الحادث الجلل .. رسالة من بريد الجمعة عام 2001

الحادث الجلل .. رسالة من بريد الجمعة عام 2001 

الحادث الجلل .. رسالة من بريد الجمعة عام 2001

أنا الابنة الكبرى لأسرة مكونة من أمي ربة البيت المتفرغة‏..‏ وأبي الذي يعمل بالأعمال الحرة‏..‏ ولي شقيقات وأشقاء‏,‏ وأنا طالبة بإحدى كليات القمة‏,‏ وتدرس أختي التي تليني بكلية نظرية‏..‏ وتدرس الأخت الثالثة في الترتيب دراسة عملية‏,‏ ونحن أسرة متحابة ويسود حياتنا الدفء العائلي أو كنا كذلك حتى قبل أسابيع قبل أن يقع الحدث الجلل من وجهة نظر هاتين الشقيقتين فغير حياتنا من الترابط إلى التفكك‏..‏ ومن البهجة إلى الحزن والكآبة‏..‏ فهو أن أمي التي لم تتجاوز منتصف العمر بعد‏,‏ قد اكتشفت أنها حامل في شهرها الثالث‏.


والحق أنني لا أعترض على ذلك ولا ألوم أمي على حملها السابع فقد جاء نتيجة لخطأ من أحد الأطباء أدى إلى ذلك‏,‏ على غير إرادتها وحين علمت أمي بحملها في البداية أصرت على إجهاضه‏,‏ لكني نجحت مع أبي في إقناعها بالعدول عن هذه الفكرة لكيلا تغضب ربها‏,‏ أولا وقبل كل شيء‏,‏ ولكيلا تعرض حياتها لخطر لا مبرر له من بعد ذلك‏,‏ لكن المشكلة جاءت من اتجاه آخر تماما‏..‏ إذ انه ما أن علمت شقيقتاي بحمل أمنا حتى تغيرتا تماما تجاه أمهما‏..‏ وحل عليهما الوجوم وأصبحتا متجهمتين ودائمتي العبوس‏,‏ وكثيرا ما وجدتهما تبكيان بحرقة‏,‏ وتدعوان على نفسيهما بأن يريحهما الله من حياتهما‏,‏ كما أن الصغرى التي كانت  مثالا للابنة الطيبة في طاعة الأم والبر بها تحولت فجأة إلى ابنة قاسية القلب مع أمها وتقول لها أنه كان يجب عليها أن تجري عملية الإجهاض وتتحدث معها في هذا الأمر بأسلوب غبي وجاف‏.‏

بل‏,‏ أنها تمادت في الرفض حتى فكرت بالفعل في الانتحار وكادت تقدم عليه لولا تدخل أختها الكبرى‏.‏
ومنذ ذلك الحين وهما لا تتحدثان إلى أمهما إلا للضرورة القصوى وتسود الكآبة حياتنا‏,‏ أما أمي التي كان وجهها دائما مشرقا بالبهجة فقد أصبحت حزينة وساهمة وكثيرة البكاء‏..‏ كما أصبحت تهرب من البيت كثيرا لتناول الطعام مع أبي خارجه‏,‏ كما أنها ضعيفة ولا تقدر علي مواجهة هاتين الشقيقتين‏,‏ وأبي إن كان لا يرفض هذا الحمل السابع فإنه في الوقت نفسه سلبي إلى حد كبير معهما‏.‏

لقد تحدثت إليهما كثيرا في الأمر‏,‏ وعن حسن معاملة الأم‏,‏ وعن تعاليم ديننا في هذا الشأن فلا أسمع منهما سوى الاحتجاج والقول بأن أحدا لا يشعر بهما والتساؤل‏:‏ ماذا سنقول لزميلاتنا في الجامعة حين يظهر الحمل على أمنا ؟
وهذا هو كل ما يشغلهما‏..‏ أما الأم ومشاعرها وحقوقها عليهما‏..‏ وحالة الكآبة والحزن التي فرضاها علي أسرتنا التي كانت سعيدة‏,‏ فلا تشغل فكرهما كثيرا‏.‏

وأنا مقبلة يا سيدي على سنة دراسية حاسمة في كليتي  المرموقة‏,‏ وقد مللت هذه الحياة الكئيبة التي تسود أسرتنا منذ أكثر من شهر‏.‏
أرجو أن توجه كلمة إلي شقيقتي لأنهما من قارئاتك الدائمات‏..‏ وشكرا لك مقدما‏!‏

ولكاتبة هذه الرسالة أقول‏:‏ 

قد أفهم أن يشعر بعض الأبناء الذكور وهم في سن الشباب بشيء من الحرج النفسي حين يعلمون بحمل أمهم في سن متأخرة نسبيا‏,‏ ذلك أن هذا الحمل يضعهم عادة أمام حقيقة يتحرج العقل الباطن لديهم غالبا من الإقرار بها وهي أن أمهم التي تمثل في وجدانهم دائما رمز الأمومة والعفة والطهارة والعطف والرعاية إلخ‏,‏ هي أيضا وفي الوقت نفسه زوجة و أنثي لها احتياجاتها العاطفية وفطرتها الأصيلة التي تلازمها حتى نهاية العمر‏.‏

 لكني أعجز حقا عن فهم أن تستشعر الابنة وهي في سن الشباب نفس هذا الحرج تجاه حمل أمها المتأخر وهي الأقدر دائما بفطرتها الأنثوية على تقبل هذه الحقيقة التي يتحرج عقل الابن الباطن من الاعتراف بها‏..‏ والأقرب إلى التكيف معها ومع الطبيعة المزدوجة لأمها كزوجة وأم بل إن الأقرب إلى المنطق أيضا هو أن تكون هذه الابنة أكثر إشفاقا علي أمها من نفسها بشأن معاناتها للجرح النفسي للحمل المتأخر‏..‏ وأكثر عونا لها علي تجاوزه واحتماله‏.‏


لهذا فإن موقف شقيقتيك من حمل أمهما موقف مجاف بالفعل لطبيعتهما الأنثوية وللحق والمنطق ناهيك عن مجافاته لكل ما يمليه عليهما واجبهما الديني كابنتين من  الرفق بالأم وحسن مصاحبتها ودعمها نفسيا وعاطفيا في مثل هذه الفترة المضطربة من حياتها‏.‏ ولا عجب في ذلك فهذا الحمل غير المرغوب فيه بعد إنجاب باقة مكتملة من الأبناء قد أثار في نفس الأم اضطرابا أشد‏..‏ وحرجا أعمق‏,‏ مما يثيره في نفوس الأبناء الكبار والوليد الذي يجيء على كبر قد يسعد القلب بالفعل ويجدد الاهتمام بالحياة ولكنه وبنفس القدر قد يزيد من هم أبويه بمستقبله ومخاوفهما من المجهول الذي ينتظره وذلك علي غرار ما أحسن الشاعر العربي التعبير عنه بقوله‏:‏
هذا الوليد الذي جاء على كبر
أقر عيني ولكن زاد فكري

وفي مثل هذه الظروف الوجدانية المضطربة فإن الأم التي تستشعر الحرج تجاه حملها بنفس القدر الذي يستشعره به الأبناء وربما أكثر تكون في أشد الحاجة إلى دعم الأبناء الكبار لها نفسيا وعاطفيا وإلى ابتهاجهم بحملها‏..‏ وترقبهم لمجيء الوليد المنتظر وليس لأن يتخذ منها هؤلاء الأبناء موقف الإدانة واللوم والاتهام‏..‏ ويجافونها كأنما قد ارتكبت جريمة بشعة في حقهم أو كأنها قد جاءت بإثم مبين‏.‏
بل إن من واجبهم الإنساني والديني والأخلاقي تجاهها أنه كلما غلبتها أفكارها وهواجسها بشأن مستقبل جنينها أن يوجهوا اهتمامها إلى الجانب المشرق من القصة وهو هذا الوليد الحبيب الذي يبعث الحرارة والبهجة في  حياة الأسرة كلها‏,‏ ويزيد من تعاطفها وترابطها وتراحمها ويشغل حياتها بشئونه الصغيرة الممتعة‏..‏ ويعيد إليها متعا طال العهد على اختفائها منها‏,‏ تماما كما يفعل الحفيد الوليد في حياة جديه ويزيد من تمسكهما بالحياة ورغبتهما في مصاحبته والعناية بأمره‏.‏

ولقد هدتك نظرتك السليمة وطبيعتك الطيبة إلى كل ذلك فترفقت بأمك‏..‏ وبذلت جهدا مشكورا لإقناعها بالتخلي عن فكرة الإجهاض الذي لا تفرضه ضرورة صحية فيكون محرما وقتلا للنفس بغير الحق‏,‏ وإني لأمل في أن تشاركك شقيقاتك هذا الإدراك الصحيح لواجب الابنة البارة تجاه أمها‏..‏ وهذا الفهم السديد لحقائق الحياة‏,‏ ليس فقط لكي تزول سحابة الكآبة العارضة عن حياتكما‏,‏ وإنما أيضا لكي تشاركك شقيقتاك جوائز السماء التي تنتظر كل من يرعي حدود ربه في التعامل مع الأبوين ولكي تنجوا من عقابها لمن لا يلتزمون بتعاليم دينهم بشأن الرفق بالأبوين وحسن
أما الحرج الذي تستشعره شقيقتاك من زميلاتهما تجاه حمل أمهما فلا معني له ولا مبرر‏..‏ إذ ما معني الجرم من هدية ثمينة آثرت السماء أن تخص بها أسرة متحابة وقادرة على حفظ الهدية وحسن رعايتها ؟

إن تركيزهما علي الحديث عن هذا الحرج يسئ إليهما من حيث لا ترغبان ويدفعهما بغير وعي بالأنانية والانشغال بالذات عن أقدس الحقوق وهي حقوق الأبوين‏..‏ وبإعلاء اعتباراتهما الشخصية فوق كل  الاعتبارات العائلية والإنسانية والدينية‏..‏ ولست أحسبهما كذلك في الحقيقة‏,‏ وإنما أتصور فقط أن اضطرابها أمام مفاجأة الحمل غير المتوقعة وصغر سنهما وقلة خبرتهما بالحياة قد أفقدتهما لفترة عابرة حسن الإدراك‏..‏ والاتزان أمام الموقف‏,‏ ولسوف تستعيدان طبيعتهما الطيبة سريعا وترجعان إلي نفسيهما كابنتين بارتين بأمهما‏..‏ وتندمان كثيرا على إساءة فهمهما السابق للموقف‏.‏
في البداية‏..‏ وشكرا لهما إذا تداركا ما فاتهما من ذلك في أقرب وقت‏.‏

رابط رسالة اكتشاف السعادة تعقيبا على هذه الرسالة

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 2001

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات