المؤامرة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1994
أنا موظف بالمعاش عمري 63 سنة صحتى جيدة والحمد لله , وأمارس عملا يدر عليَ دخلا محترما , وقد تزوجت منذ 36 سنة من زوجة من أسرة متوسطة وأنجبت منها ابنا وبنتا ربيتهما أفضل تربية حتى حصل الابن على شهادته الجامعية وعمل بإحدى الدول العربية وحصلت الابنة على شهادتها وتزوجت من موظف طيب تعيش معه في سلام والحمد لله .
ومنذ بداية زواجي وحماتي التي تبلغ من العمر الآن 77 عاما وتقيم في شقة مقابلة لشقتي هي التي تقوم بإعداد الطعام لنا واستمر ذلك طوال هذه السنين حتى كان في يوم في شهر رمضان الماضي , تناولت فيه طعام الافطار فأحسست بعده بضيق مفاجئ في صدري واختناق شديد وزغللة في عيني "فاستنجدوا" بالجيران وتم استدعاء طبيب لاسعافي فقام بإجراء عملية غسيل معدة لي ووصف لي بعض الدواء .
ومنذ ذلك اليوم يا سيدي قررت ألا أتناول أي طعام تعده والدة زوجتي أو زوجتي وأصبحت منذ ذلك اليوم أعد طعامي بيدي لنفسي .. ونتيجة لذلك فقد ساد الفتور علاقتي بزوجتي التي اتخذت جانب والدتها تماما وأصبحت تتناول طعامها وشرابها معها وتبيت أيضا في شقتها .. ولأنني بشر واحتاج إلى من ترعى شئوني من طعام وشراب وملابس وخلافه، فلقد "عثرت" على شابة مطلقة بدون أولاد وتصغرني بثلاثين عاما خفيفة الظل ومن أسرة متوسطة وعرضت عليها الزواج ولم تمانع من ذلك وأريد أن أستشيرك في أمري .. هل ترى لي فعلا أن أطلق زوجتي بنت السيدة "السفاحة" التي تقطن أمامي .. وأتزوج المطلقة الشابة التي تصغرني أم ماذا أفعل ؟
جميع الحقوق محفوظة لمدونة "من الأدب الإنساني لعبد الوهاب مطاوع"
abdelwahabmetawe.blogspot.com
ولــكـــاتــب هــذه الــرســـالـــة أقـــول:
لا يا صديقي لا أرى لك ذلك .. وإنما أرى لك أن تقرأ أي كتاب تستطيع الحصول عليه من المكتبة عن "الوسواس القهري" لتعرف أنه قد تسلطت عليك فكرة ضلالية أي خاطئة هي أن السيدة حماتك قد تعمدت "إيذاءك" بتقديم طعام فاسد لك !
وتعرف أيضا أنك قد تسرعت بإبداء شكوكك الفاضحة وربما اتهاماتك الصريحة أيضا فغضبت لذلك زوجتك ورأت فيه اهدار لثقة العمر ورحلة السنين بلا أدنى مبرر من عقل أو منطق , فحل الفتور بينكما مع استمرار رفضك ألا تمس طعاما صنعته زوجتك أو حماتك واعتزلتك مادمت تتوجس شرا مما تقدمه لك شريكة عمرك من طعام!
والحياة ميزان العقل كما يقولون يا صديقي .. ولهذا فلو أنك أجريت حوارا منطقيا هادئا مع نفسك لتذكرت أن الذين "استنجدوا" بالطبيب لاسعافك من الأزمة الصحية التي انتابتك هما زوجتك وحماتك وذلك وحده ينفي نية العمد في أي خطأ حدث , ولعرفت كذلك أنك قد تتناول مع شخص ما طعاما واحدا صنع في آنية واحدة وقدم لكما في طبق واحد ومع ذلك فقد تصاب أنت وحدك بالتسمم وينجو الآخر , لأن الميكروب الناقل للمرض قد سقطت على الجزء الذي طعمت منه أنت .. ولم يسقط على الناحية الأخرى أو لأنه قد صادف عندك ضعفا طارئا في المناعة لأي سبب من الأسباب فأثر فيك أنت ولم يؤثر في الآخر بنفس القدر , ولابد أن الطبيب قد فسر لك كل ذلك لكنك استسلمت لفكرة "المؤامرة" التي ترجح دائما نية العمد والتدبير في أي تصرف للآخرين على حسن النية أو العفوية فيه , فكانت النتيجة أن رفضت أن تقرب أي طعام يعده غيرك , وهي حالة وسوسة وفوبيا مرضية يمكن التخلص منها بسهولة , لكنها كانت كافية لأن تهدر كل ما جمع بينك وبين زوجتك على مدى 36 عاما.
لقد كنت تسطيع بسهولة تامة أن تطالب زوجتك بإعفاء والدتها بعد أن بلغت من العمر ما بلغت من عناء اعداد الطعام لكما اشفاقا عليها منه فتتجنب ما تخشاه من أخطاء غير متعمدة في هذه المهمة وتواصل حياتك في سلام مع زوجتك , أما أن تعلن شكوكك في الجميع على هذا النحو البشع ثم تتعجب بعد ذلك لانحياز زوجتك إلى صف والدتها وغضبها لها فهذا هو الأمر الغريب حقا .
يا صديقي لقد أسأت إلى نفسك كثيرا بهذه الظنون السيئة وأسأت إلى زوجتك ووالدتها أكثر, والاعتراف بالحق فضيلة والرجوع عن الخطأ والاعتذار الصريح عنه أكبر من فضيلة لأنه دين واجب السداد لمن نخطئ في حقهم.
فأد دينك وأبرئ ذمتك وضميرك منه .. واستعد زوجتك وأصرف نظرا عن حكاية المطلقة التي تصغرك بثلاثين عاما لكيلا تفتح على نفسك أبواب المتاعب وأنت في سن الجلال والاحترام .. وشكرا.
نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" يناير 1994
كتابة النص من مصدره / بسنت محمود
راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي
برجاء عدم النسخ احتراما لمجهود فريق العمل في المدونة وكل من ينسخ يعرض صفحته للحذف بموجب حقوق النشر