري لنا تفاحا وأخذ يغسله ويقطعه ويطعم أمي‏,‏ وفي طريق عودتنا للمنزل قمنا ـ أنا وأبي ـ بشراء بعض الفيتامينات والمقويات لأمي لخطورة الحمل عليها وهي في تلك السن المتأخرة‏.‏ وفي تلك الليلة بكت أمي بشدة‏,‏ وعندما سألتها عن سبب بكائها واكتئابها أخبرتني بأنها تخشي من وقع المفاجأة علي شقيقي الأكبر المسافر إذ ماذا سيفعل عندما يعود من الخارج ويعلم بما حدث‏,‏ فهدأت روعها وأخبرتها بأن شقيقي يحبها بشدة ولن يغضب لذلك‏..‏ وما هما إلا يومان أو ثلاثة ثم فوجئنا بشقيقي يدخل علينا على غير توقع محملا بالهدايا لنا جميعا‏.‏

 

ولم تكن أمي في المنزل في ذلك الوقت ـ فانفردت به شقيقتي الصغرى في إحدى الغرف وأخبرته بما حدث‏,‏ وكان رد فعل شقيقي على عكس ما توقعنا تماما‏,‏ فقد صرخ من شدة الفرح والسعادة‏..‏ ودمعت عيناه عندما علم بمخاوف أمي من أن يستاء وهو على مشارف الرابعة والعشرين من عمره من انه سيولد له أخ وليد‏,‏ وجاءت أمي وشعرت بوجود شقيقي حتى قبل أن تعلم بمجيئه وخرج هو من الغرفة وأمطرها بقبلاته وأحضانه ووضعها في الفراش وناداني أنا وشقيقتي وراح يملي  أوامره‏:‏ من الآن فصاعدا تستريح ماما في السرير تماما‏,‏ وتقومان أنتما بكل أعمال البيت‏,‏ وكان ذلك هو آخر يوم شعرت فيه أمي بالحزن لحملها‏.‏ ثم عدنا إلى مدينتنا وبدأنا نجلس معا طويلا لاختيار اسم المولود الجديد واختيار ملابسه ومرت الأيام والشهور‏..‏ ووضعت أمي طفلا جميلا‏..‏ خرج إلى الحياة مع ارتفاع صوت آذان الفجر‏,‏ وكان شقيقي الأكبر قد ذهب في رحلة تدريبية أخرى وكان يتصل بنا يوميا من المركب ليطمئن على أمي.

 

 وكانت فرحته عظيمة حينما تحدث لها لأول مرة بعد الولادة‏..‏ وكان ذلك الحادث الجلل‏..‏ أقصد الجميل‏,‏ هو الذي غير حياتنا تماما فانتهت الرتابة واختفي الملل وعرفنا التجديد وانشغلنا جميعا بمراقبة الوليد وهو نائم‏,‏ وهو مستيقظ‏,‏ وعندما فتح عينيه لأول مرة‏,‏ وهو يبكي‏..‏ وهو ينهنه‏..‏ وهو يرضع‏,‏ وهو يبتسم للملائكة التي تداعبه في أثناء النوم‏..‏ وكان جميع زملائنا في الجامعة قد علموا بالأمر منذ بدايته دون حرج أو خجل منا وعندما علموا بالوضع طلبوا مني أن يشربوا مغات المولود فأحضرت عددا لا بأس به من الترامس ووضعت المغات الساخن بها‏..‏ وسقيت جميع طلبة وطالبات كليتي من ذلك المشروب وانهالت المكالمات التليفونية من زملائي وزميلاتي وأمهاتهم لتهنيء أمي علي سلامتها وترحب بالمولود‏,‏ وجاء شقيقي الأكبر وراح يسأل عن كل صغيرة وكبيرة قام بها ذلك الولد الشقي في أثناء غيابه‏,‏ وكان يمضي الساعات الطوال بجواره يداعبه ويناغيه‏,‏ ورحنا نراقبه بعد ذلك عندما بدأ يتقلب  في الفراش لأول مرة‏,‏ ثم حين جلس وحده وحين حبا وحين وقف مستندا إلي المقاعد والموائد‏,‏ ثم يحاول أن يخطو أولي خطواته فيقع مكبا علي وجهه فيجد ستة أشخاص يتلهفون عليه وترتفع ألسنتهم هاتفة‏:‏ اسم الله عليك‏!‏ وهكذا حتى خطا‏ 3‏ خطوات متتالية دون أن يقع‏,‏ فمشي‏,‏ ثم جرى‏,‏ وهو الآن يلعب بالكرة‏..‏ ويلتقط الأصوات والكلمات بسرعة‏..‏ وتشع عيناه بريقا ذكيا وتمتليء نظراته بالشقاوة‏,‏ كما انه محبوب من جميع أفراد العائلة‏,‏ وأصبح أسعد أوقاتنا هو الوقت الذي يقضيه أحدنا بصحبة شقيقنا الخامس وأصبح شقيقي الأكبر يعود إلى البيت مبكرا تاركا أصدقاءه الشباب لكي يلعب مع أخيه الصغير‏,‏ ويغضب إذا وجده نائما‏,‏ وأصبح أسعد وقت في حياتي عندما أضمه إلى صدري وأطبع قبلة على خده وحين أجري وراءه في أنحاء المنزل لكي أطعمه وأسقيه اللبن وهو يحاول أن يختبيء مني بأن يضع وجهه في الحائط وهو يظن أنني لا أراه لأنه لا يراني‏..‏ وفي المساء أقص عليه الأقاصيص الجميلة الخيالية فينام هادئا وفي الصباح يقصها على أمي وشقيقتي‏.

 

‏ ونجد جميعا المتعة الحقيقية عندما نملأ الطبق الكبير بالماء ويأتي شقيقي الصغير لكي يستحم فيه أو نملأ له البانيو فينظر فيه ويسميه بحرا‏..‏ وهكذا أصبح ما يفعل أو يقول ذلك الشيء الصغير‏..‏ هو شغلنا الشاغل وجل اهتمامنا جميعا‏..‏ ومنذ فترة قصيرة اصطحبته أنا وأمي لكي نشتري له ملابس المدرسة‏,‏ وقد بلغ عمره الآن ثلاث سنوات ونصف السنة أي انه يصغرني بـ‏22‏ سنة‏.‏ فكيف تضيق الطالبتان الجامعيتان  شقيقتا كاتبة رسالة الحادث الجلل بهذه السعادة التي ستحل بحياتهم جميعا مع هذا المولود الجديد‏..‏ إنني ادعوهما إلى اكتشاف السعادة والبهجة التي تنتظرهما مع مجئ هذا المولود الجديد‏.‏

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏

لم يعد لدي ما أضيفه إلى ردي السابق على رسالة الحادث الجلل لكني توقفت بالرغم من ذلك أمام دعوتك للطالبتين الجامعيتين إلى اكتشاف السعادة التي تنتظرهما مع مجيء ذلك الوليد الجديد‏.‏
فالحق أننا نحتاج في بعض الأحيان إلى أن نكتشف السعادة التي قد نكون غافلين عنها وهي بين أيدينا‏..‏ كما نحتاج أيضا‏,‏ وكما يقول المفكر الفرنسي مونتسكيو‏,‏ لان نقنع بعض الناس بالسعادة التي يجهلونها وقد يكونون متمتعين بها بالفعل بغير أن يشعروا بذلك‏.‏

ويعني ذلك أن الإحساس بالسعادة يتوقف علينا نحن وعلى مدي استعدادنا للابتهاج بالأشياء وتقديرها حق قدرها‏,‏ وليس علي هذه الأشياء نفسها او علي العوامل والمؤثرات الخارجية‏..‏ وابسط مثال لذلك هو ابتهاجكم ومنذ اللحظة الأولي بحمل أمكم المتأخر‏..‏ وتهيؤكم للسعادة به وبالمولود القادم من عالم الغيب‏,‏ وابتئاس تلك الطالبتين الجامعيتين بحمل أمهما في نفس الظروف تقريبا ومجافاتهما لها لهذا السبب واستشعارهما الحرج بين زميلاتهما لهذا الحمل وما سوف يتلوه من ولادة‏,‏ مع ان الحدث في كلتا الحالتين واحد‏..‏ والظروف  العائلية والاجتماعية متقاربة إن لم تكن متماثلة‏,‏ لكن طريقة التفاعل معه هي التي اختلفت فتفاعلتم أنتم معه التفاعل السليم الذي يعكس فهما صحيحا للأمور‏..‏ ويتسم بالعطف والحب والتراحم‏,‏ وتفاعلت الطالبتان معه تفاعلا ذاتيا قاصر النظرة وضيق الأفق فأعماهما عن اكتشاف البهجة المرتقبة والاستعداد النفسي لان ينعما بها
وهذا يؤكد مرة أخرى أن أعظم قدر من السعادة إنما ينبع من داخلنا وليس مما نتلقاه من المؤثرات المحيطة بنا‏..‏ وشكرا لك‏.‏

تنويه هام
تواصلت معنا كاتبة الرسالة بتاريخ 27 ديسمبر 2023 وقد أخبرتنا أنها وأسرتها بخير والحمد لله وأن شقيقها الصغير تخرج من كلية التجارة قسم إدارة أعمال ويبحث الآن عن عمل وهو في أتم حال واستقرار ويتمتع بخفة الظل وحسن الخلق وأنه شديد البر بوالدته .
شكرا لها لتواصلها معنا مع خالص التمنيات لها ولأسرتها الكريمة بدوام السعادة .

رابط رسالة الحادث الجلل

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" في أكتوبر عام 2001

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات