الأيام الجميلة "الجزء الثاني من رسالة الصوت الرخيم" .. بريد الجمعة 1990

الأيام الجميلة "الجزء الثاني من رسالة الصوت الرخيم" .. بريد الجمعة 1990 

الحب كلهيب المدفأة التقليدية يحتج إلى أن نلقى إليه من حين إلى آخر ببعض قطع الخشب وإلا ذوى اللهيب وانطفأ.

عبد الوهاب مطاوع


هذه هى رسالتي الثانية إليك:

أما رسالتي الأولى فلقد كانت منذ حوالي سبعة شهور .. وقد اخترت لها حين نشرتها عنوان"الصوت الرخيم"

وقد نشرت الرسالة في صباح يوم الجمعة .. وقرئت على زوجي وهو فى عزلته بغرفة مكتبه بعيدا عنا .. وناداني وكنت قد قرأتها قبله وواجهني بكل شئ فى الرسالة .. وقال لى كلاما اتهمني فيه بأني أسأت تربية أولادنا.

فوقفت صامته لا أرد عليه خاصة أنى عرفت أنك أيضا تتهمني بأني المسئولة عما حدث .. وبأن إبنى وإبنتى قد قلداني فيما فعلا .. وأقسم لك صادقة أننى لم أتعمد ذلك .. وتمالكت نفسي وأنا أسمع إهانات زوجي لى لأني أعرف إلى أي مدى جرحت كرامته .. ثم هممت بالكلام فغلبتني دموعي الصامتة فى البداية ثم علا نحيبي ولم أعد أستطيع السيطرة على نفسي .. وأجهشت بالبكاء .. فإذا بزوجي ورفيق شبابي وعمري يقترب منى ويربت على شعري بكل حنان .. كما كان يفعل حين يسمع بكائي فى أيامنا السعيدة .. وراح يطيب خاطري بل ويعتذر لى عما قاله وعما فعل .. ثم ابتسم وقال على أية حال ليس أمامنا إلا أن نفعل ما أشار به علينا صديقنا على الورق"يقصدك"...فوافقته بكل حماس وعاهدته على مواجهه طيش إبننا إلى أن يعود إلى رشده ويعرف فضل أبيه علينا .. وبدأنا منذ ذلك اليوم 8_12 الماضي لا نأكل معه ولا نكلمه .. وإذا جاء ليجلس فى مكان نجلس فيه نهضنا معا وجلسنا فى غرفة أخرى .. وإذا حاول الكلام معنا فى هذا الموضوع أو فى أى موضوع عام صددناه .

 

بل وخرجت مع زوجي وإبنتى بدونه .. وسهرنا فى المسرح وجاء يوم عيد ميلاده فى 3 فبراير الماضي فلم نحتفل به كالعادة , ولم نقل له أي كلمة .. ورغم أن قلبي كان ينفطر عليه وأنا أرى نظرات الذل فى عينه وفى نبرات صوته , حتى كدت أكثر من مرة أضعف وأذهب إليه وأحتضنه وأقبله , فإننى غالبت نفسي تضامنا مع أبيه .. وحين سمعناه أنا وزوجي ذات مره يبكى فى الليل, قاومت نفسي وغالبت دموعي ونهرته طالبة منه أن يكف عن البكاء ويذاكر .. ثم جاء بعدها بأيام وبكى أمامنا بحرقة وأمسك يدي أبيه وقبلهما وقبل يدي فلم نستطع إلا أن نغفر له ومن قلب صاف كل ما كان من أمره .. وسعد زوجي بإبنه وبلغنا عنان السماء من السعادة حين فوجئنا بإبنى يدعو زملائه فى الجامعة الذين حدث بسببهم ذلك المشهد البشع إلى البيت يوم 20 مايو الماضي .. ويقدم لهم أباه ويقول لهم إن هذا الرجل العظيم هو أبوه .. وأنه يفتخر بذلك .. ولا أستطيع أن أصف لك ما استشعرته فى تلك اللحظة من إحساس الرضا والراحة اللذين انطبعا على وجه زوجي الأسمر الوسيم .. ولا إحساس الفرح الذى جاش فى صدري وعشنا ليلة سعيدة وعادت أيامنا الحلوة.

 

وأنا أكتب لك هذه الرسالة من بيتي الذى عادت البسمة والحب والدفء والحنان إلى قلوب أفراده .. ولا نستطيع أن نفيك حقك فى الشكر .. فإبنى يقول لك أنه قد تاب عما فعل وندم عليه وعلى كل لحظه من عمره "خجل" فيها من أبيه...ويطلب منى أن أسألك كيف يكفر عن ذنبه هذا,ويقول أنه يريد أن يراك لأنك قلت عنه فى ردك كلاما قاسيا .. وهو يقسم لك أنه ليس سيئا إلى هذه الدرجة,لكنها همسات الشيطان لعنه الله عليه .. وإبنتى تقول لك أنك أيقظتها من غفلة كادت تذهب بها .. وأما حبيبي ونور عيني زوجي فيقول لك أنك كنت خير معلم لزوجته الفيلسوفة! تصور .. حتى فى لحظات السعادة لا أنجو من مشاغباته

 

أما أنا فأقول انك وإن كنت قد قسوت على,فإنك قد أيقظت فى قلبي الحب القديم لزوجي الذى كان قد بدأ يهدأ .. حين طالبتني بأن ألتصق بزوجي .. فقد فعلت ذلك فاشتعل الحب مرة أخرى كما كان فى الأيام الجميلة .. ورأيت زوجي مرة ثانية وكأنني أكتشفه من جديد .. فالحمد لله الذي أعاد السعادة لأسرتي .. والشكر ترسله دموعي لك والسلام.

 

ولكاتبة هذه الرسالة أقولك:

 

الحب يا سيدتي كلهيب المدفأة التقليدية يحتاج إلى أن نلقى إليه من حين إلى آخر ببعض قطع الخشب وإلا ذوى اللهيب وانطفأ...وقصتك مع زوجك خير دليل على ذلك...فحين استقبلت مدفأتكما بعد تلك الظروف المضطربة دفعة جديدة من الأخشاب,ارتفع الأنوار من جديد,وتراقص اللهب سعيدا .. وعاد التفاهم والإتحاد فى الرؤية والإحساس .. ووجدتما الحل السعيد لأعقد المشاكل وهكذا الحال فى معظم الأحيان .. لهذا فقد حرصت فى ردى السابق على أن ألفت نظرك إلى أن علاج أية مشكله لابد أن يبدأ بعلاج أسبابها قبل محاولة إصلاح نتائجها..وأنت يا سيدتي قد اقتنعت بذلك رغم تألمك مما جاء فى ردى .. وبدأت بالخطوة الصحيحة لعلاج الأسباب .. فكانت النتائج سعيدة ومبهرة بحمد الله.

 

وما فعلتِه مع زوجك لمواجهة طيش إبنك يُعد درسا فى التربية يستحق الإشادة .. فلقد توحدتما معا فى وجه شرود إبن غاب عنه رشده .. ولم تستسلما لعاطفتكما تجاهه إلى أن استفاق .. وجاء إليكما نادما .. واسمحي لى يا سيدتي بأن أقول لك أن ذلك لم يكن ليتحقق إلا وأنت فى صف زوجك غاضبة له ولصيقة به .. ولم يكن ليتحقق بعشرات المواعظ والكلمات عن حق الأب على إبنه مع استمرار علاقتك بابنك على ما كانت عليه فى الأيام الخالية .. لهذا فقد أثمر العلاج الصحيح الذى اتبعتاه نتائج صحيحة مع ابن سوى فى النهاية كان شاردا لفترة .. ثم رجع إلى نفسه .. فإذا كان لى أن أضيف إلى ذلك شيئا فهو أنت ما قصدت إيلامك بردى السابق إليك...وإنما قصدت أن أضعك أمام نفسك وأنا أمشى فى ذلك على الشوك دائما...لأنى أعرف جيدا أنه يشق على الإنسان أن يواجه نفسه...لكن ما حيلتي وأنا أعرف أيضا أن الرأي شهادة يُسأل عنها المرء أمام خالقه وليس أمام طالبها...ومن واجبه ألا يرضى بها غير ضميره سواء أخطأ فى اجتهادي أم أصاب...فعفوا لإيلامي السابق لك...وهنيئا لك عودة طائر الحب والسعادة إلى عشه القديم فى بيتك, وأهلا بابنك العائد إلى معدنه الأصيل بعد غياب قصير,ومرحبا له فى أي وقت يشاء بعد أن أصبح جديرا بحب أبيه العظيم وحبك وحب شقيقته .. وجديرا أيضا باحترامي,لأن العائد إلى الطريق القويم أهل لكل الاحترام,وليعلم أن صدق الندم والاستغفار كفيلان بتطهيره نهائيا عن إثمه,بعد أن عفا عن أبوه واستحق عفو ربه ومغفرته التى تسع كل شئ .. وسوف يكون جديرا بكل شئ طيب فى الحياة .. وشكرا لك أن أطلعتنا على هذه النهاية السعيدة لقصتك .. وتمنيات صادقة لك ولأسرتك بأن ترفرف عليها دائما أجنحة الحب والوئام والسلام بإذن الله.

رابط رسالة الصوت الرخيم

 ·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1990

شارك في إعداد النص / بسنت محمود

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي


Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات