منزل العائلة المسمومة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986

 منزل العائلة المسمومة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986

منزل العائلة المسمومة .. رسالة من بريد الجمعة عام 1986


هذه رسالة جديدة من رسائل الاعتراف التي أتلقاها بين حين وآخر ، فتصدمني بما تكشفه لي من خفايا النفس البشرية التي لم يطلع بعد أحد على كل أسرارها وخباياها مهما ادعى علماء النفس والكتاب والمفكرون.

عبد الوهاب مطاوع


 

تقول كلمات الرسالة:

اسمح لي بألا أناديك فى رسالتي هذه بصديقي كما يفعل قراؤك ، لأني في الواقع لا أستحق صداقتك ،ولا أظنك سوف ترحب بها بعد أن تنتهي من قراءة رسالتي هذه .

ولأبدأ القصة من البداية فأقول لك إنني طالبة جامعية تتكون أسرتي من أب يشغل مركزاً كبيراً وأم ربة بيت هادئة ، وشقيقة طالبة جامعية تكبرني بثلاثة أعوام وتتقدم عنى في الدراسة بعام واحد ، ومنذ طفولتي المبكرة و أنا أشعر بالفارق بيني وبين شقيقتي هذه في المعاملة من جانب أبي وأمي ، فهي دائما المستأثرة بكل الحب والتدليل ، وأنا المستأثرة بكل الزجر والتعنيف .. وهى التي تشترى لها الفساتين الجديدة بغلافها من المحلات .. أما أنا فأرتدي نفس الفستان بعد عام من الاستعمال عندما يضيق على جسمها ، وهى التي إذا نوديت . .نوديت بالرقة والحنان والعطف ، وأنا إذا نوديت بالجفاء والتجهم ، وكل ذلك بحجة أنها العاقلة المتزنة.. أما أنا (فالشقية) (الرزلة).

 

ومضت بنا الحياة على هذا النحو حتى وصلنا إلى المرحلة الجامعية ، ورغم أنها تكبرني بثلاثة سنوات فقد كنت ألحق بها في الجامعة لأنها رسبت أكثر من مرة ، ورغم هذا فإن ذلك لم يهز مكانتها في الأسرة ولا من حب أبي ولا أمي لها، بل استمرت تحظى بالحب والرعاية .واستمرت العتاب من نصيبي لأن لي على حد قولهم أفكار خاصة ومتطرفة لا تعجبهم ، ولا أخفى عليك أن كراهيتهم جميعاً كانت قد استقرت تماما في أعماقي خلال هذه المرحلة .

 

ولعل هذا هو ما هيأ المسرح للحدث العجيب الذي شهدته حياتي بعد ذلك ، فبالمصادفة البحتة وقع نظري على اسم فيلم مصري في أحدى المجلات ، فإذا بفكرة شيطانية تقفز إلى ذهني وتسيطر على تماما بعد ذلك لعدة أسابيع ..أما أسم الفيلم اللعين فهو ( منزل العائلة المسمومة ) وأما الفكرة الشيطانية فهي أن أدس السم لأسرتي  في الطعام لكي أتخلص منها وأعيش بمفردي سعيدة وأتمتع بالحياة ،وأتخلص من المضايقات التي أحس بها من استمرار تفضيل أختي على واختصاصها بالحب والتقدير دوني .

وبكل أسف فلقد كنت قد شاهدت فى أحدى الحلقات الأجنبية جريمة مماثلة تم خلالها دس السم لشخص تدريجياً على جرعات صغيرة حتى مات ، ولم يكتشف الأطباء سبب وفاته ، فقررت أن أنفذ نفس الفكرة حين تتاح لى الفرصة المناسبة ، وجاءت الفرصة بأسرع مما توقعت ، إذ أصيبت أمي في ساقها بكسر بسيط اضطرها إلى ملازمة الفراش وعدم الحركة .. فنهضت متطوعة للقيام بكل أعمال البيت طالبة من أختي أن تتفرغ للاستذكار لكيلا يتكرر رسوبها – خوفاً على مصلحتها – وقمت بدور الراهبة التي تتفانى في خدمة الجميع وتضحي بنفسها من أجلهم ، ولمحت فى عيونهم ملامح الإكبار لهذا التصرف ، لكن ذلك لم يردني بكل أسف عن المضي فى تفكيري .

 

لقد أعماني الحقد على أقرب الناس لى ، ووضعت في الطعام الذى طهوته لهم كمية صغيرة من مبيد للصراصير، كررت هذه الفعلة الشنيعة مرتين خلال أسبوع ثم توقفت عنها .

وقد تعتقد أنني قد توقفت عنها لأن ضميري قد استيقظ وأنبني على ما فعلت وقال لى كيف تفعلين هذا بأمك التي حملتك وهنا على وهن ، وأبيك الذي يشقى لإسعادكم وأختك التي تحبك – رغم كل شىء – وتخشى عليك من نسمة الهواء ؟ وبالتالي فقد توقفت عن الاستمرار فى تنفيذ الجريمة .

 

لكن كل ذلك لم يحدث بكل أسف وإنما توقفت عنها بسبب خارجي لا علاقة له بالضمير ، فقد حدث بعد أن وضعت المبيد فى الطعام بأسبوع أن أعددت سمكاً مشوياً لطعام الغداء وكان خالياً بالطبع من السم . وجلسنا جميعاً حول سرير أمي نتناول الغداء ، فإذا بى أشعر بعد قليل من بدء الأكل بأن أحشائي تتمزق .. وبنوبة قيىء شديدة تنتابني وبحالة إعياء وإسهال شديدة تفاجئني ، وإذا بأمي العاجزة عن الحركة تصرخ مولولة ، وتقاوم لتنهض وتسعفني ، وأختي تلطم وأبى يبكى ويجرى مهرولاً لاستدعاء الطبيب، وخلال لحظات كنت فى المستشفى والأطباء من حولي يجرون لى غسيل المعدة ، وأبى يتمزق هلعاً علي  وشقيقتي ترتجف وترفض أن تترك يدي ، وإذا بالطبيب يقول إنني أصبت بالتسمم من السمكة التي أكلتها .. وأنها السمكة الوحيدة الفاسدة من كل وجبة السمك التى اشتريتها للغداء ، وإن أمي وأبى وأختي تناولوا جميعاً السمك معي ، ولم يصب منهم أحد بسوء لأن أسماكهم كانت سليمة وكانت سمكتي وحدي هي المسمومة .

 



 

هذه هي رسالة الاعتراف البشعة التي تلقيتها فى بريدي فأهاجت مشاعري وأثارت ضيقي بأشياء عديدة في الحياة ولكاتبتها أقول :

 

لقد ظلمت نفسك وظلمت أسرتك بهذا التفكير الإجرامي الذي قادك إليه إحساسك بالنقص تجاه شقيقتك الكبرى ، وإحساسك بتمييز أسرتك لها عنك ، وللأسف فإن هذا الإحساس القاتل كثيراً ما يقود الخاضع له إلى سلوكيات انتقامية خطيرة قد تعبر عن نفسها بشكل أخطر فى تصرفات عدوانية إجرامية ضد الآخرين ، وبالذات ضد الأشقاء المميزين والآباء والأمهات .لكن هذه المشاعر وأنت فى سن النضج فهذا هو الجنون بعينه فأنت لو راجعت نفسك بهدوء لعرفت من البداية أن اختصاص أختك بالملابس الجديدة التي ترتدينها أنت بعدها .. هو تصرف اقتصادي بحت تلجأ إليه أسر عديدة بهدف توفير نفقات الملابس فى ظروف الحياة الصعبة التي تواجهها ، ولا يستهدف أبداً تمييز شقيقتك عليك لسبب بسيط هو أنك وشقيقتك فلذتا كبد واحدة ترق لكل منكما بنفس الدرجة ، ولو كانت إمكانات أبيك تسمح له بشراء الجديد لك ولأختك معاً لما تردد لحظة واحدة فى ذلك ، وقد ثبت لك بالتجربة الأليمة وفى وقت المحنة أنك أعز على أبيك وأمك وشقيقتك مما تصورت لك نفسك الشقية.

 

وأما اختصاص أختك بالنداء الرقيق .. واختصاصك بالجفاء والزجر بحجة أن لك أفكاراً خاصة متطرفة ، فلابد أنك واهمة فى ذلك إلى حد كبير ، ومع ذلك فلعلك قد التمست لهما الآن بعض العذر فى سوء ظنهما بأفكارك ، بعد أن أثبت أنت لنفسك مدى (تطرف) وخطورة بعض هذه الأفكار !

ومع ذلك فلكم تخدع المظاهر يا ابنتي .. ولكم يتصور بعض الأبناء ما لا صحة له ولا أصل ؛ بسبب حساسية مريضة وبسبب بعض التصرفات غير المقصودة ، وإن كنت أعتبر التمييز بين الأبناء جريمة لا تقل بشاعة عن جريمتك ، لذلك فإني لا أعفى أباك وأمك من بعض المسؤولية عن هذا الانحراف الخطير فى تفكيرك ، الذي صور لك الأمر وكأنه تمييز بينك وبين شقيقتك ، وقد كان حقاً عليهما أيضاً أن يشعراك دائماً بأنك الابنة المحبوبة المحترمة منهما – رغم كل شىء – وكان حقاً عليهما أن يشعراك دائماً بأن منزلتك فى قلب كليهما مساوية تماما لمنزلة شقيقتك بغير انتظار لمحنة تكشف عن حقيقة المشاعر ، وتفجر ينابيع العطف والحنان في قلبيهما تجاهك ، إذ لماذا يا رب لا نعبر عن حبنا لأعزائنا إلا في الملمات والكوارث ؟

 

والكلمة الطيبة الصادقة ترقق القلب وتلمس المشاعر ونحن فى حاجة إليها دائماً ..وأبنائنا فى حاجة إليها كل حين مهما كبروا ونضجوا ..لقد عجبت كثيراً لتفكيرك الإجرامي فى التخلص من أسرتك لمجرد الإحساس بتميز شقيقتك عليك ..لكنى عجبت أكثر وأكثر من هذه الفكرة الطائشة التى دفعتك إلى هذه الجريمة ..وهى أن تعيشي سعيدة منفردة وأن تتمتعي بالحياة!

فمن الذي أوحى لك بهذه الفكرة الخاطئة من أساسها آنستي ؟ ومن الذي قال لك إنك كنت تعيشين – حتى لو نجوت من عقاب القانون والمجتمع – منفردة سعيدة ويداك ملوثتان بدماء أقرب الناس إليك وأرحمهم بك ، بل من الذي قال لك إن الإنسان يستطيع ، بصفة عامة – حتى بعير جريمة – أن يحيا (وحيداً) منفرداً سعيداً وأن (يستمتع ) بالحياة!

 

أتظنين أن فى الحياة إنساناً يمكن أن يهمه أمرك حقيقة بعد – أمك وأبيك – أسرتك وأهلك ؟ أو بعد أن تفقدي من وصف الشاعر الرسول الكريم نفسه.

فإذا رحمت .. فأنت أم أو أب                  هذان فى الدنيا هما الرحماء!

ألا ترين بعض أصحاب الملايين الذين يحيط بهم الأتباع والمنتفعون من كل ناحية ، وتضج حياتهم بالصخب والمعارف والأصدقاء ، يتلفتون حولهم دائماً بعد أن تنتهي مرحلة الجري وراء المال ، ليلتمسوا لأنفسهم بعض الأهل والأقارب البعيدين لينتسبوا إليهم ، ويقربوهم منهم التماساً لدفء المشاعر الحقيقية ولسان حال بعضهم يقول ( ليتني أستطيع أن أشترى بملاييني عطف أم أو رعاية أب أو حدب شقيق أو فخر قريب بى ) ألم تقرئي أن أرسطو قال قبل فجر التاريخ :   (إذا عشت منفرداً فإما أن تكون حيواناً وإما أن تكون إلها !! فلما جاء فيلسوف القوة وتمجيد البطولة نيتشه بعده بعشرات القرون قال : وإما أن تكونهما معاً ! أى أن فليسوف القوة نفسه قد أيده فى استحالة أن يحيا الإنسان لنفسه وبنفسه فقط .. فماذا عنا نحن ..ونحن من ( فلاسفة) الضعف الإنساني ! الذين نقف فى الحياة نشكو ( أه ) من قلة الزاد .. وبعد السفر ووحشة الطريق على من لا أهل له ولا صحاب !

 

إن الحيوان وحده هو الذي لا يعنيه أن يكون له أهل ولا صحاب .. أما نحن فما أحوجنا إليهم لكي نحتمي بهم من هذه الدنيا القاسية ، وأنت مصابة بانحراف خطير فى التفكير آنستى .. لا أعرف من المسئول عنه ، لكنني أعرف على الأقل أن ضعف الإيمان بالله وابتعادك عنه .. ونسيانك له هو السبب الأول فى هذه المحنة .. وإذا كنت لم أطل الحديث عن جريمتك من الناحية الدينية والخلقية فلأنني اعتبرها فى غير حاجة للمناقشة ، لأن المؤكد أنه لو كان للدين دور ما فى حياتك لما أنقدت أبداً إلى مثل هذه الجريمة البشعة .

 

تسألينني بعد ذلك هل تعترفين لأسرتك بما اقترفت فى حقها وأقول لك : رغم أنى دائماً من أنصار أن يتطهر الإنسان من خطاياه بالاعتراف والتوبة والعمل الصالح والتفاني فى خدمة من أراد بهم السوء . فإني لا أنصحك بالاعتراف لأسرتك بما فعلت .. مفضلاً على ذلك ألا تصدمي مشاعرهم بهذه الجريمة القاسية .. وألا تهزي هذه الروابط الإنسانية التى فطر عليها الإنسان بإطلاعهم على جريمتك ..

فالحق أنى أفضل لهم – من باب الرحمة بهم – ألا يعرفوا ما أردت لهم وهم من ينظرون على كل هذا الحب الفطري لك ، وما أظن أن أية كلمات أو تصرفات يمكن أن تمحو من نفوسهم الأثر البشع لهذه الجريمة إذا ما عرفوا بها ، فدعيهم فى حبهم لك وعطفهم عليك وثقتهم فى سلامة النفس البشرية والعلاقات الأسرية العاطفية ، وكوني أكثر شجاعة من ذلك بالاتجاه إلى أي طبيب فى مدينتك واسأليه عن أثر هاتين الجرعتين من المادة السامة مدعية أنك أنت من تعرضت لتناولهما خطأ .. ونفذي ما ينصحك به من وقاية على أسرتك المحبوبة لأنك لم تحددي لى نوع السم ولا مقداره لكي أستطيع أن أفيدك برأي فى هذا المجال .

 

وكفري عن خطيئتك فى حق أسرتك بالتوبة إلى الله والعودة إليه ، وأداء الفرائض والتقرب إلى الله طلباً لمغفرته وكفري عنها أيضاً بالتفاني فى حب أسرتك وخدمتها وفى حب الآخرين وخدمتهم وكف الأذى عنهم .

ولعل ما حدث لك حين ( اختارتك ) السمكة المسمومة من بين كل السمكات السليمة لكي تأكليها أنت وتعانى آلام التسمم وهلع الموت ، خير إشارة لك ولكل من ينسى أحياناً أن فى السماء إلهاً مطلعاً على السرائر .. وينزل بعقابه العاجل على من يشاء .. ويؤجل العقاب لمن يشاء .. فلقد ( اختارتك ) هذه السمكة المسمومة من بين كل أفراد أسرتك ولم تختاريها أنت لكى يقول لك ربك بالدرس الأليم : ذوقوا ما كنتم بغيركم فاعلين !

 

فلعل فى هذه الإشارة ما يرمز إلى أن الله سبحانه وتعالى قد حماك من نفسك لكيلا تستمري فى ارتكاب جريمتك ، وحمى أسرتك البريئة من وساوس نفسك الأمارة بالسوء ، لكيلا يعرضك لما أردته لنفسك وأسرتك من محنة بشعة . أما اسم الفيلم الذى أوحى إليك بهذه الجريمة .. ومضمون الحلقة الأجنبية التى رسمت لك خطتها فهذا حديث طويل ولا نملك إزاءه إلا أن ندعو الله أن يحمى مجتمعنا من أمثال هذه النوازع الإجرامية .. وأمثال هذا العقوق البشع .. وليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك – وللجميع – خطاياهم وجرائمهم ونوازع نفوسهم الشريرة والسلام !

 رابط رسالة منزل العائلة السعيدة وهي تعقيب كاتبة الرسالة بعد عام

·       نشرت في جريدة الأهرام "باب بريد الجمعة" عام 1986

شارك في إعداد النص / ياسمين عرابي

راجعها وأعدها للنشر / نيفين علي



Neveen Ali
Neveen Ali
كل ما تقدمه يعود إليك فاملأ كأسك اليوم بما تريد أن تشربه غداً
تعليقات