الصوت الرخيم .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1989

 الصوت الرخيم .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1989

 الصوت الرخيم .. رسالة من بريد الجمعة سنة 1989

الأبناء يتبعون الأمهات في معظم الأحوال في تقديرهن للأب واحترامهن له , "وإسراف أي أم في استقطاب أبنائها إليها على حساب الأب يثمر غالبا تباعدا كبيرا بين الأبناء والآباء .

عبد الوهاب مطاوع


منذ سنوات كنت طالبة بالسنة الثالثة بكلية الآداب .. شابة في التاسعة عشرة من عمري ارتدي الملابس الفاخرة .. واركب سيارة وأستعمل العطور المستوردة ..ولا أفكر في الزواج وأتجاهل ضاحكة مخططات أمي للتقريب بيني وبين ابن إحدى صديقاتها لكي أقتنع بالزواج به فيتقدم للزواج مني , وكل شيء في متناول يدي والدنيا باسمة ..والقلب شباب .. والحياة واسعة عريضة .. وفي هذه الأيام المبشرة بكل خير ركبت سيارة الأسرة ذات يوم وحدي .. وقدتها في شوارع القاهرة ..فإذا بعربة نقل ضخمة تصدمني فلم أشعر بما حولي إلا بعد أيام ووجدت نفسي راقدة على سرير في مستشفى معصوبة العينين واللفائف تحيط بوجهي من كل جانب وقد تهشمت يداي وساقاي ..

 

وأهلي حولي يواسوني ولا يصدقون أني عدت للحياة .. ومرت أسابيع طويلة قبل أن يرفع الأطباء اللفائف عن رأسي وذراعي والعصابة عن عيني ..فإذا بي لا أرى إلا الظلام والأطباء يحاولون التخفيف عني ويؤكدون لي أن فقدي للبصر مؤقت ..وأنه مأمول الشفاء بجراحة أخرى بعد عام أو عامين فانفجرت في بكاء طويل .. وتحسست وجهي فوجدت آثار الندوب في كل مكان منه فعرفت أني فقدت جمالي أيضا مع بصري ..وغرقت في هاوية سحيقة من اليأس والقنوط .

وغادرت المستشفى وأنا لا أجد في أعماقي رغبة في الحياة ..وبعد أسابيع أخرى بدأت في إجراء عدة عمليات للتجميل أعادت وجهي إلى ما كان عليه ..لكني لم أستعد بصري ولا حرصي ولا إقبالي على الحياة ..وفي غمرة هذا اليأس ألحقني أبي بمركز لتعليم المكفوفين القراءة بطريقة "برايل " لكي أشغل وقت فراغي .وأستطيع القراءة ورفضت الذهاب إليه فأصر أبي على ذلك إصرارا شديدا وبدأت أتردد على هذا المركز ثلاث مرات كل أسبوع .. رغما عني .. فكان يوم ذهابي إليه يوما حزينا في حياتي ..ثم بدأت أتقبل الواقع الذي أرفضه شيئا فشيئا ..

 

وبدأت ألتفت إلى صوت رخيم أسمعه في المركز فيمس قلبي رغم أني لا أرى صاحبه ثم بدأت أستريح إلى هذا الصوت وأقترب من صاحبه إنه مدرس بالمركز ..وأصبحت أذهب إلى المركز كل يوم بلهفة بعد أن كنت أكره الدنيا عند اقتراب موعد ذهابي إليه , وتلاقت الأيدي وانتقل الإحساس إلى القلب ..ونما الحب في الظلام لأنه مثلي محروم من البصر ..وتعاهدنا على الزواج وحين هممت بأن أصارح أهلي بحبي وعهدي معه فوجئت بهم يزفون إلي بشرى قرب السفر إلى الخارج لإجراء الجراحة المنتظرة لاسترداد البصر , فشغلت بهذا الأمر عن كل شيء ..وتوقفت عن التردد على المركز ..

وسافرت للخارج وأجريت الجراحة ..ومرت اللحظات الحرجة بسلام ..وتسلل بصيص من الضوء إلى عيني وعاد إلي بصري ضعيفا ..لكنه شتان بينه وبين بحر الظلام الذي غرقت فيه شهورا طويلة ..وأصبحت أرتدي النظارة بصفة دائمة وعدت إلى بلادي وقد عاد إلي شبابي وحرصي وإقبالي على الحياة من جديد .

 

وبعد عودتي لمصر بأيام تذكرت صاحب الصوت الرخيم الذي أخرجني من عزلتي فتوجهت إلى المركز وبحثت عنه .. ورأيته لأول مرة فإذا به شاب أسمر نحيف حلو العينين حاد الأنف شعره أسود ومسترسل على جبينه فخفق قلبي له بأشد مما خفق له حين سمعت صوته لأول مرة ..وأقبلت عليه بكل لهفة فسعد بعودتي وفرح كثيرا بعودة البصر إلي لكنه لم يشر إلى موضوع الزواج بكلمة ففاتحته أنا فيه وسألته بلا مواربة متى نبدأ خطواته فحاول أن يحلني من وعدي له لاختلاف الظروف بعد أن استرددت بصري لكني لم أسمح له بأن يسترسل في الحديث وازداد تمسكي به وعرضت الأمر على أهلي وأصررت عليه وتحديت الأقارب والصديقات , وتزوجته عن حب واقتناع وكان عمري وقتها 22 سنة ووجدت معه بعد الزواج كل سعادتي فهو رقيق المشاعر وحنون ومتفائل ويحب الحياة إلى أقصى درجة ويحبني بشدة وعشت معه حياة سهلة سعيدة فهو ميسور ماديا والحمد لله وأنجبنا ولدا وبنتا ساعدني في تربيتهما وأغرقهما بحبه.

 

ثم مضت بنا الحياة وبعد عشر سنوات من الزواج بدأ الحب في قلبي يهدأ قليلا وبدأت أشعر بشيء غريب تجاهه فقد بدأت لا "أحب " أن يخرج معي في زياراتي لأقاربنا أو أصدقائنا , وأصبح ابني وابنتي هما رفيقي كلما خرجت إلى أي مناسبة .. لكني لم أدعه يشعر بذلك وساعدني في هذا أنه كان يتجنب الخروج كثيرا .

 

ثم كبر ابناي وبدأت ألاحظ عليهما بعض الأشياء الغريبة ..فابني يتباهى دائما بأني أمه ويقدمني إلى زملائه ويتجنب الإشارة إلى أبيه .. وكذلك بدأت ابنتي تفعل , كما بدأت ألاحظ أن ابني نادرا ما يتحدث مع أبيه رغم محاولات زوجي المستمرة للحديث معه ..فهو أما في حجرته أو يتحدث مع أخته أو معي ..أما مع أبيه ..فجل الكلام منقطع غالبا معه وذات يوم صارحني زوجي بمشاعره وقال لي أنه يشعر بأن ابنه وابنته "يخجلان " منه فنفيت له ذلك بشدة وثرت ثورة عارمة وناديتهما وواجهتهما ..وقسيت عليهما وذكرتهما بأنه لولا أبوهما ما عاشا تلك الحياة وما وجدا كل مطالبهما ..وما ركبا السيارة ..إلخ , وأنكرا هذا الإحساس, لكن زوجي ظل حزينا بضعة أيام ثم استعاد هدوءه وتفاؤله مرة أخرى واسترحت لذلك وأملت أن تختفي هذه السحابة إلى الأبد.

 

وبعد أسابيع تصادف أن كان زوجي مريضا فلم يذهب إلى عمله ولم يكن ابني يعرف بوجود أبيه في البيت فعاد من كليته وقت الظهر ومعه بعض زملائه ودخلوا الشقة يتصايحون  ويضحكون ففوجئ بأبيه واقفا في الصالة وسأله أبوه عمن معه فرد عليه ردا مقتضبا ثم اصطحب أصدقاءه إلى الصالون وتركه واقفا كما كان في الصالة !

 

ويبدو أن أحد أصدقاء ابني سأله عمن يكون هذا الرجل فإذا بزوجي يسمعه من موقفه يرد عليه بأنه أحد أقارب أبي ينزل ضيفا عليهم لعدة أيام وسمع زوجي ابني ينطق بهذا الرد ..فلم يتكلم وانسابت دمعة صامتة من عينيه ..ثم توجه إلى غرفة مكتبه وانتظر خروج الأصدقاء إلى أن خرجوا وخرج معهم ابنه يودعهم ثم عاد ..فناداه وواجهه بما سمع وهو يرجو أن يكذب أذنيه ..فإذا بابني الوقح يعترف بما قال ..ووجدت نفسي أهوي بيدي على وجهه وأطلب منه أن يعتذر لأبيه ..فاعتذر ..

لكن هيهات يا سيدي أن تشفي كلمات اعتذار هذا الجرح في قلب أبيه فلقد تغير حال زوجي وحال الأسرة كلها منذ هذا اليوم المشئوم ..واختفت السعادة والسرور اللذان كانا يرفرفان على بيتنا فقد اعتصم زوجي بغرفة مكتبه واتخذها مأوى له يعمل وينام فيها ولا يغادرها إلا إلى الحمام ..أو الذهاب للعمل ..ولا يكلم أحدا منا بل وجاء برجل ليقوم بخدمته ويقضي له طلباته لكيلا يحتاج إلى أحد منا ..وعندما يجيء أول الشهر يلقي لنا بمصروف البيت في الصالة وبجواره ورقة كتب عليها كلمات جارحة لكرامتي وكرامة ابني وابنتي وما زالت الحياة في بيتنا تمضي على هذا النحو الكئيب إنني أعرف أن ابني قد ارتكب جرما كبيرا في حق أبيه لكن ماذا أستطيع أن أفعل في طيش الشباب وقد كنت دائما أحثه على حب أبيه .

 

فهل توجه إلى زوجي – وقد كان يحب أن تقرأ عليه كلماتك دائما – كلمة عن العفو عند المقدرة ..لكي يعود الوئام والسلام إلى بيتنا وهل توجه كلمة إلى ابني هذا الذي تعدى حدود الأدب لكي يعود إلى رشده ..هل تفعل حقا ؟

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقول:

عندي مما أقوله لابنك  ما لا تتسع له أنهار الصحف جميعها لكنني لن أطيل في تكرار معان أفضت في الكتابة عنها كثيرا من قبل ..وسأقول له فقط ..إن ابنا يحمل مثل هذا الإحساس البشع تجاه أبيه العطوف المحب لمجرد أنه محروم من إحدى حواسه لهو ابن لا يشرف أي أب أن يعلن انتسابه إليه ..ولهو جدير حقا بأن ينكره أبوه لا أن ينكر هو أباه فلينظر إذن أي درك هابط وضع نفسه فيه ..وليحاول إذا أراد أن يكون جديرا بالانتماء للنوع الإنساني أن يطهر نفسه من هذا الإحساس الدنيء وأن يسترضي أباه حتى يرضى , وأن يتواصل معه وأن يعرف له فضله ويفخر به على العالمين .

هذا عن ابنك يا سيدتي أما عن القصة كلها ..فإن خبرة السنين تقول لنا أن كل شجرة مورقة تبدأ ببذرة صغيرة تغرس في الثرى , ولقد غرست أنت بغير أن تنتبهي لخطورة الأمر بذرة انقطاع الخيوط بين ابنيك وأبيهما حين بدأت وهما دون العاشرة من عمرهما تلاحظين على نفسك أنك " لا تحبين " الخروج معه إلى زيارة الأهل والأقارب , وأن ابنيك قد أصبحا بدلا منه رفيقيك الدائمين في غدوك ورواحك ..

 

وبالضرورة في البيت أيضا وهكذا تراجع الأب من مركز الدائرة في الصورة العائلية كما ينبغي له أن يكون دائما إلى هامشها ..وأصبح لكم مجتمع خاص بكم داخل محيط الأسرة يحاول الأب النفاذ إليه فلا ينجح ويتلهف على أن يحادث ابنه ..فيعزف لأنه مشغول دائما بالحديث معك ومع شقيقته ...فبدأ انقطاع الخيوط منذ فترة طويلة إلى أن بلغ قمته في هذا المشهد البشع الذي يتنافى مع كل القيم الدينية والخلقية والإنسانية على السواء .

 

ولن تدركي يا سيدتي بشاعة ما حدث وعمق مرارته في نفس الأب الذي أغرق ابنه بحبه ومشاعره ورعايته منذ تلقاه قطعة من اللحم الغض لا تدري من أمر نفسها شيئا إلى أن أصبح شابا يغدو ويروح وله كيانه الخاص ..إلا إذا تخيلت حالك لو لم تدركك عناية الله فتنجح الجراحة التي استرددت بها بصرك ووجدت نفسك ذات يوم في مثل موقفه تسمعين بأذنيك ما سمعه وتتجرعين مرارته ترى كيف يكون حالك وقتها ..وأي لوم يمكن أو يوجهه إليك أحد إذا عافت نفسك الجميع كما فعل زوجك واتهمتهم في أعماقك بأنهم جميعا شركاء في هذا الجرم ..سواء بالسكوت عن مقدماته أو بعدم التصدي بحزم كاف لها .

 

إنني ألح على هذه الصورة القاسية لأن مسئوليتك كبيرة فيما حدث ..وفيما سوف يحدث لإصلاح الأخطاء فالأبناء يتبعون الأمهات في معظم الأحوال في تقديرهن للأب واحترامهن له , "وإسراف أي أم في استقطاب أبنائها إليها على حساب الأب يثمر غالبا مثل هذا التباعد بين الأبناء والآباء .

 

لهذا فالعلاج في يدك أنت قبل أن يكون في يد هذا الابن الطائش ..فابدئي بنفسك يا سيدتي والتصقي بزوجك الذي أحببته وتحديت به الجميع فيما مضى واعترفت له بكل فضائله , وتحملي غضبه واستياءه مما حدث إلى أن يصفو لك ..وأعلني بتصرفاتك أمام الجميع أنك تفخرين به ..وأعيديه إلى مركز الصورة العائلية كما ينبغي له أن يكون ..ولا تخرجي إلى زيارة إلا معه ولا تقطعي أمرا من دونه وانضمي إليه في غضبه من ابنه حتى يكفر عن جريمته ويعود إليه رشده ..وقاطعي كل من لا يحمل لزوجك مشاعر الحب والولاء والاعتزاز ولو كان ابنيك

..وعندها سوف تعود الأمور إلى طبيعتها وتعود البهجة والسرور إلى بيتك وسيجد الأب نفسه مستعدا للعفو عن ابنه ..لأنه أب أولا وأخيرا ..ولأنه يشفق في أعماقه على هذا الابن الشارد من غضب ربه عليه ومن تنكيل الدنيا به إذا لم يعف عنه بقلب صاف وإذا لم يغفر له ربه ما كان من أمره ..وما جرى والسلام.

رابط رسالة الايام الجميلة وهي من كاتبة الرسالة بعد عدة أشهر

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1989

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي

 

 


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات